المبادرة للحج
﴿وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 97].
لا تخلو معظم الديانات من ظاهرة الحج، وهي قصد وزيارة لمكان يعتبر مقدساً عند تلك الديانة وعند أتباعها، إما للتقرب إلى الله وفق اعتقادهم، أو للتبرك بالمكان المقصود، وطلب قضاء مختلف حاجاتهم الدنيوية والأخروية في فنائه المقدس وفق معتقداتهم.
لكن الحج في الإسلام ليس مجرّد رحلة طقوسية كما في سائر الديانات، بل يمتاز بأبعاده الروحية والتربوية والثقافية:
فهو رحلة في أعماق النفس والروح قبل الزمان والمكان، حيث يتوجه الإنسان إلى داخل ذاته لتطهيرها من رواسب الشرك والكبر والأنانية والتمحور حول المادة، ولتعزيز روح العبودية لله والخضوع لأوامره، والالتزام بقيم الدين، فمن خلال الحج يتربى الإنسان على تمثّل تلك القيم والمبادئ.
والحج رحلة في عمق الزمن والتاريخ؛ لأنها تمثل حالة من الارتباط بالمسيرة الإلهية التاريخية، من خلال التفاعل مع مسيرة الأنبياء والأولياء، حيث يقصد الحاج البيت الذي أقامه نبي الله إبراهيم الخليل الحرام بمساعدة ابنه إسماعيل.
كما يقول تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [سورة البقرة، الآية: 127].
وهناك يصلي الحاج في المكان الذي صلى فيه نبي الله إبراهيم الخليل 
﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [سورة البقرة، الآية: 125]، ويسعى في ذات الطريق الذي سعت فيه (هاجر) أم نبي الله إسماعيل، ويطوف بالكعبة التي أزال النبي محمد 
عن ظهرها أصنام الشرك والوثنية.
كما أنه رحلة في عمق المكان، حيث يزور المسلم المكان الذي ولد فيه رسول الله ، والذي بعث ونزل عليه فيه الوحي، وانطلقت منه دعوة الإسلام، وتكونت فيه أمة المسلمين، وارتفعت راية الحضارة الإسلامية من ربوعه.
في الحج يتذكر الإنسان المسلم كيف بدأ رسول الله دعوته، وكيف واجه الصعاب والعقبات، وكيف خاض الحروب والمعارك، وكيف اضطر إلى الهجرة ثم عاد فاتحاً منتصراً إلى مكة.
وهكذا يكون الحج بهذه المثابة رحلة في عمق الروح والزمان والمكان، والحج بعد ذلك رحلة تربوية تربي الإنسان على الالتزام بمكارم الأخلاق، حيث يتقيد أثناء مناسك الحج بالضوابط الأخلاقية في تعامله مع الآخرين، يقول تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ﴾[سورة البقرة، الآية: ١٩٧].
هكذا يكون الحج رحلة تربوية وتدريبية على الالتزام بالدين والأخلاق الفاضلة، ومن جهة أخرى هو تأكيد للانتماء إلى هذه الأمة العريضة الواسعة، حيث يلتقي المسلم بأبناء أمته وأهل دينه، من مختلف البقاع والأصقاع، يعيشون معاً، ويؤدون مناسك موحدة، في مكان وزمان واحد، تحت شعار واحد، وهو الاستجابة لله (لبيك اللهم لبيك).
ويؤكد القرآن على أنّ الحج يمثل حالة من الاندماج في الأمة، ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
لكلّ هذه الحكم والمقاصد أوجب الله تعالى هذه الفريضة على الإنسان مرة واحدة في العمر، ودعاه إلى تكرارها استحبابًا كلما أتيحت له الفرصة يقول تعالى:
﴿وَلِله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ هذا حق لله واجب مفروض عليك أيها المسلم.
﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ من تمكن واستطاع فإنه مكلّف بذلك.
﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ سياق الآية يفيد أنّ ترك هذه الفريضة استخفافاً بها، وتمرداً على مُشرّعها، يعتبر في مقام الكفر بالله سبحانه.
الحج واجب فوري
حين تتوفر الاستطاعة للإنسان عليه أن يبادر لأداء هذه الفريضة العظيمة فوراً، فوجوب الحج فوري في السنة التي يستطيع فيها الإنسان، والمقصود هنا (حجة الإسلام) وهي مرة واحدة في العمر، في أول سنة تتوفر له الاستطاعة.
إنّ في مجتمعنا كثيرًا من الشباب والفتيات تتوفر لهم ظروف الاستطاعة، لديهم دخل وإمكانات، لكننا نلحظ أنّ بعض الشباب مع توفر ظروف الاستطاعة يتعاملون مع الحج وكأنه واجب موسّع، فهناك من يقول: سأذهب للحج، لكن ليس في هذه السنة، وإنما بعد خمس سنوات، بعد الانتهاء من الجامعة!
وهذا لا يصح، فإنه إذا توفرت الاستطاعة تجب المبادرة فوراً لأداء فريضة الحج، ولو خالف وأخَّر يجب عليه في السنة المقبلة، لكنه يكون عاصياً آثماً، بل هناك روايات تعتبر التأخير ذنبًا من الذنوب الكبيرة، كما أشار إلى ذلك بعض الفقهاء ومنهم السيد اليزدي في العروة الوثقى، حيث يقول ما نصه: (لو خالف وأخَّر مع وجود الشرائط بلا عذر يكون عاصياً بل لا يبعد كونه كبيرة)
أي إنّ ذلك ليس مجرّد ذنب صغير، وإنما هو كبيرة من الكبائر، خاصة إذا كان يحمل مضمون الاستخفاف بهذه الفريضة.
ورد عن رسول الله : في وصيته لعلي : يَا عَلِيُّ تَارِكُ الْحَجِّ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ كَافِرٌ يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ﴾.
وجاء عن الإمام الصادق : «إِذَا قَدِرَ الرَّجُلُ عَلى مَا يَحُجُّ بِهِ ثُمَّ دَفَعَ ذ لِكَ وَلَيْسَ لَهُ شُغْلٌ يَعْذِرُهُ بِهِ فَقَدْ تَرَكَ شَرِيعَةً مِنْ شَرائِعِ الْإِسْلَامِ»[1] .
وورد عنه : وَمَنْ تَرَكَ فَقَدْ كَفَرَ، وَلِمَ لاَ يَكْفُرُ وَقَدْ تَرَكَ شَرِيعَةً مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلاَمِ)[2] .
يَا عَلِيُّ مَنْ سَوَّفَ الْحَجَّ حَتَّى يَمُوتَ بَعَثَهُ الله ـ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا[3] .
هذا الذي يسوّف الحج وهو شاب متمكن، لديه قدرة مالية، وظرفه مساعد لكنه يرى نفسه في مقتبل العمر، والمستقبل أمامه. عليه أن ينتبه إلى أنّ الأعمار والآجال بيد الله، والموت لا يرتبط بمرحلة عمرية معينة، حيث لا يستطيع الإنسان أن يضمن وجوده، وما دام قد وجب عليك الحج هذا العام وأنت مستطيع فعليك أن تبادر، فإنك لا تضمن ظروفك لعلك في السنوات المقبلة لا تتمكن لوجود عائق أو ظرف يمنعك.
في بعض السنوات تكون العطلة الصيفية ضمن أشهر الحج، وبعض الشباب يسافرون في رحلات سياحية ويؤجلون رحلة الحج وهذا خطأ كبير.
أبنائنا وبناتنا في هذا العصر أحوج ما يكونون إلى الحج؛ لأننا نعيش في عصر كثرت فيه عوامل إضعاف الروح الدينية والالتزام الديني.
وحينما يذهب الشاب إلى الحج تتعزز الحالة الدينية في نفسه، وهذا عامل مساعد على الالتزام الصلاح.
إنّ كثيراً ممن توفقوا للحج عادوا وهم أكثر التزاماً واقتناعاً بالدين، من خلال مناسك الحج وأجوائه الروحية التربوية.
إذا كنا نريد لأبنائنا وبناتنا أن يكونوا أكثر التزاماً بالدين، فعلينا أن نشجعهم على أداء فريضة الحج العظيمة.
وإذا لم تتوفر إمكانية الحج للأبناء ينبغي للأب أن يبذل لهم المال لذلك، بل هناك روايات حول استحباب حج غير البالغ (حج الصبي) ولو كان صغيراً ويُحرم به وليّه. كلّ ذلك كي يتربى على هذه الأجواء ويعيش هذه التجربة الروحية العظيمة.
فعلى الآباء أن يبذلوا لأبنائهم المال من أجل الحج.
كثير من العوائل يهتمون بالترويح عن عوائلهم، يسافرون بأبنائهم سفرات سياحية، ويصرفون المبالغ الطائلة في هذه السفرات، ولا بأس بذلك فهي أمور محببة في الشرع ضمن عنوان التوسعة على العيال، ولكن كما تفكّر أن ترفّه عن أبنائك وتسافر بهم في رحلات سياحية، فكر أن توفر لهم إمكانية الحج، وخاصة للبالغين من الأبناء والبنات، حتى يبدؤوا حياتهم بهذا البرنامج التربوي وهذه العبادة العظيمة.
أولًا: لإسقاط هذا الواجب من ذمتهم، وإعانتهم على أداء هذه الفريضة.
ثانياً: حتى يتعرّضوا لبركات الحج ويستفيدوا من نفحات الخير والبركة بأداء هذه الفريضة العظيمة.
التواصي بالحج
عادة بعد أن يرجع الناس من رحلاتهم السياحية، يتواصون ويشجع كلّ واحد صاحبه على السفر بأن يسرد على أصدقائه مميزات سفرته وجمال البلد الذي قصده.
علينا أن يشجع بعضنا بعضًا على الحج، خاصة بالنسبة لشبابنا الذين لم يؤدوا حجة الإسلام، بل يستحب للإنسان أن يبذل الحج لآخرين، ففيه أجر وثواب كبير، كلّ ذلك من أجل تشجيع الناس على أداء هذه الفريضة العظيمة والتعرّض لبركاتها.
