الحركة والنشاط جوهرة الحياة
ورد عن الإمام الصادق أنه قال: (مَا ضَعُفَ بَدَنٌ عَمَّا قَوِيَتْ عَلَيْهِ اَلنِّيَّةُ)[1] .
إنما زوّد الله تعالى جسم الإنسان بالجوارح والحواس والأجهزة الفاعلة، من أجل أن يمارس الحركة والنشاط في هذه الحياة، وقد كشف لنا العلم عن بعض ما وهبه الله تعالى للإنسان من الطاقات والإمكانات في جسمه.
هذا الجسم الذي نراه محدوداً في حجمهِ ووزنه، ينطبق عليه ما نسب لعلي :
أتحسبُ أنك جرمٌ صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
حقائق عن جسم الإنسان
ذكرت بعض الدراسات أنّ جسم الإنسان يحتوي على:
حوالي (100 تريليون) خلية.
الدماغ البشري فيه حوالي (100مليار) خلية عصبية.
الهيكل العظمي فيه أكثر من (200عظمة).
الجهاز العضلي يحوي (650إلى 700عضلة)، وكلّ خطوة يخطوها الإنسان يستخدم فيها (200عضلة).
في الجسم ما يقارب مليوني غدة عرقية.
أنف الإنسان فيه (100ألف) خليه عصبية خاصة بالشم.
الجسم يحتوي على (5،6 لترات من الدم) يجري باستمرار في الأوعية الدموية، ويقطع أثناء دورانه مسافة (19000 كيلو متر) خلال اليوم الواحد.
ويَبلُغ الطول الإجماليّ للأوعية الدمويّة في الجسم؛ أي الشرايين والأوردة، والشُّعيرات الدمويّة، (100000كم)، وهو ما يكفي للإحاطة بكوكب الأرض مرَّتين ونصف.
لقد زوّد الله جسم الإنسان بهذه الإمكانات والطاقات والأجهزة والأعضاء، وهذه الحواس العظيمة، حتى يستثمرها ويستخدمها في الحياة، لكن الناس يتفاوتون في مستوى تشغيلهم واستثمارهم لأجسامهم.
ويمكن تشبيه ذلك بمن يمتلك سيارة يستخدمها كلّ يوم مئات الكيلو مترات، وشخص آخر لديه سيارة فخمة (آخر موديل) لكنه يستخدمها في نطاق محدود، ثم يوقفها على باب داره!!
رغم أنّ هذه السيارة فيها إمكانات كثيرة ومتعددة، إلّا أنّ صاحبها لا يستثمرها كما ينبغي!
وهكذا يتعامل بعض الناس مع أجسامهم، تبقى إمكاناتهم كامنة لا يستفيدون منها.
البعض يمارس الحركة والنشاط بأدنى حدّ، ويتصور أنه يريح جسمه، وهذا خطأ كبير؛ لأنّ الخمول هو الذي يتعب الجسم، أما الحركة والنشاط فهي التي تكسب الجسم قوةً وصحةً.
الحركة والنشاط فعل دائم
مع ازدياد الوعي وانتشار الثقافة الصحية، بدأ الناس يدركون أهمية الحركة والنشاط، لذلك أخذوا يقبلون على الأنشطة الرياضية، كما افتتحت وانتشرت الصالات الرياضية في مختلف المدن.
البعض يشترك في النوادي الرياضية أو صالات اللياقة الجسمية، وهو أمر مفيد، لكن الخطأ أن تكون الحركة والنشاط مجرّد وقت محدد في اليوم، وبعدها يعيش الإنسان حالة من الخمول، يذهب إلى الصالة الرياضية يحرق السعرات الحرارية، ثم يعود إلى البيت يعوضها بأضعافها من النوم والأكل!!
الحركة والنشاط يجب أن تكون سمة مستمرة للإنسان في حياته، وليس مجرّد برنامج محدود.
في كلمة جميلة عن أمير المؤمنين علي يقول: (مَنْ يَعْمَلْ يَزْدَدْ قُوَّةً، ومَنْ يُقَصِّرْ فِي الْعَمَلِ يَزْدَدْ فَتْرَةً)[2] .
كم هو جميل أن يشارك الإنسان في أعمال المنزل مع عائلته، وهو ما نراه في المجتمعات الأخرى، ترى الواحد منهم من الصباح الباكر يكنس أمام بيته ويسقي الزرع ويعتني بحديقته.
يقول أحد الإخوة المبتعثين بعد أن بقي سنوات في الخارج ثم عاد إلى الوطن، رآني أبي وأنا أغسل سيارتي، فجاءني مستنكراً: أنت دكتور وقد أتيت من أمريكا، تغسل سيارتك؟!
يمكنك أن تعطي أيّ عامل يغسلها عنك بريالات معدودة.
فقلت له: تعلّمنا في أمريكا على العمل والحركة، فنحن ننظف سياراتنا.
فالمسألة أكبر من مجرّد تقديم مبلغ زهيد لتنظيف السيارة أو ما شابه ذلك!
إنّ التعود على النشاط والحركة مكسب كبير وجميل، يسهم في صحة الجسم وبناء العادات الحسنة.
ونحن نرى التوجيهات الدينية تدعو الإنسان إلى النشاط الدائم، في العبادات هناك مستحبات متوالية لا تنتهي:
نافلة الفجر ركعتان قبلها.
نافلة الظهر ثمان ركعات قبلها.
نافلة العصر ثمان ركعات قبلها.
نافلة المغرب أربع ركعات بعدها.
نافلة العشاء ركعتان من جلوس.
صلاة الليل إحدى عشرة ركعة.
مجموع ركعات الصلوات الواجبة والنوافل واحد وخمسون ركعة، وإضافة إلى كونها عبادة هي نشاط جسمي.
كما تدعو الروايات والأحاديث إلى الذكر الدائم، بحيث تجعل الإنسان لهجاً بذكر لله آناء الليل وأطراف النهار، وهو نوع من الحركة، ولها انعكاس صحي على الجسم هذه البرامج العبادية تربي الإنسان وتدربه على الحركة والنشاط في مختلف مجالات حياته.
مبررات الكسل والركون إلى الراحة
يميل الإنسان في بعض حالاته إلى خفض أو إنهاء مستوى حركته ونشاطه:
الحالة الأولى: الحذر من التعب
خوفاً من التعب المحتمل يقلل البعض من حركته ونشاطه، وغالباً ما يكون التعب متوّهمًا لتبرير الكسل، فترى البعض يبرر عدم ذهابه للحج خوفاً من التعب!
وفي المقابل نرى كيف أنّ بعض الحجاج تصل أعمارهم إلى مئة سنة أو تزيد، وأحد الحجاج من أندونيسيا عمره (130 سنة)، جاء إلى حج بيت الله الحرام هذا العام، وهو في هذه السنّ المتقدمة!
النشاط والحركة هي التي تريح الجسم، فعلى الإنسان ألّا يخفف عمله خوفاً من التعب؛ لأنّ الترهل والخمول هو التعب الأكبر، بينما الحركة والنشاط هي الراحة لجسم الإنسان. وكما قال الشاعر[3] :
إنّ الحقيقة قالت وهي صادقة
فيما تقول بأنّ الراحة التعب
ورد عن أمير المؤمنين علي : «عليك بإدمان العمل في النشاط والكسل»[4] حتى لو شعرت بحالة كسل في نفسك لا تتراجع عن العمل.
وعنه : «تأخير العمل عنوان الكسل»[5] .
وعن الإمام الباقر : «الكسل يضرُّ بالدين والدنيا»[6]
بإمكان الإنسان أن يستثمر وقته في الحركة والنشاط فلماذا يرضى بالخمول والترهل؟!
الحالة الثانية: حالة المرض
قد تعرِض لجسم الإنسان بعض الأمراض التي يوصي الطبيب عندها بعدم الحركة، مثل بعض حالات أمراض القلب، هنا لا بُدّ من الالتزام بقول الأخصائي.
أما في غير هذه الحالات، يوصي الأطباء بالحركة والنشاط؛ لأنّ استسلام المريض لمرضه وجلوسه على سريره وانعزاله عن الناس يكرس لديه الشعور بالمرض، بينما إذا تحرّك ترتفع معنوياته وتقوى نفسه، ويكون أقدر وأقوى على مواجهة المرض، لذلك ينصح الأطباء مرضاهم بعدم الاستسلام للمرض.
ورد عن الإمام علي : (لا تضجع ما استطعت القيام من العلة)[7] .
وفي كلمة أخرى عنه : «امْشِ بِدَائِكَ مَا مَشَى بِكَ»[8] .
البعض من الناس أقلّ شيءٍ يصيبه يضجع على فراشه، وهذا هو الذي يوطّن المرض في نفسه وجسمه.
على الإنسان أن يسعى لتقوية مناعته الجسمية وذلك بالحركة، وهذا ما نجده عند بعض الأشخاص الذين يتمتعون بالهمة العالية، يعاني من مرض أو لديه إعاقة لكنه لا يتأخر عن الذهاب إلى المسجد وحضور مجالس الذكر والمشاركات الاجتماعية.
هذا الإصرار على الحضور الاجتماعي، وممارسة النشاط والحركة، هو الذي يمنح الإنسان الصحة ويجعله مستمتعاً بحياته.
الحالة الثالثة: عند تقدّم العمر
في بعض المجتمعات يحكم الناس على أنفسهم بالهرم في وقت مبكر، ويتقاعدون عن الحركة والنشاط!
هذا ما نراه غالباً في مجتمعاتنا، وعلى النقيض من ذلك نرى مجتمعات أخرى يعيش كبار السنّ فيها النشاط والحيوية، تراهم من الصباح الباكر يمارسون رياضة المشي في الحدائق والأماكن المخصصة للرياضة، ولو سألت الواحد منهم عن عمره تجده في الثمانين أو التسعين، فالعمر لا يعني التوقف عن الحركة عندهم.
من جهة أخرى، فإنّ الأجواء المحيطة بالإنسان من أقارب وأصدقاء يُشعرون المتقدم في العمر عندنا بالشفقة، ويخلقون في نفسه الإحساس بالضعف والوهن، فيعرضون عليه خدماتهم في كلّ شؤونه حتى لا يكلّف نفسه العناء والتعب!!
فيخاطب الابن أباه وأمه بعنوان الشفقة: كن مرتاحاً ونحن نقوم عنك بكلّ ما تحتاج!
إنّ خدمة الوالدين أمر محبب محمود، لكنّ إشعارهما بانتهاء دورهما في الحياة خطأ!
ينبغي تشجيع كبار السنّ على أن يمارسوا أدوارهم في الحياة بحيوية.
أشعر أباك وأمك بأنهما ما زالا شابين، لذلك عندنا روايات حول استحباب تزويج الأب عندما يفقد زوجته وتشجيعه أن يمارس حياته بفاعلية ونشاط، وألّا يوحي لنفسه بالكسل ويقلّل حركته ونشاطه، بدءاً من المستحبات والعبادات وانتهاء بسائر الأنشطة.
ورد عن الإمام علي : «الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ»[9] .
إذا نويت الحركة فإنّ الله يعطيك القوة في جسمك
وعن الإمام الصادق : «ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النية»[10] .
عليك أن تنوي عمل الخير، كالذهاب للحج والعمرة والزيارة، المشاركة في مختلف المناسبات الاجتماعية، والأعمال التطوعية، ليكن لك عزم وهمّة، وعندها تجد جسمك يستجيب لنيّتك وهمّتك.
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق : (إنما قدّر الله عون العباد على قدر نيّاتهم، فمن صحّت نيته، تمّ عون الله له، ومن قصرت نيته، قصر عنه العون)[11] .
لذلك على الإنسان أن يستثير في نفسه حالة الحركة والنشاط في مختلف أدوار عمره، حتى يستمتع بحياته، ويوفر الصحة لجسمه، ويستثمر وجوده في هذه الحياة.