قطيعة الرحم من كبائر الذنوب
﴿وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[سورة النساء، الآية: 1].
ونحن نعيش أجواء شهر رمضان المبارك، حيث نستمطر رحمات الله سبحانه وتعالى، ونتطلع إلى عفوه ومغفرته ورضوانه، فإنّ علينا أن نزيل كلّ الحجب والعوائق التي تمنع وصول رحمات الله إلينا، ومن أهم تلك الموانع والحجب وجود الشحناء والخصومات بين الإنسان وأرحامه وأبناء مجتمعه.
صلة الرحم والأقارب ليس أمراً كمالياً ثانوياً، يرتبط بمزاج الإنسان ورغبته، بل هو أمر إلهي، لا بُدّ للمؤمن أن يلتزم به إذا كان حريصاً على طاعة ربه، فقطيعة الرحم مخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى.
وهذا ما تصرّح به وتؤكد عليه النصوص الدينية من آيات وروايات، يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[سورة البقرة، الآية:27].
ويقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾[سورة الرعد، الآية: 25].
إن قطع ما أمر الله بصلته من موجبات استحقاق اللعنة وسوء الدار!
يقول الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾
كما يأمرنا الله بالتقوى، كذلك يأمرنا باتقاء الأرحام، أي اتقوا قطيعة الأرحام، إلى جانب تقوى الله سبحانه وتعالى.
ورد في صحيح جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِاللهِ عَنْ قَوْلِ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا﴾ قَالَ: فَقَالَ: «هِيَ أَرْحَامُ النَّاسِ، إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَمَرَ بِصِلَتِهَا وَعَظَّمَهَا؛ أَلَا تَرى أَنَّهُ جَعَلَهَا مِنْهُ»[1] .
وفي رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا أنه قال: «وأمر باتّقاء الله وصلة الرحم، فمن لم يصل رحمه لم يتّق الله عزّ وجلّ»[2] .
وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِالله عَنِ الرَّجُلِ يَصْرِمُ [أي يقاطع] ذَوِي قَرَابَتِهِ مِمَّنْ لا يَعْرِفُ الْحَقَّ، قَالَ: «لا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصْرِمَهُ»[3] .
حتى لو كان رحمك غير مسلم، أو على مذهب مخالف لمذهبك، لا يجوز لك أن تقطع هذا الرحم.
وعَنِ صَفْوَانَ، عَنِ الْجَهْمِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ : تَكُونُ لِيَ الْقَرَابَةُ عَلى غَيْرِ أَمْرِي، أَلَهُمْ عَلَيَّ حَقٌّ؟
قَالَ: «نَعَمْ، حَقُّ الرَّحِمِ لا يَقْطَعُهُ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانُوا عَلى أَمْرِكَ كَانَ لَهُمْ حَقَّانِ: حَقُّ الرَّحِمِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ)[4] .
حتى لو كان كافراً، فإنّ أحكام صلة الرحم تنطبق عليه، وإذا قطعته تكون قد قطعت ما أمر الله به أن يوصل.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾[سورة الرعد، الآية: 21].
وهذا يدلّ على أنّ صلة الرحم من مصاديق الخشية من الله، ومن أسباب تجنب سوء الحساب.
وورد عن رسول الله : «لا تَقطَعْ رَحِمَكَ وإن قَطَعَتكَ»[] .
التحريض على قطيعة الرحم
إنّ قطيعة الرحم ليس ذنباً بسيطاً، كما يظنّ البعض، بل هي من كبائر الذنوب الموبقات، ويأتي السؤال هنا: هل يجوز للإنسان أن يأمر أحداً بقطيعة رحمه؟!
قد يتجرأ إنسان على قطيعة رحمه، فكيف يتجرأ على ذنب آخر، هو أمر غيره بالقطيعة؟! إنّ ذلك مصداق للأمر بالمنكر بدل النهي عنه.
هناك من يتجرأ ويأمر الآخرين بقطيعة الرحم! ويحصل ذلك ـ غالباً ـ في موردين:
المورد الأول: النزاعات العائلية
حين يحصل خلاف أو سوء تفاهم بين زوجين، ينبغي أن يبقى في حدوده، فالأبناء وبقية الأقارب محكومون بوجوب صلة الرحم.
لكن المشكلة ـ في بعض الأحيان ـ أنّ كلًّا من الزوجين يمنع أبناءه أو أقاربه من التواصل مع زوجه!
وهو أمر بالمنكر، محرم شرعاً.
وهكذا حين تحصل خلافات بين الإخوة، يسعى بعضهم إلى منع أبنائه من التواصل مع عمهم!
لوجود مشكلة مع أخيك، تأمر أبناءك بمقاطعة عمهم؟!
هذا أمر بالمنكر، وهو خلاف ما أمر الله به أن يوصل.
وهكذا سائر النزاعات والخلافات العائلية. البعض يريد ممن حوله أن يوالوا من والاه ويعادوا من عاداه، وقد يغضب على أبنائه إذا كانت لهم علاقة مع شخص يختلف معه!
فيوقع أبناءه في حرج شديد في كلّا الحالين، إن استجابوا لضغطه أو رفضوا أمره.
المورد الثاني: النزاعات الاجتماعية
حين يحصل اختلاف في الآراء أو التوجهات، يعتمل في نفوس البعض، ويتحول الاختلاف إلى خلاف، وقد يتطور إلى خصومة!!
وهي مشكلة تعاني منها مجتمعاتنا كثيراً، حيث لا يكتفي البعض بالوقوع في هذا الخطأ، بل يسعى لفرض أخطائه على الآخرين.
شخص لديه مشكلة مع آخر، لاختلافه معه في مرجع التقليد أو التوجه الفكري أو السياسي، ويفترض أن ذلك لا يُحدث مشكلة، ولكنها لو حدثت فلتبقى بينهما، ولا يصح توسيع دائرة المشكلة بالضغط على سائر الأقرباء والأصدقاء بمقاطعة الطرف الآخر، وخاصة إذا كان من الأرحام.
إنّ القطيعة بين المسلمين محرمة شرعاً، والأمر بقطيعة الرحم أمر بالمنكر ونهي عن المعروف!!
من جهة أخرى، لا ينبغي الاستجابة لمثل هذه الأوامر، ولو كانت من الوالدين.
لو أنّ أباك طلب منك أن تقطع رحمك فلا يجوز لك أن تستجيب، إلّا أن يكون هناك مبرر
صحيح، كوجود سبب للفساد والانحراف، أما إذا كان لمجرّد الخصومة والنزاع فلا اعتبار له من الناحية الشرعية، فلا يجوز للابن أن يطيع أباه أو أمه في قطيعة الرحم.
خطأ بعض الدعاة
ومن الحالات المؤسفة أن يسعى بعض طلبة العلم لدعوة من يقتنعون بآرائهم لمقاطعة جهات يختلفون معها في رأي أو توجّه!!
إنّ اقتناع الإنسان بأحد طلبة العلم لا يبرر له شرعاً أن يتابعه في نزاعه وخلافه مع غيره، فيقاطع الآخرين لمجرّد وجود اختلاف في الرأي.
إذا كان الله سبحانه وتعالى يقول فيما يرتبط بالعلاقة مع الوالدين: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [سورة لقمان، الآية: 15].
الوالدان المشركان بالله، اللذان يريدان أن يجرّا الابن إلى الشرك، ينهى الله عن إطاعتهما في ذلك، في ذات الوقت يأمر سبحانه وتعالى بصحبتهما بالمعروف.
والقاعدة المعروفة لدى المتشرعة وهي نصّ حديث عن رسول الله : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[6] ، فكيف يجيز الإنسان لنفسه قطيعة رحمه بمبررات واهية؟!
إنّ شهر رمضان الكريم وأيامه المباركة تتيح لنا أفضل الفرص لتجاوز هذه الحواجز والعوائق، خاصة على مستوى العلاقات الزوجية والخلافات العائلية.
حتى لو أنّ رجلاً انفصل عن زوجته، ليأخذ كلّ واحد منهما طريقه، دون البقاء على الخصومة والعداوة، حتى لا تترك آثارها وانعكاساتها على الأبناء.
إنّ كلّ المبررات لا تجيز للمؤمن أن يدخل في نزاع أو خلاف مع عائلته.
حين يحصل الاختلاف حول الإرث على سبيل المثال، هل تستحق المكاسب المادية أن يحرم الإنسان نفسه من التأهل إلى عفو الله ومغفرته في هذا الشهر الكريم؟!
خلافات حول الإرث تبقى سنوات، فتحرم الإنسان من عفو الله ومغفرته، والواقع أن هذا مما يسوّل به الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، فيكابر الإنسان ويمتنع عن التواصل مع أسرته بداعي عزّة النفس وكرامتها!
والواقع أنّ التنازل والعفو مما يرفع قدر الإنسان ومكانته في الدنيا والآخرة، ويؤهله إلى عفو الله ومغفرته، وأيّ مكسب أكبر من هذا؟!
وفي الحديث عن رسول الله : «صِلْ من قطعك، واعفُ عمّن ظلمك، وأعطِ من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك»[7] .
الإنسان الذي يستجيب لأمر الله ويعتذر إلى الآخرين، ويبدأ التواصل معهم وإن قطعوه، يكون قد استجاب لأمر الله تعالى.