الإمام الباقر والتأسيس لمدرسة أهل البيت (ع)
أخرج الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة عن جابر بن عبدالله عن رسول الله أنه قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي"[1] .
يعتقد الشيعة أنّ لأئمة أهل البيت مقامين: مقام المرجعية الدينية، ومقام القيادة السياسية للأمة. ويستدلِّون على ثبوت المقامين بمؤهِّلات الكفاءة والجدارة التي تميَّز بها أئمة أهل البيت عن غيرهم، وبالنُّصوص الواردة في حقِّهم عن رسول الله .
ويبدو أنَّ مقام مرجعيَّتهم الدينية هو الأهمّ؛ لحاجة الأمَّة إليهم في أخذ معالم الدِّين وأحكامه، باعتبارهم الأعرف بها، لذلك جعلهم النبي عدلًا للكتاب، وهو القرآن الكريم، (مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي) ووجودهم إلى جانب القرآن ضروري لفهم ما تشابه من آياته، وما قد يختلف الناس في تفسيره، ولأنَّهم الأقدر على الاستنباط من القرآن وتطبيقه على الوقائع والموارد.
وما لم يرد تفصيله من شرائع الدِّين في القرآن الكريم، فإنَّ لدى أئمة أهل البيت سنَّة النبي التي حفظوها ووعوها.
إنَّ مقام المرجعية الدينية ثابت التحقُّق في وجودهم، أما مقام القيادة فهو ممارسة خارجية قد يتحقَّق وقد لا يتحقَّق.
أولوية الإمامة الدِّينية عند أهل البيت
من ناحية أخرى، فإنَّ أئمة أهل البيت كانوا مهتمِّين بالقيام بدور المرجعية الدِّينية، بينما لم يكن لهم اهتمام بمقام القيادة والخلافة، ولم يبحثوا عنه ولم ينازعوا فيهنَّ، وقد روي عن علي في حديثه عن الخلافة: "كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ"[2] .
إنَّ المهمَّة الأولى والأساس لأئمَّة أهل البيت ، هي حفظ الرسالة، وتبيين الشَّريعة، أما تحمُّل أعباء الحكم والسُّلطة فهي مهمَّة ثانية ثانوية، قياسًا للمهمَّة الرسالية الأولى. فإذا ما تعارضت المهمَّتان، كما حصل بسبب الأطماع السِّياسيَّة، والصِّراعات المصلحية، فإنَّ الأولوية عندهم للمهمَّة الأولى.
وقد كتب الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله، حول هذا الموضوع، بحثًا علميًّا رائعًا، في كتابه (نظام الحكم والإدارة في الإسلام) تحت عنوان (ماهيَّة الإمامة ومسؤولية الإمام الأولى عند الشِّيعة) وخلاصة ما جاء فيه: إنَّ المهمَّة التي تكوِّن ماهيَّة الإمامة، وأساس تشريعها من الله تعالى في المعتقد والتَّشريع الإسلامي، عند الشِّيعة الإماميَّة، هي مهمَّةٌ تتعلَّق بالإسلام نفسه، عقيدةً وشريعةً على مستوى الحراسة، والتبليغ، والتفسير والحفظ. وأما المهمَّة السِّياسيَّة التَّنظيميَّة - مهمَّة الحكم السياسي- فتقع في الدرجة الثانية من مهمَّات الإمام المعصوم، ولا تكوِّن ماهيَّة الإمامة، بل يمكن أن تحول أسباب قاهرة بين الإمام وبين ممارستها، دون أن تتأثر ماهيَّة الإمامة المعصومة، والمهمَّة الأساس للإمام المعصوم، وهي كونها استمرارًا للنبوَّة من دون الوحي.
وبتفحُّص الرِّوايات والنُّصوص الواردة عن أهل البيت حول قضيَّة الإمامة نجد أنَّها تركِّز على المهمَّة الأولى، من حيث ضرورتها، وحاجة الدِّين والأمَّة لها، وأهليَّة الأئمَّة دون غيرهم للتصدِّي لها، أما البُعد الثاني المتَّصل بتصدِّي الإمام للحكم والسُّلطة، فلم يَحْضَ إلَّا بعددٍ قليلٍ من الرِّوايات والنُّصوص.
واستعرض الشيخ شمس الدين نصوص الإمامة في مصدرين شيعيين أساسيين، هما: كتاب (الكافي) للشيخ الكليني (توفي 328هـ)، وكتاب (علل الشَّرائع) للشيخ الصَّدوق (توفي381هـ)؛ ليؤكِّد تركيزها على الجانب الأول، وكثرة وكثافة النُّصوص حوله. وبعضها ظاهر في أولويته[3] .
وانطلاقًا من هذه الرُّؤية يعطي بعض علماء الشِّيعة الأولوية لبحث موضوع المرجعية الدينيَّة العلميَّة لأهل البيت على موضوع إثبات مقام الخلافة والقيادة لهم، ومنهم المرجع الأعلى في زمانه السيِّد حسين البروجردي، يقول عنه تلميذه الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني: إنَّه كان يرى عدم أهميَّة بحث موضوع الخلافة لأهل البيت في الزمن الحاضر، فإنَّها قضيَّة قد انتهت، وما شغلنا بشيءٍ قد مضى حتى نتطاحن عليه، بل المهمُّ هو البعد العلمي للأئمَّة وإثبات وجوب أخذ معالم الدِّين وأحكامه منهم[4] .
الدَّور العلميّ للإمام الباقر
الإمام محمّد بن علي الباقر ، هو الإمام الخامس من أئمَّة أهل البيت ، ولد بالمدينة المنورة سنة 57هـ، وقبض بها سنة 114هـ، وعمره 57 سنة.
وتُشكِّل سيرته أنموذجًا لتحمّل الأئمَّة لمسؤولية تبيين معالم الدِّين وأحكام الشَّريعة، حيث تصدَّى لنشر المعارف الدِّينية.
وقد اشتهر الإمام بلقب الباقر، وفسَّره العلماء والمؤرِّخون بتضلُّعه في العلم.
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْمَعْرُوفُ بِالْبَاقِرِ؛ لِأَنَّهُ بَقَرَ الْعِلْمَ، أَيْ شَقَّهُ وَفَتَحَهُ فَعَرَفَ أَصْلَهُ وَتَمَكَّنَ فِيهِ[5] .
وقال الذَّهبي في سير أعلام النُّبلاء: شُهِرَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِالبَاقِرِ، مِنْ: بَقَرَ العِلْمَ، أَيْ: شَقَّهُ، فَعَرَفَ أَصْلَهُ وَخَفِيَّهُ[6] .
وحتى اللُّغويون أشاروا لذلك في شرحهم لمعنى البَقْر. قال الرازي في مختار الصِّحاح: التبقُّر: التَّوسُّع في العلم. ومنه محمَّد الباقر؛ لِتَبَقُّرِهِ في العلم[7] .
وقال ابن منظور في لسان العرب: والتَّبَقُّر التَّوسُّع في العلم، والمال، وكان يقال لمحمَّد بن علي بن الحسين بن علي الباقر، رضوان الله عليهم؛ لأنَّه بَقَرَ العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتبقَّر في العلم. وأصل البَقْر: الشَّقُّ والفتح والتَّوسِعَة.
وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: كان محمَّد بن علي سيِّد فقهاء الحجاز، ومنه ومن ابنه جعفر تعلَّم النَّاس الفقه، وهو الملقَّب بالباقر، لقَّبه به رسول الله ولم يُخلق بعد، وبُشّر به، ووُعد جابر برؤيته[8] .
وقال ابن حجر في الصَّواعق المحرقة: أبو جعفر، محمّد الباقر؛ سمّي بذلك: مِن بَقَر الأرض، أي شَقَّها وأثار مُخْبآتِها ومكامِنَه ؛ فلذلك هو أظهر مِن مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحِكَم واللطائف ما لا يخفى إلَّا على منطمس البصيرة أو فاسد الطَّوِيَّة والسَّريرة، ومِن ثَمّ قيل فيه: هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه، صفا قلبه وزكا علمه وعمله، وطَهُرتْ نفسه وشَرُف خُلُقُهُ وعمِّرتْ أوقاته بطاعة الله، وله من الرُّسوم في مقامات العارفين ما تكلُّ عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السُّلوك والمعارف لا تحتملها هذه العُجالة، وكفاه شرفًا أنَّ ابن المديني روى عن جابر أنّه قال له وهو صغير: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُسلِّم عليك، فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: كنتُ جالسًا عنده والحسين في حجره وهـو يداعبه، فقال: (يا جابر، يُولِدُ له مولود اسمه علي، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ليقم سيِّد العابدين، فيقوم ولده، ثمّ يولد له ولد اسمه محمَّد، فإنْ أدركتَه يا جابر فاقْرِئْهُ منِّي السَّلام)[9] .
التأسيس لمدرسة أهل البيت
ويمكن اعتبار الإمام الباقر هو المؤسِّس لمدرسة أهل البيت عقديًّا وفقهيًّا، فقد كان التَّشيُّع لأهل البيت حالة ولاء ومحبَّة، وتحوَّل إلى موقف سياسي في مواجهة الحكم الأموي، خاصَّة بعد حادثة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين .
لكنَّ التَّشيُّع في بدايات القرن الثاني بدأ يتميَّز كمدرسة عقدية فقهيَّة مستقلَّة، في الوقت الذي بدأت تتشكَّل فيه سائر المدارس الكلامية والفقهيَّة الأخرى. وهذا ما أشار إليه عددٌ من الباحثين، كالدكتور السَّيد حسين المدرسي الطباطبائي في كتابه (تطوُّر المباني الفكريَّة للتَّشيُّع في القرون الثلاثة الأولى- دار الهادي، 2008م)، والباحثة الدكتورة الرَّزينة لالاني في كتابها (الفكر الشِّيعي المبكرِّ تعاليم الإمام الباقر- دار السَّاقي 2004م) ترجمه للعربية سيف الدين القصير.
ويؤيِّد هذه الفكرة ما روي عن الإمام الصادق في رجال اَلْكَشِّيِّ ص424: "وَكَانَتِ اَلشِّيعَةُ قَبْلَهُ [الإمام الباقر] لاَ يَعْرِفُونَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ حَلاَلٍ وَحَرَامٍ إِلَّا مَا تَعَلَّمُوا مِنَ اَلنَّاسِ، حَتَّى كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ ففَتَحَ لَهُمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ وَعَلَّمَهُمْ".
وجاء في تفسير العيَّاشي ص202-203 حديث مشابه، عن الإمام الصَّادق : "كَانَتِ اَلشِّيعَةُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ مَنَاسِكَ حَجِّهِمْ وَحَلاَلَهُمْ وَحَرَامَهُمْ حَتَّى كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَحَجَّ لَهُمْ وَبَيَّنَ مَنَاسِكَ حَجِّهِمْ وَحَلاَلَهُمْ وَحَرَامَهُمْ، حَتَّى اسْتَغْنَوْا عَنِ اَلنَّاسِ، وَصَارَ اَلنَّاسُ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمْ بَعْدَ مَا كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ مِنَ اَلنَّاسِ".
لقد تصدَّى الإمام الباقر لتبيين معالم الدِّين، وتربية العلماء، وإرشاد الأمَّة، وصار روَّاد المعرفة وطلاب العلم يفدون إليه في مدينة جدِّه رسول الله لينهلوا من علمه، يقول الشيخ محمد أبو زهرة: وما قصد أحدٌ من العلماء مدينة النبي إلَّا عرَّج عليه ليأخذ عنه معالم الدين[10] .
وقد أحصى الباحث الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه (حياة الإمام الباقر) أسماء 482 من تلامذته ورواة حديثه.
ثم جاء ابنه الإمام جعفر الصادق ليواصل مسيرته العلمية، ويوسِّع آفاق مدرسته، التي استوعبت الآلاف من طلاب العلم والمعرفة.
فالإمام الباقر وابنه الإمام جعفر الصادق هما المؤسِّسان لمدرسة أهل البيت ، لذلك كانت الأحاديث والرُّوايات عنهما هي الأكثر في تراث المذهب.
وقد بذل العلماء المنتمون لأهل البيت جهدهم عبر العصور لحفظ تراث المدرسة العلمية لأئمَّة أهل البيت رغم الصُّعوبات والتَّحدِّيات التي واجهتهم.
الواجب تجاه تراث أهل البيت
وفي هذا العصر فإنَّ على أتباع مدرسة أهل البيت مسؤولية كبيرة في نشر معارفهم، وإظهار سيرتهم المشرقة.
وهذا ما يطلبه الأئمَّة من شيعتهم وأتباعهم.
فعَنْ عَبْدِاَلسَّلاَمِ بْنِ صَالِحٍ اَلْهَرَوِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا اَلْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى اَلرِّضَا يَقُولُ: رَحِمَ اَللَّهُ عَبْدًا أَحْيَا أَمْرَنَا، فَقُلْتُ لَهُ: وَكَيْفَ يُحْيِي أَمْرَكُمْ؟ قَالَ: "يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا، وَيُعَلِّمُهَا اَلنَّاسَ، فَإِنَّ اَلنَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلاَمِنَا لاَتَّبَعُونَا"[11] .
فإحياء أمرهم لا يقتصر على التفاعل العاطفي مع فضائلهم، ومصائبهم، بل الأساس فيه تعلُّم معارفهم ونشرها.
ومن أبرز المصاديق إنشاء مراكز البحوث والدِّراسات، لدراسة تراث الأئمَّة، وتمحيصه وتحقيقه، بفكر حرٍّ منفتح، ومنهجيَّة علميَّة، ونشره بلغة عصريَّة، تعالج المشاكل والتَّحدِّيات التي يواجهها إنسان العصر.
ولعلَّ من أهمِّ مصارف أوقاف أهل البيت والحقوق الشَّرعية الرَّاجعة لهم هو تمويل البحوث العلميَّة النَّافعة، وإنشاء الكراسي العلميَّة في الجامعات المرموقة لدراسة سيرة الأئمَّة وفكرهم، وليس الاقتصار على البرامج الشَّعائرية التقليديَّة.