المرأة وإنتاج المعرفة الدينية
يقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[1] .
في سنة 2015م اتخذت الأمم المتحدة قرارًا باعتماد الحادي عشر من فبراير، يومًا دوليًّا للمرأة والفتاة في ميدان العلوم. وذلك من أجل تمكين المرأة والفتاة من المشاركة في مختلف العلوم وتحقيق المساواة بين الجنسين في فرص المشاركة والتقدم العلمي.
فالمرأة كالرجل تمتلك القابلية والاستعداد لكسب العلم وإنتاج المعرفة، وهي الميزة التي ميّز الله تعالى بها الإنسان بشقّيه الذكر والأنثى، عن سائر المخلوقات.
لكنّ ما عانته الإنسانية في تاريخها الطويل، هو استئثار الرجل بمعظم فرص التقدّم العلمية والعملية، على حساب المرأة التي هُمّش دورها؛ نتيجة للتشكيك في قيمتها الإنسانية ومستوى كفاءاتها المختلفة.
ومع كلّ التطور الذي حصل في وضع المرأة المعاصرة باتجاه مساواتها مع الرجل، وتمكينها في ميادين الحياة، إلّا أنّ الأرقام والإحصائيات تُظهر محدودية مشاركتها في ميدان العلوم، حسب بيانات اليونسكو (2014-2016)، التي أشارت إلى أنّ مشاركة المرأة في البحوث العلمية 30%، وفي تكنولوجيا المعلومات والاتصال 3%، وفي العلوم الطبيعية والرياضيات والإحصاء 5%، وفي الهندسة والتصنيع والتشييد 8%، وأنّ النساء اللّاتي يظهرن على الشاشة ولهنّ وظائف علمية 12%.
لذلك اعتمد اليوم الدولي للمرأة والفتاة في ميدان العلوم، لتحفيز المرأة للمشاركة أكثر في الميدان العلمي، ولدفع الدول والمجتمعات لتوفير الفرص وإزالة العوائق أمام مشاركة المرأة.
مشاركة المرأة في ميدان العلوم الدينية
وتفاعلًا مع هذه المناسبة نتحدّث عن أهمية مشاركة المرأة في ميدان العلوم والمعارف الدينية. وذلك انطلاقًا من أنّ واقع السّاحة الدينية الإسلامية يشهد تنكرًا وتجاهلًا لمشاركة المرأة على هذا الصّعيد، فعلى مستوى الفقاهة واستنباط الأحكام الشرعية، ليس هناك أيّ اسم يطرح لامرأة فقيهة مجتهدة، وعلى مستوى العلماء المتصدّين لشؤون السّاحة الدينية، ليست هناك شخصيات نسائية معروفة، وعلى صعيد الإنتاج الفكري والمعرفي الديني، فإنّ مشاركة المرأة ضئيلة محدودة لا تشكل نسبة تذكر.
وهنا يرتسم تساؤل عريض: هل المؤسسة العلمية الدينية مؤسسة ذكورية لا مكان فيها للمرأة؟
وهل أنّ حركة الاجتهاد والفقاهة محصورة في الرجال محظورة على النساء؟
ولماذا لا نجد للمرأة المسلمة المعاصرة دورًا مناسبًا في الحوزات العلمية والمؤسّسات الدينية، والإنتاج المعرفي الإسلامي؟
إنّ المرأة مخاطبة بالدّين كالرجل تمامًا، فالدّين يُخاطب الإنسان بشقّيه الذكر والأنثى على حدٍّ سواء. كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، و﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ﴾، و﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾، و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، و ﴿يَا عِبَادِيَ﴾. فهي معنية بتلقّي الخطاب وفهمه، وبمعرفة التكليف وتبنّيه.
كما أنّ مشاركة المرأة في الحركة العلمية، وإنتاج المعرفة الدينية يضيف رصيدًا كبيرًا في خدمة البحث العلمي، وانكفاؤها يعني خسارة ونقصًا.
إضافة نوعية
وحينما تشارك المرأة في إنتاج المعرفة الدينية، فإنّ مشاركتها تشكل إضافة نوعية وليست كمية فقط، فقد تقوم بدور مميّز وخاصة في تنقيح الأحكام والموضوعات المتصلة بدورها وشؤونها، وقد يكون تشخيصها فيها أعمق وأفضل.
وفي العهود الإسلامية الأولى كان للمرأة المسلمة حضور في ساحة المعرفة الدينية، حيث كنّ يحضرن المسجد ويستمعن خطب النبي ، فعن أبي سعيد الخدري قال: (قالتِ النِّسَاءُ للنبيِّ : غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِن نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وأَمَرَهُنَّ)[2] .
وإحدى النساء جادلت النبي في مسألة ترتبط بالشأن الأسري حول قضية الظّهار، ولم تقبل بالحكم السّائد في المجتمع، الذي يقضي بإنهاء علاقتها الزوجية.
يقول تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾[3] .
ونزل بسبب ذلك تشريع إلهي جديد، وأصبحت عنوانًا لسورة قرآنية وهي سورة (المجادلة).
وفي عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، أعلنت امرأة اعتراضها على قراره تحديد مهور النساء، واحتجت عليه بالقرآن الكريم، قالت: (يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا! أليس الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾، فتراجع عمر عن قراره، وقال كلمته المشهورة: أصابت امرأة وأخطأ عمر)[4] .
وكانت المرأة راوية للحديث النبوي كالرّجال من الصّحابة، وكتب الحديث مليئة بالأحاديث الواردة عن طريق زوجات الرسول وابنته فاطمة الزهراء وسائر الصّحابيات الراويات. وأجمع علماء المسلمين على الأخذ بروايات النساء بنفس ضوابط وشروط الأخذ بروايات الرجال.
مظهر لتهميش المرأة
وبذلك يمكن القول إنّ انحسار مشاركة المرأة في إنتاج المعرفة الدينية هو مظهر من مظاهر التهميش العام الذي تعيشه المرأة في المجتمعات المتخلّفة، وقد تبرره بعض الآراء الدينية المتشدّدة، لكنّ ذلك لا ينسجم مع الرؤية الدينية الصّحيحة.
هناك الآن مساعٍ ومبادرات تبشّر بالخير على صعيد دور المرأة في المؤسّسة الدينية، بوجود حوزات علمية نسائية، وقبول الطالبات في بعض المعاهد والكليات الشّرعية، وبروز بعض الشّخصيات النسائية الفاعلة في السّاحة الدينية فكريًّا واجتماعيًّا، وهذا ما يجب دعمه وتطويره لتلافي التخلّف والفراغ والنقص الشّديد على هذا الصّعيد.
التطلّع لمشاركة المرأة
لقد شقّت المرأة في مجتمعاتنا طريقها إلى ميادين العلوم حسب الفرص المتاحة لها، ولم تقصّر عن مجاراة شقيقها الرجل في جدّيتها واستيعابها وتفوقها العلمي، فأصبحت معلّمة وأستاذة جامعية، وطبيبة ومحامية ومهندسة، ونتطلّع إلى اقتحامها ميدان العلوم والمعارف الدينية لتكون فقيهة وعالمة وباحثة في الفكر والتشريع الديني، ولتسهم في إنتاج المعرفة الدينية.
ربما تكون هناك آحاد من الشّخصيات النسائية في هذه المستويات، لكنّ المطلوب مشاركة حقيقية واسعة من قبل المرأة في هذا الميدان تتكافأ مع مشاركة الرجل.
وعلى مجتمعاتنا ومؤسّساتنا الدينية أن توفر الفرص أمام المرأة على هذا الصّعيد، وأن نشيد بالمبادرات والنماذج الرائدة من بنات مجتمعاتنا.
خديجة المحميد نموذج مشرق
وأشير هنا إلى إحدى تلك النماذج المشرقة وهي الدكتورة خديجة عبدالهادي المحميد من الكويت، الحائزة شهادة الدكتوراة في العلوم الاجتماعية والسياسية من جامعة (سندرلند) في إنجلترا (2001م)، وهي باحثة في الفكر الإسلامي، وناشطة سياسية واجتماعية في مجال حقوق المرأة والأسرة، وكاتبة صحافية، ومحاضرة في مجال الدراسات العقدية والفقهية والتربوية، ومدربة محترفة في مجالات التنمية البشرية.
لها أبحاث ودراسات شاركت بها في عدد من المؤتمرات المحلية والدولية، ولها كتب مطبوعة، منها:
1/ المرأة المسلمة ومتطلبات التنمية والبناء، صدر في لبنان، 2000م.
2/ موقع المرأة في النظام السياسي الإسلامي، وهي رسالتها للدكتوراة، صدرت النسخة الإنجليزية في 2006م، والنسخة العربية في 2007م.
3/ حركة تغريب المرأة الكويتية، صدر في لبنان، 1974م.
4/ مشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني (المحور الثقافي)، صدر في الكويت، 1996م.
وهي عضو في المجلس الأعلى لشؤون الأسرة التابع لمجلس الوزراء في دولة الكويت من سنة 2016.
وعضو مؤسّس لحوزة علمية دينية، وللرابطة الوطنية للأمن الأسري (رواسي)، وللتجمّع الوطني للنهوض بأدوار المجتمع المدني (تنامي)، وللجنة إنصاف المواطنة الكويتية (إنصاف)، ولمركز العطاء للتربية الإسلامية الوطنية لأجيال المستقبل.
وهي سفيرة الكويت للنوايا الحسنة في منظمة السّلام والتنمية الدولية التابعة للأمم المتحدة.
وهي أول من دشّنت الالتزام بالحجاب الشرعي في جامعة الكويت عام 1972م، وكانت تدرّس الرياضيات في كلية العلوم، وكانت المحجبة الوحيدة آنذاك في الجامعة.
وحاولت إدارة الكلية ثنيها عن ذلك لكنّها تمسّكت بقرارها من منطلق ديني، وكتبت عنها الصحافة الكويتية آنذاك، وأطلق عليها الراهبة، وواجهت السّخرية والتعليقات اللاذعة من صديقاتها، وحتى في داخل عائلتها.
كان أبوها سفيرًا للكويت في ليبيا، وحينما سافرت إليه في العطلة الصيفية، كان في استقبالها في المطار، ومعه الملحق الثقافي، فاصطدم برؤيتها محجبة وعدم مصافحتها للرجال.
تقول في مقابلة صحفية (أصيب بصدمة عندما رآني وظنّ أنّي لست ابنته، وزعل عليَّ ثلاثة أيام، ولم يكلّمني ثم رضي عنّي)[5] .
وبالمناسبة زوجها رجل أعمال كبير في الكويت هو الحاج عبدالوهاب الوزّان الذي كان وزيرًا في الحكومة الكويتية، ومن رجالات الكويت البارزين، في المجال الاقتصادي والاجتماعي. والدكتورة خديجة أم لسبعة أولاد، ابنان وخمس بنات.
حقًّا إنّ الدكتورة خديجة المحميد أنموذج مشرق للمرأة المسلمة التي تعتزّ بهويتها وقيمها، وتنفتح على تطورات الحياة الحديثة، وتقتحم ميدان المعرفة الدينية، وتتصدّى لهموم وطنها ومجتمعها.
إنّني أدعو بنات مجتمعنا لقراءة سيرتها، والاستفادة من تجربتها.