قياس العمر بالكفاءة والإنجاز
روي عن الإمام الجواد أنه قال: «حسب المرء من كمال المروة تركه ما لا يجمل به. ومن حيائه أن لا يلقى أحدًا بما يكره»[1] .
الحياة طريق يعبّره الإنسان، قد يطول به وقد يقصر، فهناك من يتقدم به العمر، وقد يتجاوز المئة عام، وهناك من يكون نصيبه في الحياة سنوات قليلة.
والقياس الحقيقي ليس في مدة العمر، وإنما في نوعية الحياة التي يعيشها الإنسان، والكفاءة التي يمتلكها، والإنجاز الذي يقدمه، فقيمة الإنسان لا تقاس بسنه وإنما بكفاءته وإنجازه.
وكما قال الشاعر:
قل: كيف عاش، ولا تقل كم عاش
من جـعل الحــياة إلى عــلاه سبيلا
رُبّ إنسان صغير في السنّ، لكنه يمتلك كفاءة عالية، وذو إنجاز كبير للحياة وللمجتمع، هنا قيمته تزيد على قيمة آخرين يكبرونه في السنّ بعشرات السنين، صحيح أنّ كبير السنّ ينبغي أن يحترم لسنه، لكن الاحترام شيء وموقع الكفاءة شيء آخر، الكفاءة يجب أن تأخذ دورها وهي الأجدر بالتقديم.
يقول الشاعر العربي:
تعلّم فليس المرء يولد عالمًا
وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإنّ كبير القوم لا علم عنده
صغير إذا التفت عليه المحافل
فالكفاءة والإنجاز هما المقياس.
في السيرة النبوية
حينما رأى رسول الله أنّ المجتمع الجاهلي يستخدم المقاييس البدائية الجاهلية فيُقدَّم الإنسان لكبر سنه، ويؤخر لصغره، ولو كان أكفأ، رفض رسول الله هذا المقياس، وصار يقدم صاحب الكفاءة مع احترام كبير السنّ.
حينما فتح مكة ولى عليها عتاب بن أسيد وعمره إحدى وعشرين سنة، ولّاه على مكة وأمره أن يصلي بالناس!
كان ذلك القرار يخالف الحالة السائدة، فكيف بشاب صغير يقدّم على الشخصيات والكبار؟!
ولما علم رسول الله أن هذا يثير بعض التساؤلات، قال فيما روي عنه: ولا يَحتَجَّ مُحتَجٌّ مِنكُم في مُخالَفَتِهِ بِصِغَرِ سِنِّهِ، فَلَيسَ الأَكبَرُ هُوَ الأَفضَلَ، بَلِ الأَفضَلُ هُوَ الأَكبَرُ[2] .
هذا مقياس حضاري جديد، ينبغي أن تسير عليه المجتمعات، وكان إلى آخر حياته يسعى لتأكيد ذلك، فقد هيأ جيشاً فيه كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، وجعل قيادة الجيش بيد أسامة بن زيد وعمره آنذاك لم يتجاوز العشرين من عمره، كلّ ذلك لكي يعزز ويكرس مقياس الكفاءة وليس كبر السن، فاعترض البعض على اختيار أسامة، فبلغ ذلك رسول الله فقال: مَا مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْ بَعْضِكُمْ فِي تَأْمِيرِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ؟ وَاَللهِ، لَئِنْ طَعَنْتُمْ فِي إمَارَتِي أُسَامَةَ لَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إمَارَتِي أَبَاهُ مِنْ قَبْلِهِ، وَاَيْمُ اللهِ، إنْ كَانَ لِلْإِمَارَةِ لَخَلِيقًا وَإِنّ ابْنَهُ مِنْ بَعْدِهِ لَخَلِيقٌ لِلْإِمَارَةِ [3] .
وهكذا نجد في المسائل الفقهية معايير ومواصفات إمام الجماعة الذي يقدم على غيره، فيذكر الفقهاء تقديم الأفقه والأقرأ لكتاب الله والأورع والأتقى، وليست المسألة بكبر السنّ، باستثناء الإمام الراتب فإن له الأولوية.
هذا المعيار يعني أمرين:
الأمر الأول: أن يهتم الإنسان باستثمار حياته، فليست المسألة أن تعيش فقط، وإنما كيف تعيش! ينبغي أن يسعى الإنسان لتكون حياته زاخرة بالكفاءة والإنجاز.
لقد أصبح متعارفًا عند بعض الناس الاحتفاء بعيد ميلاد الانسان كلّ سنة، والسؤال الأهم الذي ينبغي أن يطرحه الإنسان على نفسه في ذكرى ميلاده: ماذا أنجزت بعد مرور سنة؟
إنّ الله سبحانه وتعالى يأمر نبيه بأن يقول: (وقل ربِّ زدني علمًا)
على الإنسان أن يسعى دائمًا لرفع مستوى كفاءته، ولا يرضى لنفسه أن يمر عليه الزمن دون أيّ تقدّم!
وأسوأ شيءٍ أن يتصور الإنسان انتهاء دوره في الحياة، فيقول ما فعلته كافٍ!!
بعض المتقاعدين تسأله: لماذا تقاعدت عن العمل؟!
يجيبك: ما عملته يكفي، لقد اشتغلت بما فيه الكفاية!!
إذا اعتقد الإنسان أنّ ما أنجزه هو غاية ما يستطيع إنجازه، يكون قد ظلم نفسه.
الأمر الثاني: تقدير كفاءة الآخرين وإنجازاتهم، والنظر إليهم من خلال هذا المعيار، وليس ضمن المعايير المتخلفة كالنسب والعمر والعرق واللون، فقيمة كلّ أمريء ما يحسنه، على حدّ تعبير الامام علي .
الإمام الجواد.. حياة زاخرة بالعطاء
نعيش ذكرى وفاة الإمام محمد الجواد ، وهو أقصر الأئمة عمرًا، (25 عامًا).
كانت ولادته سنة 195هـ ووفاته سنة 220هـ.
خمس وعشرون عاماً، لكنها زاخرة بالعطاء والإنجاز، فرض كفاءته العلمية والأخلاقية على الأمة، وهذا ما نقرؤه في سيرة الإمام وتاريخه.
على صغر سنه كان يجلس في مسجد جدّه رسول الله ، فيقصده العلماء ويلتف حوله الفقهاء، ويسأله طلاب العلوم والمعارف الدينية، فيجدون عنده الأفق الواسع في المعرفة والعلم، ولا غرو فإنه من أهل بيت زقوا العلم زقًّا.
وقد نقلت مصادر التاريخ كيف أنّ قاضي القضاة (يحيى بن أكثم) في عهد المأمون العباسي تناظر مع الإمام، وطرح عليه مسائل عويصة، فأجابه باقتدار وتبحّر في قصص مطولة ذكرتها كتب التاريخ والسِّير.
وفي عهد المعتصم العباسي كان قاضي القضاة ابن أبي داود طرح على الإمام الجواد مسائل عميقة فأجابه الإمام عليها فوراً إجابات واضحة.
وكان المعتصم يُرجع الفقهاء عند اختلافهم في المسائل إلى رأي الإمام محمد الجواد على صغر سنه من بينهم.
وتنقل بعض المصادر أنّ وفوداً من مختلف مناطق الشيعة، جاءت بعد وفاة الإمام الرضا إلى المدينة المنورة حتى يلقوا على الإمام الجواد مسائلهم، لكي يعرفوا أحقيته بمقام الإمامة، فبلغ عدد المسائل أكثر من ثلاثين ألف مسألة، في مختلف المجالات العقدية والفقهية والأخلاقية والتفسير والحديث، وقد أجاب الإمام على تلك المسائل كلها[4] .
هذه الكفاءة التي أبانها الإمام مع صغر سنه، تظهر العناية الإلهية بأئمة أهل البيت، ونحن نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ﴾[سورة مريم الآية: 12].
وعن نبي الله عيسى يقول تعالى: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾[سورةمريم، الآيتان: 29-30].
الرواة عن الإمام
وقد أحصى العلماء والباحثون عدد تلامذته وأصحابه والراوين عنه فبلغوا (272) بين رجل وامرأة.
هذا العدد الكبير في هذه المدة القصيرة، يدلّ على سعة عطائه العلمي ومدى تأثيره في محيطه الاجتماعي، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي عاشها الإمام عليه السلام في السنتين الأخيرتين من حياته، حيث جلبه المعتصم إلى بغداد لكي يكون تحت الرقابة المباشرة للسلطة.
وفاة الإمام وهو في أوج عطائه
المشهور عند علماء الشيعة أن المعتصم العباسي هو الذي أجهز على حياة الإمام حيث دسَّ له السّم، والروايات في ذلك مختلفة، بين من يقول عبر زوجته أم الفضل بنت المأمون، وأنّ عمّها المعتصم أوعز إليها، أو عبر أخيها.
وتقول رواية أخرى إنّ المعتصم طلب من أحد وزرائه أن يدعو الإمام ويقدم له طعاما مسموماً، بينما جاء في رواية ثالثة إنّ المعتصم كلف شخصاً يقال له أشناص أن يدسّ السّم للإمام.
مناقشة علمية
بعض علماء الشيعة يناقشون هذه الروايات، ومنهم الشيخ المفيدD وهو من كبار علماء الشيعة، قال في الإرشاد: (فورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرم من سنة عشرين ومئتين وتوفي بها في ذي القعدة من هذه السنة).
ثم يقول: (وقيل إنه مضى مسمومًا ولم يثبت بذلك عندي خبر فأشهد به).
وهو بذلك يخالف رأياً مشهوراً عند علماء الشيعة يرى أنّ أئمة أهل البيت استشهدوا جميعاً، اعتماداً على رواية عن الإمام الرضا : (ما منّا إلّا مقتول شهيد).
ويقول في كتابه (تصحيح الاعتقاد) رداً على الشيخ الصدوق: (فأما ما ذكره أبو جعفر من مضي نبينا والأئمة بالسم والقتل، فمنه ما ثبت، ومنه ما لم يثبت، والمقطوع به أن أمير المؤمنين والحسن والحسين خرجوا من الدنيا بالقتل ولم يمت أحدهم حتف أنفه، وممن مضى بعدهم مسمومًا موسى بن جعفر ، ويقوى في النفس أمر الرضا وإن كان فيه شك، فلا طريق إلى الحكم فيمن عداهم بأنهم سموا أو اغتيلوا أو قتلوا صبرا، فالخبر بذلك يجري مجرى الإرجاف وليس إلى تيقنه سبيل)[5] .
أما من ثبت عنده النص الوارد عن الإمام الرضا : (ما منّا إلّا مقتول شهيد)
فيلتزم بمقتضاه، ومن لم يثبت عنده يتعامل مع الموضوع كمسألة تاريخية قد تثبت عنده إن صحت روايتها وقد لا تثبت عنده.
يقول الشيخ محمد آصف محسني في تعليقه على عنوان في بحار الأنوار (إنّ الأئمة لا يموتون إلّا بالشهادة) ما نصه: (ذهب كثير من أصحابنا إلى أن الأئمة خرجوا من الدنيا على الشهادة، واستدلوا بقول الامام الصادق : والله ما منّا إلّا مقتول شهيد. يقال لهم: أين علمتم قول الصادق هذا ولا سند معتبر له، ولا تعلمون الغيب... وعلى كلٍّ نحن نرد على هذه الدعاوى ونقول: إنّ المسلّم به شهادة أمير المؤمنين والحسنين وموسى بن جعفر، كما اختاره الشيخ المفيد رحمه الله، وأما البقية فلا دليل على قتلهم بالسّم وغيره، نعم قال الشيخ المذكور: ويقوى في النفس أمر الرضا وإن كان فيه شك)[6] .
بالطبع إنّ إثبات القتل والشهادة لا يرفع من مقام الإمام، فمقامه ومكانته عند الله ثابتة، كما أن أكبر ظلم يتعرض له الإمام هو إبعاده عن مقام الإمامة والقيادة، وضرره الأكبر واقع على الأمة وعلى الدين، أما بقية المظالم فالتاريخ يشهد بما جرى على الأئمة من مآسٍ، وما تعرضوا له من محنٍ وابتلاءات وآلام في سبيل الله، ومن أجل نشر الدين وهداية الأمة.
الدرس الذي نأخذه من ذكرى وفاة الإمام الجواد أمران:
الأمر الأول: الاهتمام باستثمار العمر
عمرك هو رصيدك في الدنيا والآخرة، وعليك أن تستثمره في الخير والعطاء.
حينما نرى حياة الإمام القصيرة وهي زاخرة بالعطاء والكفاءة والإنجاز، يدعونا ذلك إلى الاقتداء به والسير على نهجه.
الأمر الثاني: الأخذ بتوجيهات الإمام
ومنها هذه الكلمة (حسب المرء من كمال المروة تركه ما لا يجمل به. ومن حيائه ألّا يلقى أحدًا بما يكره)
احرص على مراعاة مشاعر الآخرين، فلا تقابل أحداً بما يزعجه أو يكرهه من قول أو فعل، قريبًا كان أم بعيدًا.
أبناؤك وزوجتك وأسرتك بشكل عام، زملاؤك والعاملون معك، كلّ الناس من حولك، احرص على ألّا تلقى أحدًا بما يكره.
لو أنّ الإنسان حرص على الالتزام بهذا المبدأ لكان حقيقًا بنيل رضا الله ومحبة الناس، وكمال المروءة.