الصادق الأمين
ورد عن علي : «لَمّا خَرَجَ رَسولُ اللّهِ إلَى المَدينَةِ فِي الهِجرَةِ، أمَرَني أن اُقيمَ بَعدَهُ حَتّى اُؤَدِّيَ وَدائِعَ كانَت عِندَهُ لِلنّاسِ؛ ولِذا كانَ يُسَمَّى الأَمينَ»[1] .
حين يكون في يد الإنسان مال للغير، فإنه لحبّه للمال ورغبته في حيازة المزيد منه، قد يستولي على مال الغير الذي في يده، حتى وإن لم يكن محتاجًا لذلك المال.
لكنّ فطرة الإنسان النقية، والضمير الذي أودعه الله في أعماق نفسه يرفض هذا التصرف ويعتبره خيانة وظلمًا. فكما لا يرضى الإنسان أن يخونه الآخرون في ماله، كذلك لا يسمح ضميره ووجدانه بممارسته الخيانة في أموال الآخرين.
وهذا المبدأ الفطري الإنساني يطلق عليه الأمانة ضُدّ الخيانة، والأمانة مصدر من مادة (أَ مَ نَ) التي تدلّ على سكون القلب واطمئنانه وزوال الخوف. وتطلق صفة الأمين على الشخص الذي يشعر القلب بالاطمئنان عند إيداعه شيئًا، كما تطلق الأمانة على الشيء المودَع أيضًا.
وقد تبنّت الشرائع الإلهية هذا المبدأ الفطري.
ورد عن الإمام الصادق : «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِر»[2] .
إنّ صفة الأمانة تكشف عن انحياز الإنسان لفطرته وضميره، وتحكّمه في رغباته، كما تدلّ على احترامه لحقوق الآخرين وأموالهم، والتزامه بتشريعات الدين.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا﴾[3] ، ومن أبرز صفات المؤمنين المفلحين رعايتهم للأمانة، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾[4] .
وقد أكّد رسول الله أنّ الأمانة مقوّم أساس للدين والتديّن، حيث ورد عنه : «لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ»[5] .
وفي حديث آخر ورد عنه يعتبر فيه أنّ مقياس التديّن ومعياره هو التزام الأمانة وليس أداء العبادات فقط. فقد جاء عن الإمام محمد الجواد عن آبائه عن رسول الله : «لا تَنْظروا إلى كَثرَةِ صَلاتِهِم وصَومِهِم، وكَثرَةِ الحَجِّ، والمعروفِ، وَطَنطَنَتِهِم باللّيلِ! ولكنِ انْظُروا إلى صِدقِ الحديثِ وأداءِ الأمانةِ»[6] .
وورد عنه : «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ»[7] .
وليس هناك استثناء في الناس في مجال حفظ أماناتهم وردها إليهم، مهما اختلفت أديانهم وتوجهاتهم، وهذا ما يؤكده النبي في السّاعة الأخيرة من حياته، جاء عن علي : «أُقْسِمُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ يَقُولُ لِي قَبْلَ وَفَاتِهِ بِسَاعَةٍ مِرَاراً ثَلاَثاً: يَا أَبَا اَلْحَسَنِ، أَدِّ اَلْأَمَانَةَ إِلَى اَلْبَرِّ وَاَلْفَاجِرِ فِيمَا جَلَّ وَقَلَّ حَتَّى اَلْخَيْطِ وَاَلْمِخْيَطِ»[8] .
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «اِتَّقُوا اَللَّهَ وَعَلَيْكُمْ بِأَدَاءِ اَلْأَمَانَةِ إِلَى مَنِ اِئْتَمَنَكُمْ وَلَوْ أَنَّ قَاتِلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ اِئْتَمَنَنِي عَلَى أَمَانَةٍ لَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ»[9] .
سمة مميّزة لرسول الله
وكانت الأمانة سمة مميّزة لرسول الله حتى قبل بعثته.
جاء في تاريخ الطبري: (كَانَتْ قريش تسمى رسول الله قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ: الأَمِينَ)[10] .
و (كَانَ رَسُولُ الله وَلَيْسَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَخْشَى عَلَيْهِ إلّا وضعه عند رسول الله ، لِمَا يُعْرَفُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ)[11] .
و (لَمَّا بَلَغَ خديجة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مَا بَلَغَهَا مِنْ صِدْقِ حَدِيثِهِ، وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ، وَكَرَمِ أَخْلَاقِهِ، بَعَثَتْ إِلَيْهِ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالِهَا إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا)[12] .
وجاء عن علي : «لَمّا خَرَجَ رَسولُ اللّه ِ إلَى المَدينَةِ فِي الهِجرَةِ أمَرَني أن اُقيمَ بَعدَهُ حَتّى اُؤَدِّيَ وَدائِعَ كانَت عِندَهُ لِلنّاسِ، ولِذا كانَ يُسَمَّى الأَمينَ، فَأَقَمتُ ثَلاثا فَكُنتُ أظهَرُ، ما تَغَيَّبتُ يَومًا واحِدًا، ثُمَّ خَرَجتُ فَجَعَلتُ أتَّبِعُ طَريقَ رَسولِ اللّه»[13] .
وفي الطبقات الكبرى: (إنَّ رَسولَ اللّه ِ لَمّا تُوُفِّيَ أمَرَ عَلِيٌّ صائِحًا يَصيحُ: «مَن كانَ لَهُ عِندَ رَسولِ اللّه ِعِدَةٌ أو دَينٌ فَليَأتِني». فَكانَ يَبعَثُ كُلَّ عامٍ عِندَ العَقَبَةِ يَومَ النَّحرِ مَن يَصيحُ بِذلِكَ، فَلا يَأتي أحَدٌ مِن خَلقِ اللّهِ إلى عَلِيٍّ بِحَقٍّ ولا باطِلٍ إلّا أعطاهُ)[14] .
إنّ هذا التأكيد النبوي على صفة الأمانة من خلال سيرة رسول الله ، ومن خلال أحاديثه وأقواله، يفرض على كلّ مسلم أن يلتزم هذا الخلق القويم، وأن يتحلّى بهذه السّمة المهمّة، ويفرض أن يكون السّلوك العام في المجتمع الإسلامي متصفًا بهذه الصفة. فذلك ما يؤكد الثقة بين أبناء المجتمع، ويحفظ الحقوق، ويصون المال العام والخاص.
الأمانة تصنع الثقة والسّعادة
إنّ الأمانة تصنع الثقة بين الناس، فتجعلهم أكثر اطمئنانًا وتفاؤلًا وسعادة، بينما يؤدي ضعف الأمانة إلى سيادة حالة القلق بين أبناء المجتمع من بعضهم بعضًا، وإلى كثرة المشاكل والخلافات، وانعدام الشّعور بالسّعادة والأمن.
تصنف الدانمارك من أكثر الدول التي تسود الثقة داخل مجتمعها، وهو ما جعلها على قائمة الدول الأكثر سعادة في العالم.
وتنعكس هذه الثقة بممارسات مثل عرض منتجات للبيع دون مراقبة، أو ترك الأطفال دون حراسة.
أمٌّ تترك رضيعها في خارج المقهى وتجلس داخله تحتسي القهوة.
بائع يترك بضاعته على الطريق، ويكتفي صاحبها بتحديد ثمن المنتج، ويترك الناس يأخذونه ويضعون النقود، ويؤكد المزارع أنه لم يلدغ بسرقة من قبل: في نهاية اليوم أجد كلّ المال في الصندوق، لا أعرف كيف يكون ذلك لكنّه واقع.
كلمة السِّر في كلّ ذلك هي (الثقة)، فهذا بلد يثق الناس في بعضهم بعضًا.
باحثون دنماركيون: نسبة الثقة بالآخرين في المجتمع ارتفعت إلى 80% بعد أن كانت أقلّ من 50% في السّبعينيات[15] .
تجلّيات عدم الأمانة في السّلوك الاجتماعي
ونريد أن نسلّط الضوء على بعض تجلّيات انعدام صفة الأمانة في السّلوك الاجتماعي العام.
1/ الاهتمام بأداء الدَّين وعدم المماطلة.
2/ هناك من يتجه للاستثمار بأموال الآخرين، ويعدهم بالأرباح، ثم يستولي على تلك الأموال، ولا يرجع إلى أصحابها حتى رؤوس أموالهم. وقد يكون من النصابين المحتالين، أو أنه يفشل في محاولاته الاستثمارية. وهنا لا بُدّ وأن يحذر الناس من الاستجابة لمثل هذه الدعوات، وألّا يضعوا أموالهم إلّا ضمن قوانين واتفاقيات تحفظ حقوقهم.
ففي عام 2016م سجلت في المملكة العربية السعودية 4275 حالة احتيال، وبمبالغ زادت على 520 مليون ريال، ورصدت البنوك 2613 عملية احتيال مالي خلال العام 2018م[16] .
3/ هناك بعض الورثة يستولون على أموال بقية الورثة وخاصة النساء والقصّر.
4/ والجانب المهم هو رعاية الأمانة في المال العام، حيث تكون تحت تصرف المسؤولين في أجهزة الدولة ميزانيات مرصودة لخدمات المواطنين ولمصالح البلاد، لكن من يفتقد صفة الأمانة تسوّل له نفسه الاستيلاء على المال العام، وأخذ الرشوات على حساب مصالح الوطن والمواطنين، وذلك من أعظم مظاهر خيانة الأمانة، وممارسة الفساد.
وبحمد الله تعالى فإنّ قيادة الوطن اعتمدت أسلوب الحزم في مواجهة الفساد والمفسدين، وبين فترة وأخرى تعلن النيابة العامة عن قوائم تضم مسؤولين وموظفين في مختلف قطاعات الدولة، من عسكريين وقضاة في مراتب مختلفة، ومن القطاع الخاص أيضًا.
ومن تجلّيات الالتزام بالأمانة في المال العام، ما يرتبط بالعمل في الجمعيات الخيرية والأندية الرياضية، والولاية على الأوقاف والمساجد والحسينيات، واستلام الأخماس والحقوق الشرعية.