معالم الشخصية الإيمانية عند الإمام الرضا (ع)
ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا : «لاَ يَسْتَكْمِلُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ اَلْإِيمَانِ حَتَّى تَكُونَ فِيهِ خِصَالٌ ثَلاَثٌ، اَلتَّفَقُّهُ فِي اَلدِّينِ، وَحُسْنُ اَلتَّقْدِيرِ فِي اَلْمَعِيشَةِ، وَاَلصَّبْرُ عَلَى اَلرَّزَايَا»[1] .
يتحدّث الإمام الرضا في هذا النص المروي عنه عن ثلاثة معالم للشخصية الإيمانية المستكملة لحقيقة الإيمان.
المعلم الأول: الوعي الديني
الدّين ليس مجرّد انتماء موروث يكسبه الإنسان من عائلته التي يعيش في أحضانها.
ولا هو مجموعة طقوس وتقاليد ينشأ عليها الإنسان ضمن بيئته الاجتماعية.
إنه رؤية للحياة، وقيم يؤمن بها الإنسان، ونهج سلوكي يلتزم به، وذلك يستلزم فهمًا وإدراكًا واعيًا للدين.
من هنا جاءت التعاليم الدينية تدعو الإنسان للتفقّه في الدين، والتفقّه مرتبة أعلى من التعلم، جاء في لسان العرب: الفقه في الأصل: الفهم. يقال أوتي فلانًا فقهًا في الدين، أي فهمًا فيه.
وقال الراغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن: (الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخصّ من العلم).
ويقول تعالى: ﴿فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾[2] ، ونجد في القرآن استعمال الفقه فيما يخفى علمه كقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[3] .
ويقول تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾[4] ، ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾[5] ، ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾[6] .
فالتفقّه هو التعلم مع فهم ووعي، وليس مجرّد تحصيل المعلومة، فتعلّم الدين مطلوب، وعلى الإنسان أن يطمح إلى درجة راقية منه، وهو الفهم والوعي فيما يعرفه من الدّين.
ورد عن علي : «تَعَلَّمُوا اَلْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ اَلْحَدِيثِ، وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ اَلْقُلُوبِ»[7] .
جاء رجل إلى رسول الله ليعلمه القرآن فانتهى إلى قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ فَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا وَاِنْصَرَفَ. فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ : «اِنْصَرَفَ اَلرَّجُلُ وَهُوَ فَقِيهٌ»[8] . أي فهم جوهر الدين، وهو المسؤولية بأن يدرك الإنسان أنه مسؤول عن أعماله خيرًا أو شرًّا.
إنه مطلوب من الإنسان أن يفهم الدين الذي ينتمي إليه ويؤمن به، وذلك يعني أن يصرف شيئًا من وقته وجهده لمعرفة مفاهيم دينه وتعاليمه.
وهذا من أظهر مصاديق ما ورد عنه : «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيْضَةٌ عَلَىْ كُلِّ مُسْلِمٍ»[9] .
وعنه : «أُفٍّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ لاَ يَجْعَلُ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ يَوْمًا يَتَفَقَّهُ فِيهِ أَمْرَ دِينِهِ وَيَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ)[10] .
وورد عن الإمام الصادق : «لَوَدِدْتُ أَنَّ أَصْحَابِي ضُرِبَتْ رُءُوسُهُمْ بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَتَفَقَّهُوا»[11] .
وقد جاء التأكيد على وعي النصوص الدينية وليس مجرّد حفظها وتلقينها.
يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾[12] ، ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾[13] .
عنه : «نَضَّرَ اَللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا»[14] .
وعن الإمام الباقر: «اِعْرِفْ مَنَازِلَ اَلشِّيعَةِ عَلَى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ، فَإِنَّ اَلْمَعْرِفَةَ هِيَ اَلدِّرَايَةُ لِلرِّوَايَةِ»[15] .
وورد عن علي : «اِعْقِلُوا اَلْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لاَ عَقْلَ رِوَايَةٍ، فَإِنَّ رُوَاةَ اَلْعِلْمِ كَثِيرٌ وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ»[16] .
وفي حديث آخر يحذّرنا رسول الله من الاغترار بمظاهر التديّن عند أيّ إنسان إذا لم نتأكد من تعقّله؛ لأنّ التعقّل هو مقياس التديّن وميزان التقويم، يقول فيما رُويَ عنه: «إذا بَلَغَكُم عَن رَجُلٍ حُسنُ حالٍ فَانظُروا في حُسنِ عَقلِهِ، فَإِنَّما يُجازى بِعَقلِهِ»[17] .
وتطبيقًا لهذا التوجيه النبويّ جاءت الرواية التالية، قال سُلَيمانُ الدَّيلَمِيُّ: قُلتُ لِأَبي عَبدِاللّهِ الإمام جعفر الصادق : فُلانٌ مِن عِبادَتِهِ ودينِهِ وفَضلِهِ كذا وكذا، فَقالَ: «كَيفَ عَقلُهُ؟» قُلتُ: لا أدري، فَقالَ: «إنَّ الثَّوابَ عَلى قَدرِ العَقلِ»[18] .
وأورد الكليني في حديث موثّق بسنده عن علي بن أسباط عن الحسن بن الجهم، «عن أبي الحسن الرضا قال: ذكر عنده أصحابنا وذكر العقل قال: فقال : «لا يعبأ بأهل الدين ممن لا عقل له، قلت: جعلت فداك، إنّ ممن يصف هذا الأمر قومًا لا بأس بهم عندنا وليست لهم تلك العقول، فقال: ليس هؤلاء ممن خاطب الله، إنّ الله خلق العقل فقال له: أقبل فأقبل، وقال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزّتي وجلالي ما خلقت شيئًا أحسن منك أو أحبّ إليَّ منك، بك آخذ وبك أعطي»[19] .
وحين سأل ابْنُ السِّكِّيتِ الإمام علي الرضا : مَا الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ الْيَوْمَ؟
قَالَ : «الْعَقْلُ؛ يَعْرِفُ بِهِ الصَّادِقَ عَلَى اللهِ فَيُصَدِّقُهُ، وَالْكَاذِبَ عَلَى اللهِ فَيُكَذِّبُهُ»[20] .
المعلم الثاني: النجاح في الحياة
الدّين ليس مشروعًا للخلاص والفوز في الآخرة فقط، بل هو قبل ذلك مشروع نجاح في الحياة الدنيا.
يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾[21] .
وورد عن الإمام محمد الباقر : «مَنْ كَسِلَ عَنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ فَهُوَ عَنْ أَمْرِ آخِرَتِهِ أَكْسَلُ»[22] .
إنه يفترض في المؤمن أن يكون حسن التخطيط لمعيشته، وحسب تعبير الرواية عن الإمام «حُسْنُ اَلتَّقْدِيرِ فِي اَلْمَعِيشَةِ»[23] .
وذلك بأن يسعى لكي يكون له دخل جيّد، يدير به شؤون حياته، ويوسّع على عياله، ويمدّ يد العون لأبناء مجتمعه.
ورد عن النبي : «إنَّ اللّه َ تعالى يُحِبُّ أن يَرى عَبدَهُ تَعِبًا في طَلَبِ الحَلالِ)[24] .
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «لاَ خَيْرَ فِي مَنْ لاَ يُحِبُّ جَمْعَ اَلْمَالِ مِنْ حَلاَلٍ يَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ وَيَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ وَيَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ»[25] .
وعنه : «اَلْكَادُّ عَلَى عِيَالِهِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ»[26] .
ومن ناحية أخرى، عليه أن يتوازن في إنفاقه ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾[27] .
وأن يتوخى النجاح في علاقته بمن حوله.
ورد عن الإمام الصادق : «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحْسِنْ صُحْبَةَ مَنْ صَحِبَهُ»[28] .
وعن الإمام علي : «اَلْمُؤْمِنُ مَأْلُوفٌ، وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ»[29] .
إنّ حسن إدارة العلاقة مع القريبين والبعيدين هو من معالم الشخصية الإيمانية، في الحياة العائلية، وفي المسيرة التعليمية، وفي العمل الوظيفي، وفي العلاقات العامة.
المعلم الثالث: استيعاب المشاكل والتحدّيات
فمن طبيعة الحياة حصول المشاكل، ووقوع الحوادث والمصائب من مرض، أو فقد عزيز، أو خسارة مال، أو التعرّض لعدوان.
وهنا لا بُدّ وأن يتحلّى الإنسان بالصبر والثبات، ليستطيع تجاوز هذه الرزايا والمصائب. والاستمرار في مسيرة الحياة.
ورد عن الإمام علي : «إِنْ صَبَرْتَ جَرَتْ عَلَيْكَ اَلْمَقَادِيرُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ، وَإِنَّكَ إِنْ جَزِعْتَ جَرَتْ عَلَيْكَ اَلْمَقَادِيرُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ»[30] .
إنك لا تستطيع منع حصول الرزايا والمصائب، فإذا ضعفت أمامها وأصابك الانهيار، فستدفع لذلك ثمنًا باهظًا، ويزداد وقع المصيبة عليك. بينما يمكّنك الصبر من التخفيف من آثار المصيبة وسرعة التجاوز لمضاعفاتها.