الالتزام الديني والأجواء المفتوحة
ورد عن رسول الله أنه قال: «ملاك الدين الورع»[1]
وفي حديث آخر عنه : «رأس الدين الورع»[2]
قد يلتزم الإنسان بحكم شرعي أو سلوك أخلاقي؛ لأن القانون والنظام يفرض عليه ذلك، كما يقول المثل العربي المعروف «مكرهٌ أخاك لا بطل»، وهو مثل يضربونه لمن يبرز للقتال دون شجاعة منه، لكنه مجبر لمبارزة الطرف الآخر.
وهي درجة من درجات الخير، في مقابل من يخالفون النظام ويتحايلون على القانون.
وقد يعيش الإنسان في بيئة اجتماعية تسودها الأجواء المحافظة والالتزام الديني، فيلتزم دينياً وأخلاقياً بدافع التكيف مع الجوّ الاجتماعي؛ لأنّ مخالفته لعادات وأعراف المجتمع تكلّفه شيئاً من سمعته، وهذه أيضاً درجة من درجات الخير، في مقابل من يتمردون على الأجواء الصالحة التي يعيشون ضمنها، ويتجرؤون على المجاهرة بالمعاصي.
وقد لا تكون المعصية متاحة أمام الإنسان، فيكفُّ عن المعصية بالمعنى المجاز، فهي غير متاحة له، ولا يتمكن من ارتكابها، وهذه درجة من درجات الخير. كما ورد عن علي : «من العصمة تعذّر المعاصي»، أي إنها درجة من درجات العصمة بالمعنى اللغوي.
البعض يستهجن ويتعجب حين يسمع عن بعض الوزراء أو المسؤولين في بعض الحكومات الذين يستغلون نفوذهم وسلطتهم ويسرقون من خزينة الدولة وأموال الشعب!!
ولو سأل الواحد منّا نفسه: لو كانت هذه الفرصة متاحة لي، هل كنت أمتنع عن ذلك؟! هنا يكون التحدي.
في إحدى محاضرات الشهيد السيد محمد باقر الصدر حول الإمام الكاظم ، وهي موجهة لطلبة العلم، يتساءل ويقول: (نحن نقول بأننا أفضل من هارون الرشيد، أورع من هارون الرشيد، أتقى من هارون الرشيد، عجباه! نحن عرضت علينا دنيا هارون الرشيد فرفضناها حتى نكون أورع من هارون الرشيد؟!
يا أولادي، يا إخواني، يا أعزائي، يا أبناء علي، هل عرضت علينا دنيا هارون الرشيد؟!
لا.. عرضت علينا دنيا هزيلة، محدودة، ضئيلة، دنيا ما أسرع ما تتفتت، ما أسرع ما تزول، دنيا لا يستطيع لإنسان أن يتمدد فيها كما كان يتمدد هارون الرشيد، هارون الرشيد يلتفت إلى السحابة يقول لها أينما تمطرين يأتيني خراجك، في سبيل هذه الدنيا سجن موسى بن جعفر ، هل جربنا أن هذه الدنيا تأتي بيدنا ثم لا نسجن موسى بن جعفر؟ جربنا أنفسنا، سألنا أنفسنا، طرحنا هذا السؤال على أنفسنا، كلّ واحد منّا يطرح هذا السؤال على نفسه، بينه وبين الله. إنّ هذه الدنيا، دنيا هارون الرشيد كلفته أن يسجن موسى بن جعفر، هل وضعت هذه الدنيا أمامنا لكي نفكر بأننا أتقى من هارون الرشيد؟!)[3]
فهذه حالات ثلاث تدفع الإنسان لترك المعصية والانحراف:
عدم توفر إمكانية فعل المعصية.
وجود القانون الرادع.
التكيف مع البيئة الاجتماعية.
وقد كانت مجتمعاتنا الإسلامية المحافظة سابقاً تتوفر على هذه الأمور بدرجات متفاوتة، لكن هذه العناصر الثلاثة بدأت تضعف وتتلاشى في كثير من المجتمعات الإسلامية.
لم يعد القانون يرى نفسه معنياً بمراقبة القضايا الأخلاقية والشرعية، وأصبحت البيئة الاجتماعية تعيش حالة من الانفتاح على أنماط وألوان من السلوكيات والثقافات والإغراءات المختلفة، كما أنّ إمكانية الوصول إلى المعاصي أصبحت متاحة، مع توفر الفرص والوسائل.
الرهان على المناعة الذاتية
بقي الرهان على وعي الإنسان وإرادته، هذا هو الخيار والرهان الأساس لمن يهتم بالالتزام الديني.
كثير من المتدينين يزعجهم أن يروا بعض المنكرات، أو يروا التساهل القانوني تجاه بعض المخالفات، ولكن علينا أن نلحظ تغير الوضع العالمي وتأثيره على مجتمعاتنا المحلية، فعلينا أن نتجه إلى الأسلوب المتاح والأمثل، وهو الرهان على تنمية الوعي والإرادة في نفس الإنسان، فهذا ما يحصنه عن الوقوع في المعاصي والانحرافات.
البعض يظنّ أنّ هذا القول مثالي، فإذا توفرت الإغراءات، وكانت الأجواء مفتوحة، ولم تكن هناك روادع قانونية، فكيف نحصن الناس؟ وهل يكفي التوجيه والمحاضرات؟!
إنها لا تجدي نفعاً!!
لكننا نجد تجمعات دينية إيمانية تعيش في مناطق مفتوحة في العالم كأمريكا وأوروبا، تتوفر فيها المعاصي والإغراءات وتسمح بها الأنظمة والقوانين، ومع ذلك يلتزم المتدينون هناك بدافع ذاتي.
وهو دليل على أنّ الإنسان إذا أراد الالتزام يستطيع ذلك، مهما كانت الإغراءات، صحيح أنه يحتاج إلى درجة أكبر من مجاهدة النفس، وترويض الأهواء والشهوات، وهو ما ينبغي أن نعمل من أجل تحقيقه.
القرآن الكريم يقدم لنا نموذج نبي الله يوسف ، وهو شاب في مقتبل العمر، يعيش في بيت تتوفر فيه أعلى درجات الرفاهية والإغراءات، وزوجة عزيز مصر تدعوه إلى نفسها، لكنه يمتنع ويأبى.
إنّ القرآن الكريم يبرز هذا المثل، حتى يقول لنا: إنّ الإنسان يستطيع أن يصل الى هذا المستوى،
يقول تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾[سورة يوسف، الآية: 23].
ونجد مثل هذه الصور في حياة الأنبياء والأئمة، وكلّنا قد سمع الكلمة الخالدة لأمير المؤمنين علي : «واللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا - عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُه»
قد يقول البعض: إنّ هؤلاء أئمة وأنبياء!!
ونقول: هناك أناس عاديون قاوموا الإغراءات والمعاصي، وبين فترة وأخرى نقرأ في الصحف أنّ عاملاً كادحاً فقيراً يجد مبلغاً من المال، فلا يستسيغ أخذه، بل يبحث عن صاحبه، وأنّ صاحب سيارة أجرة ضعيف الحال ينسى بعض الركاب في سيارته أشياء ثمينة، بإمكانه مصادرتها، لكنه يتعفف عن ذلك ويسلمها للشرطة، نجد مثل هذه العناصر الطيبة في بلادنا ومختلف دول العالم.
لا بُدّ لنا أن نراهن في هذا الزمن على إرادة الإنسان، وتعزيز الوازع الديني في نفسه.
فجوهر الدين يتمثل في تنمية إرادة الإنسان وخلق المناعة الداخلية في نفسه تجاه الإغراءات والمعاصي، كي يلتزم أخلاقياً وقيماً، وحسب التعبير الديني يتصف بالورع، وهو (الكف والانقباض) أمام المعصية، ونجد في القضايا الصحية خير مثال على (النفور الداخلي)، إذا وجد الإنسان طعاماً لذيذاً يحتوي على الميكروبات أو القذارة، فإنّ نفسه تنفر منه ولا تقبل عليه، حتى وإن كان شكله ومنظره جذاباً.
وحديث رسول الله يقول: «ملاك الدين الورع» أي جوهره ومحوره، وفي حديث آخر عنه : «رأس الدين الورع».
وجاء عن رسول الله : «مَن لَم يَكُن لَهُ وَرَعٌ يَرُدُّهُ عَن مَعصيَةِ الله تعالى إذا خَلا بها لَم يَعبَأِ الله بسائرِ عَمَلِهِ»[4] .
وورد عن الإمام علي : «إنَّما الوَرَعُ اَلتَّحَرّي فِي المَكاسِبِ، وَالكَفُّ عَنِ المَطالِبِ»[5] .
اعتقال مسنة عمرها (104) أعوام
نشرت الصحف عن امرأة مسنة في بريطانيا عمرها حوالي مئة وأربع سنوات، اتصلت بالشرطة، تطلب اعتقالها، فطوال حياتها لم ترتكب مخالفة، وتتمنى أن ترى نفسها في صورة من يخالف النظام! قالوا لها: وما المطلوب؟!
قالت: تأتون وتعتقلوني وكأني مخالفة.
وقد لبت الشرطة رغبتها، وأرسلوا سيارة واعتقلوها، في جو من الفكاهة والضحك!![6] .
يجب أن يراهن الإنسان على الوصول إلى مستوى المناعة من ارتكاب الأخطاء، ليس فقط في الأمور الدينية (المحرمات والمعاصي)، بل حتى في المخالفات القانونية كأنظمة المرور وقضايا البيئة والنظافة، وما يخالف الذوق العام.
لا ينبغي أن يلزمك أحد حتى تراعي الذوق العام، ينبغي أن يكون لديك وعي متحضر وإدراك بحيث تندفع بذاتك نحو الالتزام، ومراعاة الأنظمة والقوانين.
وقد خطب رسول الله متحدثاً عن فضائل شهر رمضان فقام أمير المؤمنين علي ، وقالَ: يَا رَسُولَ الله، مَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ؟
فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْوَرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)[7] .
أن ينمّي الإنسان في نفسه هذه الملكة، وهي الرسالة العميقة للصوم كما يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ هذه هي الحصانة والمناعة الداخلية.