الطموحات الكبيرة والفرص الممكنة
روي عن الإمام الصادق أنه قال: «اقنَعْ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ، وَلاَ تَنْظُر إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِكَ، وَلاَ تَتَمَنَّ مَا لَسْتَ نَائِلَهُ»[1] .
التطلع إلى الأعلى والطموح إلى الأفضل ميزة إنسانية إيجابية، بها يطور الإنسان حياته، ويحقق إنجازات التقدم.
هذه الميزة تنبثق من ثلاث نعم كبيرة أغدقها الله تعالى على الإنسان، وهي:
أولاً: القوة العقلية، وبها يتمكن الإنسان من التفكير والتخيل، فالطموح نتيجة تخيل الإنسان وتفكيره.
ثانياً: القدرة النفسية، حيث يتمتع الإنسان بقوة الإرادة والعزم، وينطوي على مواهب وطاقات وكفاءات في أعماق نفسه.
ثالثاً: الطبيعة التي سخرها الله تعالى للإنسان، بما فيها من خيرات وثروات.
من أرضية هذه النعم الكبيرة تحصل لدى الإنسان حالة التطلع الطموح، وهي الميزة التي تفتقدها سائر المخلوقات، حيث تبقى تراوح مكانها ضمن حياة غريزية رتيبة لا تتغير ولا تتطور.
أما الإنسان فتتطور حياته وتتغير، بميزة الطموح، فلا يكتفي بما يحقق من إنجازات ويتطلع دائماً للمزيد.
الذكرى السنوية الخمسون للوصول إلى القمر
وقد احتفل العالم هذا الأسبوع بالذكرى السنوية الخمسين لهبوط أول إنسان على سطح القمر، بتاريخ 20 يوليو 1969م، حيث حطت مركبة (نيل ارمسترونغ) و (بز ألدرن) على سطح القمر.
وقد تطلب ذلك مشاركة حوالي (400 ألف) شخص من المهندسين ومبرمجي الكمبيوتر، إلى الخياطين الذين صنعوا البذلات الفضائية العازلة للهواء.
نتيجة هذه الجهود المنبثقة من طموح الإنسان تحقق هذا الإنجاز الكبير، وكلما كان الإنسان أكثر تطلعاً وطموحاً كان أقدر على الإنجاز والتقدم، بشرط مهم وهو السعي والحركة والعمل، فالطموح الذي لا يصحبه بذل جهد ونشاط، ولا تحمّل تعب وعناء، لا يؤدي إلى التقدم، بل يتبخر كالسراب!
يقول الله تعالى: ﴿أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى﴾ بمجرد أن تتمنى هل تحصل على ما تمنيت؟!
كلا، ثم تجيب الآية الأخرى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾.
وفي الشعر المنسوب للإمام الشافعي:
بقدرِ الكدِّ تُكتسبُ المَعالي
ومَنْ طَلبَ العُلا سَهرَ الليالي
ومنْ رَامَ العُلا مِنْ غَيرِ كدٍّ
أضاعَ العُمر في طَلبِ المُحال
تَرومُ العزَّ ثُم تنامُ ليلاً
يَغوصُ البَحر من طلبِ اللآلي
إذاً الطموح والتطلع يحتاج أن يواكبه عمل ونشاط وحركة وسعي وتحمّل.
حقيقتان مهمتان
هناك حقيقتان يجب أن يلتفت إليهما الإنسان الطموح:
الحقيقة الأولى: أنّ الطموحات الكبيرة تحتاج إلى نفس طويل، وصبر وإعداد، فمن يتعجل تحقيق الطموحات من أول محاولة، ولا يتحمّل وجود صعوبات وعراقيل، فإنه لا يصل إلى طموحه.
وكلما كان طموح الإنسان أكبر احتاج إلى نفس أطول، وكان بحاجة إلى تحمّل للصعاب والعراقيل وتجاوز العقبات التي تعترض طريقه.
الحقيقة الثانية: هناك ظروف تفرض نفسها على الإنسان، وتحول بينه وبين بعض طموحاته، فليس كلّ ما يطمح إليه الإنسان يتمكن من تحقيقه، فقد تعترضه ظروف قاهرة، وهنا على الإنسان ألّا يتراجع وألّا ينكفئ، بل يُعدّل مسارات طموحه، بأن يختار طرقاً وخيارات أخرى، فلا يجعل نفسه أمام خيار وحيد.
مشكلة بعض الطموحين والمتطلعين أنه يجعل نفسه أمام خيار وحيد!!
على الإنسان أن يجعل أمامه عدة خيارات وأن يهيئ نفسه إلى تعديل مسارات طموحاته، يقول المتنبي:
مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْركُهُ
تَجْري الرّيَاحٌ بمَا لَا تَشْتَهي السُّفَنُ
وهذه هي القراءة المشهورة بضم السين (السُّفَنُ) جمع سفينة، وعدم اشتهاء السفن معنى مجازي، أما القراءة الأخرى فهي (السَّفَنُ) بفتح السين، أي القبطان الذي يقود السفينة.
إنّ من يجعل أمامه خياراً وحيداً، حين تعاكسه الظروف يصاب بإحباط، يفسد عليه حياته، وقد يؤدي به إلى الكآبة، أو يصاب بمختلف الأمراض والعقد النفسية، وقد يندفع نحو الإجرام أو الانتحار، أو يسلك طريقاً غير مناسب لتحقيق طموحاته!!
هناك من الأشخاص من يكون لديهم طموح وتطلع، فإذا ما تعقدت أمامهم الظروف، تتحطم حياتهم ونفسياتهم!
والصحيح هو تعديل مسار الطموح والبحث عن أفضل الفرص المتاحة والممكنة، ولعلّ هذه الفرصة الممكنة توصلك فيما بعد إلى طموحك الأول، بل ربما توصلك إلى أفضل مما كنت تفكر فيه.
وقد وجدنا بعض الأشخاص يفكر في خيار، ويرى الظرف معاكساً له، فيتمزق ويتألم، فيُطرح أمامه خيار آخر، ويتردد في قبوله، وبعد أن يرضى بالخيار الثاني يكتشف أنه الأفضل، ويفتح أمامه خيراً كثيراً، ولعلّ هذه الحقيقة هي ما يشير إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بقوله: «كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو»[2] . فالطريق الذي لم تكن ترجوه لتحقيق طموحك، لعلّه هو الذي يوصلك إلى طموحك أفضل وأسرع من الطريق الذي كنت تفكر فيه.
النصوص الدينية ترشد الإنسان إلى عدم الاندفاع نحو طموحاته بصورة تصيبه بالإحباط عند عدم تحقق مراده. وإنما عليه أن يقبل بأفضل الفرص المتاحة، وهذا هو مفاد النصوص التي تتحدث عن القناعة «اقبل بما قسم الله لك» فإنها لا تريد أن تُخضع الإنسان دائماً للأمر الواقع، بل تعالج حالة الطامحين الذين تعاكسهم الظروف، بأن يصححوا المسارات، مع التمسك بالطموحات والتطلعات.
ومن هذه النصوص الرواية الواردة عن الإمام الصادق : «اقنَعْ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ، وَلاَ تَنْظُر إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِكَ».
اغتنم أفضل الفرص المتاحة أمامك، ولا تنظر إلى ما عند غيرك، فظروف الأشخاص واستعداداتهم ومواهبهم تختلف، فعليك أن تنطلق من كفاءتك وقدراتك والظروف المتاحة أمامك، «وَلاَ تَتَمَنَّ مَا لَسْتَ نَائِلَهُ» ما دامت هناك عوائق تمنعك من الوصول إليه، فلا تعش ضغطا نفسيا يدفعك إلى الطرق الضارة، ويؤدي بك إلى الحياة النكدة.
اختيار التخصص الجامعي
في نهاية كل سنة دراسية يعيش أبناؤنا وبناتنا الخريجون من المرحلة الثانوية مستلزمات التسجيل الجامعي وتحصيل المقاعد الجامعية، ولكلّ واحد منهم تطلعاته وطموحاته.
وفي الغالب يضع كلّ واحد منهم أمامه خياراً معيناً يريد تحقيقه، وهي حالة طبيعية، لذلك ينبغي التنويه والتذكير بالملاحظات المهمة التالية:
أولًا: في اختيار التخصص الجامعي لا بُدّ من مراعاة أمرين:
أ/أهمية التخصص وحاجة سوق العمل.
أن يسأل الطالب نفسه: هل التخصص الذي أرغب فيه، مطلوب في سوق العمل؟
هل ستكون الفرص الوظيفية متاحة؟
هذه مسألة يجب أن يراعيها الطالب، فلا يكون اختيار التخصص أو الجامعة متوجهاً إلى عامل الراحة والسهولة، أو قرب موقع الجامعة.
ب/لا بُدّ من توفر استعدادات الطالب ورغبته في التخصص الذي يختاره، فإذا مأخذ تخصصاً يعرف سلفاً أنه غير منسجم مع رغبته، لكنّ الجوّ العام في المجتمع يدفعه إلى ذلك، أو لأنّ العائلة يرغبون له في اختيار معيّن، فإن ذلك قد يسبب له إرباكاً في مسيرته الدراسية!!
وقد رأينا طلاباً قطعوا شوطًا في الدراسة ضمن تخصص معيّن ثم اضطروا إلى تغيير تخصصهم، وذلك لأنهم وجدوا أنفسهم أمام مواد بعيدة كلّ البعد عن قدراتهم ورغباتهم!
والمفروض أن يختار الطالب التخصص عن وعي ومعرفة بمدى موافقته لرغبته وقدرته.
ملتقى التخصصات الأكاديمي
أغتنم الفرصة هنا للإشادة بملتقى التخصصات الأكاديمي (مستقبلي)، هذا البرنامج الجميل الرائع الذي يقام في القطيف كلّ سنة، وأقيم هذه السنة في نسخته الثالثة عشرة، بجهود أكثر من ثلاث مئة متطوع ومتطوعة في مختلف التخصصات الأكاديمية، وفي هذا العام حضر الملتقى واستفاد منه أكثر من خمسة آلاف طالب.
ويطّلع الخريج من الثانوية في هذا الملتقى على مختلف التخصصات والجامعات، وما يستلزمه كلّ تخصص، وظروف الدراسة لكلّ تخصص، مما يساعد الطلاب والطالبات على حسن اختيار تخصصهم في دراستهم الجامعية.
ثانياً: على الطالب أن يهيئ نفسه لقبول الخيارات البديلة من حيث التخصص والجامعة التي يلتحق بها.
فلا يجعل نفسه أمام خيار واحد، بل يأخذ بأفضل الفرص الممكنة، إذا تعذّر عليه الخيار الأول.
أنه لا داعي لأن يصاب الطالب بالاكتئاب والانكسار إذا لم يحصل على التخصص الذي يرغب فيه، بل يقبل بأقرب تخصص إلى رغبته وطموحه، وفيما بعد ربما يستطيع الانتقال إلى رغبته.
بل حتى الطلاب الذين لا تتاح لهم فرصة الدراسة الجامعية، وأتيحت لهم فرصة للحصول على (الدبلوم) عليهم ألّا يفوّتوا الفرص، ويواصلوا الدراسة بكلّ جدٍّ كي يبلغوا أهدافهم.
من جهة أخرى، فإنّ التخصصات الفنية المهنية واعدة ومفيدة، وكم من شخص قبل بالدبلوم ثم أتيحت له فرصة المواصلة إلى (البكالوريوس)، وهناك من استطاع أن يحوّل مساره المهني إلى مشروع عمل خاص، وأصبح وضعه أفضل من أقرانه وزملائه الذين اختاروا التخصصات العلمية الأخرى.
إذاً.. كلّ إنسان يجب أن ينطلق من قدراته ورغباته ومن ظروفه.
ثالثاً: على الأسرة أن تأخذ الموقف الواعي، بتحفيز أبنائها وبناتها إلى الأفضل، مع مراعاة رغباتهم وقدراتهم، وبذل الجهد لمساعدتهم، وحين لا يجد الطالب مبتغاه الأول، فعلى الأسرة أن ترفع معنوياته، ولا تشكل عليه ضغطاً، بل تشجعه لاختيار أفضل الفرص الممكنة، وحتى تحين الفرص المحتملة مستقبلاً.
أحياناً تشكل الأسرة والمجتمع على الطالب عامل ضغط؛ لأنه لم يستطع الحصول على (البكالوريوس) أو (الدبلوم) وتنصب عليه عبارات اللوم والتوبيخ، وهذا خطأ كبير!!
يجب أن تقف الأسرة مع أبنائها وتحفزهم على التطلع للأفضل، وحينما تعاكسهم الظروف، ينبغي الوقوف إلى جانبهم نفسياً ورفع معنوياتهم وتشجيعهم على الاستفادة من الفرص الممكنة والدعاء لهم ليوفقهم الله تعالى لمستقبل أفضل.