الغش في المواد الغذائية
جاء في الحديث أَنَّ رَسُولَ اللهِ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً.
فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟
قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ!
قَالَ : أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي)[1] .
طبيعة الحياة الاجتماعية، تقتضي اعتماد الناس بعضهم على بعض، في تقديم الخدمات وتسيير شؤون حياتهم، فلا يستطيع كلّ فرد أن يقوم بتوفير كلّ الخدمات لنفسه، وإنما هناك تخصّصات، بين أبناء المجتمع، كلّ إنسان يقدم خدمة للآخرين في المجال الذي يتقنه، فيصبح هناك تبادل للأدوار والخدمات، هذا يعالج المرضى، وذاك يزرع الأرض، وهذا يعمل في التجارة، وهكذا تسير الأمور في مختلف الشؤون والخدمات.
لذلك يقول الله تعالى: ﴿نحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾، أي كلّ إنسان يستفيد من خدمات الآخر (يسخّر الآخر)، لتسيير شؤونه. إنّ تبادل الخدمات والأدوار بين الناس يستلزم وجود مستوى من الثقة فيما بينهم، وحتى يثقوا بالخدمة المقدمة، لا بدّ وأن تكون ضمن المتعارف والمتوافق عليه.
النقص والخلل
إذا أخلَّ الإنسان بالمستوى المتعارف عليه وقدم خدمة فيها نقص وخلل، فهذه المعاملة تكون على نحوين:
تارة يكون مُستقبِل الخدمة عالماً بالخلل راضياً به، فليس في ذلك مشكلة لا شرعًا ولا قانوناً ما دام هناك تراضٍ وتوافق بين الطرفين.
وتارة أخرى يكون الخلل خفياً غير واضح، يستقبل المستفيد الخدمة، أو يستلم السلعة، على أنّها ضمن المستوى المطلوب، لكنّ الخلل فيها غير واضح أمامه، وهذا يطلق عليه غش وخيانة للثقة.
الغش أمر مستقبح
الغش أمر مستقبح عقلاً وشرعاً والقوانين السائدة في مختلف الدول والمجتمعات تحظره وتمنعه.
وإذا كان الغشّ مرفوضاً في مختلف الموارد والخدمات، فإنما يرتبط منه بالمواد الغذائية التي يتناولها الإنسان، يكون من أشدّ وأسوأ أشكال الغش،.. لماذا؟
لأنّ الغذاء حاجة رئيسة، تتقوّم بها حياة الإنسان، وتتأثّر بها صحّته، ويتعلّق بها ذوقه ومزاجه، وهي حاجة لكلّ الناس، ليست لفئة معينة فقط، المواد الغذائية محلّ احتياج وتداول بين كلّ الناس، فإذا حصل الغش في بيع وتقديم المواد الغذائية فذلك يسبب مشكلة عامّة؛ لارتباط الغذاء بجميع الناس، وحاجتهم إليه، وتنوّع الآثار والانعكاسات لهذا النوع من الغش.
لذلك تهتم عدّة وزارات في مختلف الدول بمكافحة الغش، وخاصّة في المواد الغذائية، وعادة تكون وزارة التجارة معنية بذلك، وترفدها وزارة الصحة في بعض الدول، وفي بعض المجالات تكون وزارة الشؤون البلدية معنية بمراقبة المواد الغذائية المتداولة، لضمان سلامتها وعدم وجود الغش فيها.
كلّ دولة لها قوانينها ومواصفاتها القياسية المعتمدة، لضمان سلامة المواد الغذائية المتداولة في الأسواق.
النظرة الشرعية للغش
يؤكد الشرع على حرمة الغش في موارده ومجالاته المختلفة، وخاصّة في المواد الغذائية.
الحديث الذي بدأنا به موضوعنا يقول: أنّ رَسُولَ اللهِ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً.
فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟
قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ!
قَالَ : أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَام كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي).
وفي حديث آخر عن النبي : (المسلمُ أخو المسلمِ ولاَ يحلُّ لمسلمٍ باعَ من أخيهِ بيعًا فيهِ عيبٌ إلاَّ بيَّنَهُ لَه)[2] .
وجاء في حديث آخر: (مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يبيع طعامًا قد خلط جيّدًا بقبيح، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: أردت أن ينفق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ميّز كلّ واحد منهما على حدة، ليس في ديننا غش)[3] .
فالحكم الشرعي هو حرمة الغش، وعلى البائع أن يميّز الطعام، ولا يخلط الجيّد بالرديء، بعض الباعة يجعل الفاكهة الناضجة في الأعلى بخلاف ما في الأسفل، ليغري المشتري، وهو من الغش المحرم.
ومرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برجلٍ يبيعُ طعامًا فقال: يا أصحابَ الطَّعامِ، أسفلُ هذا مثلُ أعلاه. فقال: نعم يا رسولَ اللهِ. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: من غشَّ المسلمين فليس منهم[4] .
إنّ تعدّد الأحاديث الواردة في هذا المجال تدلّ على اهتمام النبي البالغ بهذا الموضوع.
وورد عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنه قال: (شرّ الناس من يغشّ الناس)[5] .
وورد في كلمة أخرى عنه : (الغشّ من أخلاق اللئام)[6] .
وورد عن الإمام الصادق أنه قال: (نهى رسول الله أن يُشاب اللبن بالماء للبيع)[7] .
حتى لا يتكرر هذا السلوك
دخل على الإمام الصادق رجل يبيع الدقيق، فقال له: إيّاك والغشّ فإنه من غَش غُش في ماله، فإن لم يكن له مال غُش في أهله[8] .
حيث تشير هذه الرواية إلى خطورة تكريس سلوك الغشّ، إذا مارس الإنسان الغش فإنه يشجّع الآخرين أن يمارسوه.
أنت تغش في المجال الذي تعمل فيه، والآخرون يغشون في المجال الذي يعملون فيه ممّا تحتاج أنت إليه، أو ما يحتاج إليه أهلك.
وينقلون قصّة لعلّها حقيقية أو مجرّد حكاية رمزية:
أنه كان هناك فلّاح يبيع الزبدة لصاحب بقالة، على أنّ وزنها (كيلوغرام)، وفي أحد الأيام أراد البقّال أن يتأكد من وزن الزبدة فوجدها (تسع مئة جرام)!
فقال للفلاح: لن أشتري منك بعد اليوم. فالزبدة ناقصة وأنت غشّاش.
هزَّ الفلّاح رأسه وقال: عفوًا يا سيّدي، نحن فقراء ولا يوجد عندنا الكيلو، ولكنّي آخذ السكّر الذي اشتريه منك، وأزن الزبدة بالسكّر!! فصاحب البقالة كان يمارس الغش تجاه المشترين منه، فكانت النتيجة أن تضرر هو من حيث لا يقصد الطرف الآخر.
وفي ذلك إشارة إلى أنّ السلوك السيئ إذا ساد وانتشر في المجتمع لن يسلم منه أحد.
لذلك على الناس أن يحاربوا هذا السلوك حتى لا يكونوا جميعًا من ضحاياه.
وروى الإمام الصادق عن رسول الله أنه قال لرجل يبيع التمر: يا فلان، أعلمت أنه ليس من المسلمين من غشهم[9] .
وفي صحيح الحلبي عن الصادق سألته عن الرجل يكون عنده لونان من طعام وأحد سعرهما بشيء، أحدهما أجود من الآخر فيخلطهما جميعًا ثم يبيعهما بسعر واحد؟
قال : لا يصلح له أن يغُش المسلمين حتى يبينه.
وقد بيّن الفقهاء في فتاواهم مصاديق الغش، كما جاء في (منهاج الصالحين) للمرجع السيد السيستاني:
الغش حرام. فعن رسول الله أنه قال: (من غشّ أخاه المسلم نزع الله بركة رزقه، وسدّ عليه معيشته ووكله إلى نفسه) ويكون الغش بإخفاء الأدنى في الأعلى، كمزج الجيّد بالرديء وبإخفاء غير المراد في المراد، كمزج الماء باللبن، وبإظهار الصفة الجيّدة مع أنها مفقودة واقعًا، مثل رشّ الماء على بعض الخضروات ليتوهم أنها جديدة، وبإظهار الشيء على خلاف جنسه، مثل طلي الحديد بماء الفضة أو الذهب ليتوهم أنه فضة أو ذهب وقد يكون بترك الإعلام مع ظهور العيب وعدم خفائه، كما إذا أحرز البائع اعتماد المشتري عليه في عدم إعلامه بالعيب فاعتقد أنه صحيح ولم ينظر في المبيع ليظهر له عيبه، فإنّ عدم إعلام البائع بالعيب ـ مع اعتماد المشتري عليه ـ غش له[10] .
انتشار ظاهرة الغش
تتناقل وسائل الإعلام المحلية أخبار مصادرة البلديات في مختلف المناطق عشرات أو مئات الكيلوغرامات من اللحوم الفاسدة، والمواد الغذائية غير الصالحة، أو المواد التي لا تتوفّر فيها الاشتراطات المقررة!
وهذه إضافة إلى كونها مخالفات قانونية، هي من الناحية الشرعية غشّ محرم.
ومن أمثلة ذلك: من يقدم الأسماك المستوردة لزبائنه على أنها محلية، والمشتري لا يعلم، فأيّ صفة تخفى عن المشتري وهو يهتم بها، يعتبر من الغش المحرم، وهكذا ما يقدم في المطاعم على أنه غذاء طازج، وهو متخلف من يوم أو يومين.
أصناف الغش الغذائي
الغش في المواد الغذائية يمكن تصنيفه الى ثلاثة أصناف:
1/ الغش بمخالفة الأحكام الشرعية
تقديم أيّ مادّة غذائية مخالفة للحكم الشرعي في أسواق المسلمين، يعتبر من الغش المحرم، كما إذا باع لحمًا غير مذكى على أنّه مذكّى.
إلّا إذا قام البائع بإخبار المشتري، أو كان ذلك واضحاً من خلال الكتابة على غلاف العبوة فهنا لا يصدق عليه أنه غش. وقد تصدق عليه عناوين أخرى تقتضي الحرمة شرعاً.
وإذا كان المشتري غير مسلم، لا يلتزم بمسألة التذكية، وأنت تبيعه لحماً غير مذكى دون أن تخبره، فهذا لا يعتبر غشاً أيضًا.
أو كنت تبيع أنواع الأسماك المحرّمة في مذهبك لمن يراها محللة من أتباع المذاهب الأخرى، فهو ليس غشًا أيضاً.
مخالفة القوانين
تضع الجهات الرسمية اشتراطات وقوانين لحفظ حقوق المستهلك، والمحافظة على السلامة والصحة، ومخالفة هذه القوانين لون من ألوان الغش المحرم.
ومن أمثلة ذلك تاريخ استهلاك المواد الغذائية، فكثيراً ما تعثر البلديات على كميات من البضائع يبدّل فيها البائع ملصقات تاريخ الاستهلاك، ليوهم المشتري أن السلعة جديدة صالحة للاستهلاك، وهي ليس كذلك!
إنّ أيّ مخالفة للقوانين السائدة في البلد، يعتبرها الناس خللاً وعيبًا في السلعة، فهي من الغش المحرم شرعاً.
الحالة الثالثة إخفاء صفات المبيع مما يهتم به المشتري بحيث لو علم بذلك لما أقدم على الشراء.
حتى لو لم تكن مخالفة للشرع ولا مخالفة للقانون، كمن يبيع الفواكه أو الخضراوات على أنّها طازجة وهي ليست كذلك، أو أنّ السلعة من إنتاج محلّي وهي من إنتاج أجنبي أو عكس ذلك.
ثلاث رسائل
الرسالة الأولى: إلى البائعين
على البائعين وأصحاب المحلّات وخصوصاً متاجر بيع الأطعمة أن يتّقوا الله في أنفسهم؛ لأنّ الغش حرام شرعًا وهو من الكبائر، والفقهاء يقولون يكفي للتّأكيد على أنّه من الكبائر النصوص التي تقول (من غشّنا ليس منّا) أي ليس من المسلمين، وكذلك الأحاديث والنصوص التي تتوعّد عليه بالعقاب الشديد، فهو من الكبائر، وعلى من يبيع المواد الغذائية بالغش أن يتّقي الله في نفسه؛ لأنه بذلك يأكل مالًا حراماً، ويضرّ بمصالح الناس وصحّتهم.
الرسالة الثانية: إلى الموظفين في مكافحة الغش
على الموظفين في الأجهزة الحكومية المعنية بمكافحة الغش، وخاصة في مجال المواد الغذائية أن يخلصوا في عملهم، وأن يكونوا أمناء فلا يقبلوا الرشوة، ولا يتعاملوا بالتساهل والمحسوبيات؛ لأنّ هذه مصالح المواطنين وترتبط بسلامتهم وصحتهم.
لذلك على الموظفين المعنيين ألّا تأخذهم في الله لومة لائم، في مراقبة الغش وخاصة في المواد الغذائية.
الرسالة الثالثة: إلى عامة الناس
على الموطنين أن يكونوا يقظين، منتبهين، فمن الخطأ الكبير أن يتصف الإنسان السذاجة وعدم الاهتمام؛ لأنّ ذلك يغري الغشاشين، إذا رأوا أن البضاعة المغشوشة تستهلك، وأن المسألة تمرّ بسهولة، فإنّ ذلك يغريهم بالاستمرار في غشهم للناس.
أبواب الرزق واسعة أمام الإنسان، فلماذا يلجأ الى الحرام؟!