التأليف بين القلوب نهج نبوي
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾[1] .
العداوة بين الناس تؤذي نفوسهم، وتستهلك جهدهم وطاقتهم في الصّراع، وتدفعهم إلى النزاع والاحتراب، مما يكلّفهم الأضرار والخسائر في النفوس والأموال والقدرات.
في المقابل، فإنّ التآلف بين الناس يريح نفوسهم، ويوفر جهدهم وطاقتهم للبناء والإنتاج، ويمكنهم من التعاون لخدمة مصالحهم المشتركة والعامة.
إنّ مستوى الوعي والالتزام الأخلاقي في أيّ مجتمع، هو الذي يرجّح أحد مساري العلاقة داخل المجتمع، نحو العداوة والنزاع أو التآلف والوئام.
كلّما كان المجتمع أكثر وعيًا وتمسّكًا بمكارم الأخلاق، كان أقرب إلى الوئام والانسجام، وكلّما انخفض مستوى الوعي الاجتماعي، والالتزام الأخلاقي، انزلق المجتمع إلى منحدر الصّراعات والخصومات.
صناعة التآلف
ولأنّ المجتمع العربي قبل الإسلام كان يعيش جاهلية ينعدم فيها الوعي وتضعف فيها القيم الأخلاقية، فقد كان الحال السائد فيه هو الاحتراب والخصام والتقاتل والتنازع.
وجاء النبي محمد برسالة الإسلام، ليعيد صياغة الأفكار، وبناء النفوس، فينقل ذلك المجتمع من حالة العداء والفرقة، إلى أجواء التآلف والوحدة.
وكان النجاح حليف رسول الله في إنجاز هذه المهمة، بأعلى حدٍّ ممكن، في زمن قياسي بهر كلّ الباحثين في تاريخ المجتمعات البشرية، والتحولات الاجتماعية.
وقد عدّها القرآن الكريم من أهمّ مظاهر نعمة الله تعالى على ذلك المجتمع، حيث يقول تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾[2] .
إنّ التأليف بين القلوب نهج نبوي مارسه النبي بسيرته وسياسته، وأكّده بتعاليمه وتوجيهاته.
والتأليف بين القلوب من الائتلاف مأخوذ من مادة (أَ لَ ف) التي تدلّ على انضمام الشيء إلى الشيء، ومن ذلك الألف؛ لأنه انضمام العشرات والمئات إلى بعضها.
ومنه تأليف الكتاب، أي ضم أجزائه والمعلومات التي فيه إلى بعضها.
وألِف المكان أو الشيء بمعنى اعتاده، وأنس به.
ركائز التآلف
اعتمد النهج النبوي في التأليف بين القلوب على ركائز، أهمها:
1/ تهذيب النزعة الذاتية لدى الإنسان، بتطهير نفسه من الأحقاد والأضغان والحسد والبغضاء، التي تسببها الأنانية المفرطة.
2/ تنمية النزعة الإنسانية في أعماقه بحب الخير للناس، وحسن الظنّ بهم، والرغبة في الإحسان إليهم.
فكلّما قويت النزعة الإنسانية في نفس الإنسان، كان أبعد عن كراهة الآخرين والإساءة إليهم، وأقرب إلى محبّتهم والإحسان إليهم، حتى لو كانوا خصومًا له.
3/ ترشيد السلوك وأخلاق التعامل بالحث على حسن القول، يقول تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾[3] .
ويقول تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾[4] .
وبالتشجيع على حسن المعاشرة، فقد ورد عن رسول الله : «أَحْسِنْ مُصَاحَبَةَ مَنْ صَاحَبَكَ تَكُنْ مُسْلِماً»[5] .
وعن أنس عن رسول الله : «لَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ»[6] .
وعنه : «الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ»[7] .
وعنه : «إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، الْمُوَطَّؤونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ الْمَشَّاؤونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، الْمُلْتَمِسُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَت»[8] .
4/ تعزيز العلاقات الحسنة بين الناس، ومعالجة المشاكل والخلافات الطارئة، عبر تشجيع إصلاح ذات البين والدعوة للمحبة والتعاون.
قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾[9] .
وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾[10] .
وقال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾[11] .
وورد عنه : «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ»[12] .
وجاء عن الإمام جعفر الصادق : «صَدَقَةٌ يُحِبُّهَا اَللَّهُ إِصْلاَحٌ بَيْنِ اَلنَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا وَتَقَارُبٌ بَيْنِهِمْ إِذَا تَبَاعَدُوا»[13] .
وعنه : «إِذَا رَأَيْتَ بَيْنَ اِثْنَيْنِ مِنْ شِيعَتِنَا مُنَازَعَةً فَافْتَدِهَا مِنْ مَالِي»[14] .
دعوات القطيعة والتنافر
إنّ مجتمع المؤمنين يجب أن تسود فيه دعوات التآلف والوئام، وإنّ وجود توجهات تدعو إلى القطيعة والتباعد بين مكونات المجتمع، إنّما يعني نقض غرض الدين، ومخالفة النهج النبوي، والإضرار بمصالح المجتمع الإيماني.
ولا يجوز للواعين من أبناء المجتمع أن يسكتوا أمام هذه الدعوات والتوجهات، فإصلاح ذات البين واجب ديني اجتماعي، على نحو الوجوب الكفائي، ويندرج تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إنّ من المؤسف أن تحصل بعض مظاهر النزاع والخلاف في مجتمع المؤمنين، فلا يجد أحد نفسه معنيًا بمواجهتها، والدعوة إلى معالجتها.
إنّ الضرر لن يقتصر على طرفي الخلاف والنزاع بل ستصيب آثاره السلبية كيان المجتمع كلّه.
الكذب في الإصلاح
ولمحاصرة أضرار الخلافات والنزاعات أكّد الدين على بذل الجهود للتصدّي لها، وإطفاء نائرة أيّ خلاف، بالسّعي لإصلاح ذات البين، بين المتخاصمين أفرادًا أو جماعات، وأجاز الدين التوسّل بالكذب لإصلاح ذات البين إذا استلزم الأمر ذلك.
وقد أفرد الشيخ الحرّ العاملي في كتاب وسائل الشيعة بابًا بعنوان: (باب جواز الكذب في الإصلاح دون الصدق في الإفساد).
وجاء فيه عن معاوية بن عمار عن أبي عبدالله : «إِنَّ اَلْمُصْلِحَ لَيْسَ بِكَذَّابٍ»[15] .
وجاء في صحيح البخاري عن أم كلثوم بنت عقبة أنَّهَا سَمِعَتْ رَسولَ اللَّهِ يقولُ: «ليسَ الكَذَّابُ الذي يُصْلِحُ بيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا، أوْ يقولُ خَيْرًا»[16] .
وعن الإمام جعفر الصادق : «اَلْكَلاَمُ ثَلاَثَةٌ: صِدْقٌ، وَكَذِبٌ، وَإِصْلاَحٌ بَيْنَ اَلنَّاسِ، قَالَ: قِيلَ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ: مَا اَلْإِصْلاَحُ بَيْنَ اَلنَّاسِ؟ قَالَ: تَسْمَعُ مِنَ اَلرَّجُلِ كَلاَماً يَبْلُغُهُ فَتَخْبُثُ نَفْسُهُ، فَتَقُولُ: سَمِعْتُ مِنْ فُلاَنٍ قَالَ فِيكَ مِنَ اَلْخَيْرِ كَذَا وَكَذَا خِلاَفَ مَا سَمِعْتَ مِنْهُ»[17] .
وعنه : «كُلُّ كَذِبٍ مَسْئُولٌ عَنْهُ صَاحِبُهُ يَوْماً إِلَّا كَذِباً فِي ثَلاَثَةٍ... أَوْ رَجُلٌ أَصْلَحَ بَيْنَ اِثْنَيْنِ يَلْقَى هَذَا بِغَيْرِ مَا يَلْقَى بِهِ هَذَا يُرِيدُ بِذَلِكَ اَلْإِصْلاَحَ مَا بَيْنَهُمَا... »[18] .