قوة التديّن وقدرة الاستيعاب
جاء في وصية الإمام الصادق لعبد الله بن جندب: «يَا ابْنَ جُنْدَبٍ، إِنَّ لِلشَّيْطَانِ مَصَائِدَ يَصْطَادُ بِهَا، فَتَحَامَوْا شِبَاكَهُ وَمَصَائِدَهُ. قُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ الله، وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَمَّا مَصَائِدُهُ فَصَدٌّ عَنْ بِرِّ الْإِخْوَانِ، وَأَمَّا شِبَاكُهُ فَنَوْمٌ عَنْ قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَرَضَهَا الله، أَمَا إِنَّهُ مَا يُعْبَدُ الله بِمِثْلِ نَقْلِ الْأَقْدَامِ إِلَى بِرِّ الْإِخْوَانِ وَزِيَارَتِهِمْ»[1] .
في تراث أئمة أهل البيت لون من ألوان التوجيه الرسالي، يتمثل في الوصايا المطولة، التي تشتمل على توجيهات تربوية مكثفة، يوجهها كلّ إمام من الأئمة إلى بعض تلامذته وأصحابه، وذلك لتأهيلهم للقيام بدور قيادي في المجتمع.
قد تكون تلك الوصايا ناظرة إلى خصائص الشخص نفسه، أو طبيعة الظرف الذي يعيشه، لكنها ـ من حيث المجمل ـ تمثل وصايا تربوية، لبناء الشخصية الإيمانية القيادية.
وكنموذج من تلك الوصايا، هذه الوصية التي وجهها الإمام الصادق إلى أحد تلامذته وأصحابه المخلصين، وهو عبدالله بن جندب البجلي الكوفي.
والذي تربّى على يد الإمام الصادق ثم صحب الإمامين الكاظم والرضا ، وكان ثقة عندهما ووكيلًا عنهما، ووردت نصوص تمجده وتبيّن شخصيته الفاضلة.
قال علماء الرجال في ترجمته إنه كان محدثاً ثقةً عابداً ربانياً، روى عن عدد من الأئمة .
ونقل الكشي في رجاله أنه سأل الإمام الكاظم : ألست عنّي راضياً؟
قال : إي والله، ورسول الله والله عنك راضٍ[2] .
ذات مرة انتقصه شخص أمام الإمام الكاظم ، فغضب وقال:
ماله ولعبد الله بن جندب؟! إنّ عبدالله بن جندب لمن المخبتين[3] .
قوة التديّن وقدرة الاستيعاب
يؤكد الإمام في وصيته لعبدالله بن جندب في أكثر من فقرة على التوازن بين قوة الشخصية الإيمانية من جهة، والقدرة على استيعاب الآخرين من جهة أخرى.
الإنسان المتديّن القوي الإيمان يعيش في مجتمع بشري، فيه عصاة مخطئون منحرفون، وقد لا يتحمل المؤمن التعامل مع هذه النماذج؛ لأنّ المؤمن بطبيعته شديد النفور من المنكرات، فإذا رأى أشخاصاً يمارسون الذنوب والمعاصي ينزعج ويؤذيه ذلك، وينفر من هذه الممارسات والسلوك.
فما هو الحلّ؟
إنه قد لا يستطيع أن يرفع صوته عالياً أمام المنكرات!
فهل يعتزل المجتمع ويقاطع الناس؟!
أم يعيش حالة (اللامبالاة)؟
لا ينبغي أن يكون الإنسان المؤمن غير مبالٍ أمام المنكرات والمعاصي.
في وصايا الأئمة معالجة متوازنة لهذه الحالة، وكأنها ترسم معادلة (طردية)، (كلما زاد إيمان الإنسان زادت قدرته على الاستيعاب).
أي أن يصبح مرناً مع الآخرين، لا يرضى بالذنوب والمعاصي، وفي الوقت ذاته يشعر بالمسؤولية تجاه المذنبين، فيفكر في إصلاحهم وإنقاذهم، وهذا لا يأتي غالباً عن طريق المقاطعة والابتعاد.
في بعض الحالات قد تكون المقاطعة مؤثرة بشكل إيجابي حين تكون دافعًا لتراجع العاصي عن المعصية، وقد لا تكون مؤثرة على الطرف الآخر، بل تزيده في بعض الأحيان تحدّياً وإصراراً، فهي من أجل التأثير وليست مجرّد موقف نفسي.
فإذا وجد الإنسان أن المقاطعة غير مجدية، هنا يجب أن يبحث عن أسلوب آخر وهو حسن التعامل، ومحاولة الاستيعاب والتوجيه.
قد لا يكون من المناسب أن تواجه هذا العاصي في نقطة المعصية وتصطدم معه، وبالتالي يحدث النفور من الجهتين!
لكن يمكنك أن تستقطبه من منفذ آخر يناسب شخصيته.
حدثني أحد العلماء في أمريكا وهو إمام لأحد المراكز والمساجد، عن سيّدة أكاديمية في الجامعة، لها دور ونشاط في مؤسسته الدينية، أنها كانت ترفض الحجاب وتصرّ على السفور، لذلك لم يكن مُرحباً بها في الوسط الديني، لكن العالم تعامل معها بخلق ورحابة صدر، واقترح على أهلها والقريبين منها أن يقنعوها بالذهاب إلى الحج، فقالوا إنّ الحديث معها غير مجدٍ، فهي ترفض الحجاب، فكيف تقبل أن تذهب إلى الحج؟!
يقول: تحدثت معها بكلام هادئ عن ضرورة الحج وفوائده، فقالت أوافق على الذهاب إلى الحج، لكن ألتزم بالحجاب أيام المناسك فقط!
فلم أعترض على شرطها.
لكنها بعد أن عاشت مع الحجاج أجواء العبادة وأداء المناسك، عادت شخصية أخرى!
والآن لها دور قيادي في المؤسسة الدينية.
أحياناً نجد أحد أبناء المجتمع، من الشباب أو الفتيات، يتجه نحو بعض المعاصي، فهل نقاطعه، أو نقطع الأمل في صلاحه؟!
مثل هذا الموقف قد يجعله يتمادى في المعاصي والذنوب، ويصعب رجوعه كلما توغل في المعصية، والأفضل أن نستوعب أبناءنا، ونراهن على ما في نفوسهم من الخير، فكلّ إنسان يحمل نوازع الخير داخل نفسه كما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[سورة الإنسان، الآية: 3].
لعلّ ما أقدم عليه من ذنب مجرّد نزوة، فعلينا أن نساعده على تجاوزها والخروج منها.
منهج أئمة أهل البيت
كان الأئمة يؤكدون على ضرورة استيعاب الآخرين، والمرونة في التعامل مع المذنبين، كما في وصية الإمام الصادق لعبدالله بن جندب.
في بعض الظروف تصبح المفاسد حالة عامة كتيار جارف يصعب على الإنسان المتديّن أن يقف أمامه، فإذا قرر مقاطعة كلّ من يسير في هذا الاتجاه فسينعزل عن مجتمعه، وبالتالي يقدم أنموذجاً سيئاً لتديّنه!
بينما إذا راهن على منهجية الاستيعاب، واهتم بخلق الأجواء البديلة، وتقديم التوجيه النافع للناس، فقد يكون مؤثرًا في إصلاح مجتمعه.
يقول الإمام الصادق : «يَا ابْنَ جُنْدَبٍ إِنَّ لِلشَّيْطَانِ مَصَائِدَ يَصْطَادُ بِهَا فَتَحَامَوْا شِبَاكَهُ وَمَصَائِدَهُ»
قُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ الله، وَمَا هِيَ؟
قَالَ: أَمَّا مَصَائِدُهُ فَصَدٌّ عَنْ بِرِّ الْإِخْوَانِ، وَأَمَّا شِبَاكُهُ فَنَوْمٌ عَنْ قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَرَضَهَا الله)
يحاول الشيطان بمختلف الطرق أن يبعدك عن أبناء مجتمعك، يصدّك عن برّهم بشتى المبررات، وأحياناً يزين لك الشيطان أنّ الاختلاف في الرأي مبرر للمقاطعة والخصومة!!
هذه مصيدة من مصائد الشيطان.
ثم يضيف الإمام قائلًا: «أَمَا إِنَّهُ مَا يُعْبَدُ اللَّهُ بِمِثْلِ نَقْلِ الْأَقْدَامِ إِلَى بِرِّ الْإِخْوَانِ وَزِيَارَتِهِمْ»
لا توجد عبادة أفضل من زيارة أبناء مجتمعك وإخوانك
«يَا ابْنَ جُنْدَبٍ، لَا تَقُلْ فِي الْمُذْنِبِينَ مِنْ أَهْلِ دَعْوَتِكُمْ إِلَّا خَيْراً»
إذا رأيت مذنبين من أبناء مجتمعك لا تقطع الأمل فيهم، ولا تتحدث عنهم بسوء في المجالس.
بل يقول الإمام : «وَاسْتَكِينُوا إِلَى اللَّهِ فِي تَوْفِيقِهِمْ وَسَلُوا التَّوْبَةَ لَهُمْ»
ينبغي للإنسان المؤمن أن يخصص جزءاً من دعائه لصلاح المذنبين والمنحرفين.
لا تجعل الأحقاد تتسلّل إلى قلبك، بل ادعُ لهم في صلاة الليل وفي مواطن استجابة الدعاء كالحج والزيارة، وهذا يجعل قلبك خالياً من الشوائب، عامراً بمودة الناس وحب الخير لهم.
حدث في عصر النبي أنه «أُتِيَ بِشَارِبٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَضْرِبُوهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنْهُمْ بِيَدِهِ، وَمِنْهُمْ بِثَوْبِهِ، ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعُوا»، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَبَكَّتُوهُ (واجهوه بقبيح فعله)، فَقَالُوا: أَلَا تَسْتَحِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْنَعُ هَذَا؟، ثُمَّ أَرْسَلَهُ، فَلَمَّا أَدْبَرَ وَقَعَ الْقَوْمُ يَدْعُونَ عَلَيْهِ وَيَسُبُّونَهُ، يَقُولُ الْقَائِلُ: اللهُمَّ أَخْزِهِ، اللهُمَّ الْعَنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُولُوا هَكَذَا، ولَكِنْ قُولُوا: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ»[4]
ثم يضيف الإمام الصادق : «يَا ابْنَ جُنْدَبٍ، كُلُّ الذُّنُوبِ مَغْفُورَةٌ سِوَى عُقُوقِ أَهْلِ دَعْوَتِكَ»
الذنوب الأخرى تغفر، لكن لا تقاطع أبناء مجتمعك.
إلى أن يقول الإمام : «يَا ابْنَ جُنْدَبٍ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ وَسَلِّمْ عَلَى مَنْ سَبَّكَ وَأَنْصِفْ مَنْ خَاصَمَكَ وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ كَمَا أَنَّكَ تُحِبُّ أَنْ يُعْفَى عَنْكَ فَاعْتَبِرْ بِعَفْوِ اللَّهِ عَنْكَ أَلَا تَرَى أَنَّ شَمْسَهُ أَشْرَقَتْ عَلَى الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَأَنَّ مَطَرَهُ يَنْزِلُ عَلَى الصَّالِحِينَ وَالْخَاطِئِينَ».
إنّ الله تعالى لا يتعامل مع عباده إلّا بالرحمة واللطف واللين، وعلينا أن نتعامل مع عباد الله باللطف واللين.
هكذا يوجهنا الإمام الصادق وتوجهنا سائر كلمات أهل البيت أن (نجمع بين قوة التديّن والقدرة على استيعاب الآخرين).
ألا نقاطعهم أو ننفر ونبتعد عنهم، بل نسعى من أجل إصلاحهم وهدايتهم عبر الاستيعاب، والاجتذاب بالأخلاق الحسنة الفاضلة، بتقديم النصح والتوجيه المناسب.