الاحتفاء بليلة النصف من شعبان
ورد عَنْ الإمام الصَّادِقِ قَالَ: سُئِلَ الْبَاقِرُ عِنْ فَضْلِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ: هِيَ أَفْضَلُ لَيْلَةٍ بَعْدَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فِيهَا يَمْنَحُ اللهُ الْعِبَادَ فَضْلَهُ، وَيَغْفِرُ لَهُمْ بِمَنِّهِ، فَاجْتَهِدُوا فِي الْقُرْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِيهَا، فَإِنَّهَا لَيْلَةٌ آلَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لا يَرُدَّ فِيهَا سَائِلا مَا لَمْ يَسْأَلِه مَعْصِيَةً[1] .
يكاد يتفق علماء المسلمين سنة وشيعة، على فضل ليلة النصف من شعبان، وأنها تأتي في الفضل بعد ليلة القدر، كما ورد في الرواية الآنفة عن الإمام الباقر ، مع ملاحظة أنّ ليلة القدر مرددة بين عدة ليالٍ، بينما ليلة النصف من شعبان محددة معروفة، مما يحفز على اغتنام هذه الفرصة العظيمة.
لقد ورد في فضلها روايات عن رسول الله ، صحيحة السند عند علماء السنة والشيعة، وهنالك عدد كبير من الروايات تبعث على الوثوق والاطمئنان بأهمية هذه الليلة وفضلها الكبير، حتى وإن لم تصل آحاد تلك الروايات إلى درجة الصحة من حيث السند.
لقد صحح الشيخ الألباني بعض روايات فضل ليلة النصف من شعبان، في كتاب صحيح سنن ابن ماجة، وحتى الشيخ ابن تيمية المعروف بتشدده في مثل هذه الأمور، له كلام في تأكيد فضل هذه الليلة، حيث جاء في مجموع فتاواه في الجزء الثالث والعشرين صفحة 130 و 132: وأما ليلة النصف، فقد روي في فضلها أحاديث وآثار ونقل عن طائفة من السلف أنهم كانوا يصلون فيها، فصلاة الرجل فيها وحده تقدمه فيه سلف وله فيه حجة فلا ينكر مثل هذا.
وأفرد ابن ماجه في سننه باباً تحت عنوان (باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان).
وفي روايات أئمة أهل البيت تأكيد كبير على فضل هذه الليلة، وحث على استثمارها في العبادة والتهجد والدعاء والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
منها ما ورد في الوسائل عن بن فضال قال: «سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا عَنْ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ قَالَ: هِيَ لَيْلَةٌ يُعْتِقُ اللهُ فِيهَا الرِّقَابَ مِنَ النَّارِ وَيَغْفِرُ فِيهَا الذُّنُوبَ الْكِبَارَ، قُلْتُ: فَهَلْ فِيهَا صَلَاةٌ زِيَادَةً عَلَى صَلَاةِ سَائِرِ اللَّيَالِي؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مُوَظَّفٌ، وَلَكِنْ إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَتَطَوَّعَ فِيهَا بِشَيْءٍ فَعَلَيْكَ بِصَلَاةِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَكْثِرْ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنَ الِاسْتِغْفَارِ، وَالدُّعَاءِ، فَإِنَّ أَبِي كَانَ يَقُولُ الدُّعَاءُ فِيهَا مُسْتَجَابٌ»[2] .
وبسنده عَنْ جَعْفَرِ الصَّادِقِ قَالَ: سُئِلَ الْبَاقِرُ عنْ فَضْلِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ: هِيَ أَفْضَلُ لَيْلَةٍ بَعْدَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فِيهَا يَمْنَحُ اللهُ الْعِبَادَ فَضْلَهُ، وَيَغْفِرُ لَهُمْ بِمَنِّهِ، فَاجْتَهِدُوا فِي الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا، فَإِنَّهَا لَيْلَةٌ آلَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لا يَرُدَّ فِيهَا سَائِلا مَا لَمْ يَسْأَله مَعْصِيَةً.
وعن زيد بن علي قال: كان علي بن الحسين يجمعنا جميعاً ليلة النصف من شعبان، ثم يجزئ الليل أجزاء ثلاثة، فيصلي بنا جزءاً، ثم يدعو فنؤمن على دعائه، ثم يستغفر الله ونستغفره، ونسأله الجنة حتى ينفجر الفجر[3] .
ويقول الشيخ المفيد: «وهذه الليلة ـ ليلة النصف من شعبان ـ من الليالي المشرفات المعظمات، اللواتي جعلن علامات لنزول الخيرات والبركات، وروي أنّ أمير المؤمنين لم يكن ينام فيها محيياً لعبادة الله عزّ وجلّ بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن»[4] .
إحياء عبادي
كما يتهيأ الناس لإحياء ليلة القدر، ينبغي أن يتهيؤوا لإحياء ليلة النصف من شعبان، بالعبادة والدعاء والتهجد.
ومن البرامج المناسبة في هذه الليلة، إقامة صلاة جعفر الطيار، وقراءة دعاء كميل، وزيارة الإمام الحسين ، وسائر النوافل والعبادات.
ينبغي أن تتهيأ المساجد لاستقبال هذه الليلة، كما هو الحال في ليلة القدر، وتعلن برامجها، وتشجع المؤمنين على المشاركة في إحياء هذه الليلة العظيمة، ففي السنوات الماضية كانت هناك مبادرات على هذا الصعيد، ولا ينبغي أن تتراجع مثل هذه المبادرات، بل ينبغي التأكيد عليها كل عام، وأن يتواصى المؤمنون فيما بينهم للاستفادة من البركات الروحية والإلهية العظيمة لهذه الليلة المباركة.
ولادة الإمام المهدي (عج)
نصت الروايات الثابتة عند علماء الشيعة أنّ الإمام محمد بن الحسن المهدي عجّل الله فرجه ولد ليلة النصف من شعبان سنة 255هـ.
من أثبت ولادته من علماء السنة
تحدث عن ولادته ووجوده بعض علماء الأنساب وبعض العلماء من أهل السنة، نذكر منهم:
النسابة السيد أبو نصر سهل بن عبدالله البخاري (كان حيًّا سنة 341هـ)، في كتابه (سرّ السلسلة العلوية).
السيد العمري النسابة المشهور من أعلام القرن الخامس الهجري، في كتاب (المجدي في أنساب الطالبيين).
النسابة جمال الدين أحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عِنَبَة (توفى 828هـ) في (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب).
كما ذكره بعض المؤرخين من السنة:
ابن الأثير الجزري عزّ الدين (ت 360هـ) في كتابه (الكامل في التاريخ)، عند ذكره لوفاة والده الإمام الحسن العسكري، في حوادث عام 260هـ.
ابن خَلَّكان (ت 681هـ) في (وفيات الأعيان).
الذهبي (ت 748هـ) في كتابه (العبر) وكتابه (تاريخ دول الإسلام) وكتابه (سير أعلام النبلاء).
ابن حجر الهيثمي (973هـ) في (الصواعق المحرقة)، قال: ولم يخلف ـ الحسن العسكري ـ غير ولده أبي القاسم محمد الحجة: وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة، ويسمى القائم المنتظر. قيل: لأنه سُتر بالمدينة وغاب، فلم يُعرف أين ذهب)
الظهور في آخر الزمان
يكاد يتفق علماء السنة والشيعة على ظهور الإمام المهدي (عج) في آخر الزمان، وأنه من عترة رسول الله ، ومن وِلد فاطمة بالتحديد، فيملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما مُلئت ظلماً وجورًا، لكنهم يختلفون في ولادته.
أهل السنة في المجمل ينفون ولادته، أما الشيعة فإنهم يثبتون ولادته، ويرون أنه موجود غائب عن الأنظار، والمسألة فيها نقاش وتساؤلات وإشكالات، مما يدعو إلى استثمار هذه الليلة للمعرفة العقائدية، والإجابة عن التساؤلات والإشكالات بشكل علمي مقنع، إضافة إلى توضيح مفهوم الانتظار، وبيان وظائف المؤمنين في عصر غيبة الإمام المهدي.
الاحتفاء الاجتماعي
تعيش مناطقنا مهرجانًا شعبيًّا واسعًا، تعمُّ فيه البهجة والسرور، وتتجدد فيه حيوية المجتمع وتماسكه وتلاحمه واعتزازه بهويته.
حيث تفتح معظم البيوت أبوابها، وتقدم الهدايا للأطفال الذين يجوبون الأحياء، ويقفون أمام أبواب البيوت، في مشهد اجتماعي بهيج.
هذه العادة الطيبة التي لها جذورها الدينية والاجتماعية، ينبغي الحفاظ عليها وحمايتها من أيّ تشويه أو تلويث، فكيف نحيي هذه المناسبة بالأسلوب اللائق؟
هناك عدة ملاحظات ينبغي أخذها بعين الاعتبار:
الملاحظة الأولى: تصادف هذه المناسبة المباركة هذا العام ليلة بدأ اختبارات نهاية العام الدراسي لأبنائنا وبناتنا فينبغي رعاية هذا الموضوع، حتى لا يكون الاحتفاء بهذه المناسبة على حساب استعدادهم لأداء الامتحانات.
علينا أن نوفّق بين إحياء هذه المناسبة وتوفير الأجواء لأبنائنا، كي يستعدوا للأداء المناسب، ويحققوا النجاح والتميّز.
أهل البيت يريدون منّا أن نهتم بالعلم، يريدون لأبنائنا أن يكونوا متفوقين متميزين، وسيسرّ أئمة أهل البيت بالأداء المتميز لأبنائنا أيّما سرور.
لهذا لا ينبغي أن يكون الاحتفاء بهذه المناسبة على حساب الاستعداد للاختبار، فينبغي مراعاة الوقت والبرامج.
جميل أنّ بعض المناطق جعلت الاحتفال عصر اليوم الرابع عشر، وهو اختيار مناسب، وينبغي أن يتحلى المجتمع بالمرونة في تطوير عاداته وبرامجه الاجتماعية بما يناسب اختلاف الظروف وتحقيق المصالح.
الملاحظة الثانية: لا بُدّ من التذكير بلزوم رعاية الأحكام والأخلاق والآداب الشرعية، بأن يتم الاحتفاء في أجواء العفة والاحتشام من قبل الشباب والفتيات، نحن نبتهج حينما نرى أبناءنا وبناتنا يحتفون بهذه المناسبة، وأن يكون هذا المهرجان الشعبي الكبير في مختلف الأحياء والشوارع، لكن علينا أن نراعي الأحكام الشرعية، فلا ينبغي التساهل في مراعاة العفة والاحتشام.
هناك بعض العناصر من ذوي النفوس الضعيفة يريدون استغلال هذه المناسبة في تجاوز الأخلاق!
وعلى كلّ عائلة أن تكون يقظة حاضرة مع أبنائها وبناتها، ولا يصح أبداً ترك الفتيات والشباب من دون رعاية، لا بعنوان الوصاية، وإنما من باب الحفاظ على سلامة المناسبة، ومنع التجاوز على الأعراض والأحكام والآداب الشرعية.
الملاحظة الثالثة: تحاول بعض العناصر غير المنضبطة القيام بممارسة مزعجة طائشة كالتفحيط!
وقد أصبحت هذه المناسبة في بعض المناطق وكأنها موعد لمثل هذه الممارسات، وهذا يسبب إزعاجاً ويهدد بوقوع أخطار، ويشوه هذه المناسبة، فلا بُدّ أن يتعاون الأهالي مع القوى الأمنية للحد من هذه التصرفات والممارسات.
وقد رأينا تأثير تواجد القوى الأمنية في ردع مثل هذه التصرفات الطائشة، وإضافة إلى ذلك ينبغي لنا نشر الوعي، وأن تجتهد كلّ عائلة في رعاية أبنائها.
الملاحظة الرابعة: لا بُدّ من الاهتمام بنوعية الهدايا والمواد الغذائية التي تقدم للأطفال والمحتفلين بهذه المناسبة، فينبغي اختيار المأكولات المفيدة، وتجنب الحلويات والسكريات الضارة.
جميل أنّ كلّ أسرة تقدم هدايا خاصة للأطفال، فهو نوع من العطاء والبذل والمشاركة في إحياء هذه المناسبة، ولكن ينبغي أن نهتم بالنوعية المفيدة من الهدايا.
لماذا لا يدخل الكتاب والمواد الثقافية كجزء من الهدايا التي تُقدم؟!
لو أنّ كلّ بيت وزع عشرات أو مئات النسخ من كتاب مناسب للطفال والشباب، لساهم ذلك في تشجيع عادة القراءة والمطالعة، كما أنه يشجع حركة التأليف والنشر.
القصص المفيدة للأطفال والكتب الثقافية يمكن أن تحدث نقلة نوعية في هذه المناسبة، وتحولها إلى تظاهرة ثقافية.