اهتمامات الإنسان مرآة شخصيته
يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾[1] .
اهتمام الإنسان بأيِّ أمرٍ من الأمور يشغل حيّزًا من تفكيره، ويأخذ قسطًا من طاقته النفسية، ويستهلك جزءًا من جهده ووقته.
ولأنّ فرصة الإنسان في هذه الحياة محدودة بما يقدّر الله له من عمر وطاقة وجهد، فإنّ عليه أن يستثمر كلّ لحظة في حياته، وكلّ جزء من قدرته فيما يعود عليه بالخير في دنياه وآخرته.
لكنّ مشكلة الإنسان أنّ بعض الرغبات والانفعالات تستدرجه لبعض الاهتمامات الزائفة، التي تستهلك من عمره وطاقته فيما لا يعود عليه بنفع أو خير، بل قد يسبب له الضرر والخسارة في الدنيا أو الآخرة.
الاهتمامات الزائفة لغوٌ
ويطلق القرآن الكريم على هذه الاهتمامات الزائفة، عنوان: اللغو، وألغيته: أبطلته، وألغيته من العدد: أسقطته.
والأصل في مادة اللغو: (ما لا يُعتدّ به، ويقع من دون رويّة وفكر)[2] ، و(اللغو أعمّ من أن يكون في كلام أو عمل أو موضوع خارجي. كالكلام غير المفيد، والعمل إذا لم يترتب عليه نفع، وكلّ باطل أو لهو فهو لغو)[3] .
وقال الطبرسي في مجمع البيان: (اللغو هو: كلّ قول أو فعل لا فائدة فيه يعتد بها، فذلك قبيح محظور، يجب الإعراض عنه)[4] .
اختيار الاهتمامات
إنّ على الإنسان العاقل أن يقوّم الأمور ويفحصها، ويهتم بالمفيد والنافع منها، ويترك ما لا جدوى منه ولا فائدة فيه. أو فائدته ضئيلة لا تستحقّ صرف الاهتمام لها.
وقد يكون أمرٌ مفيدًا لشخص دون آخر، فيهتم به من يستفيد منه، ويعرض عنه من لا فائدة له فيه.
إنّ اهتمامات الإنسان تعكس شخصيته، فإذا كان هادفًا في حياته، تصبّ اهتماماته فيما يخدم هدفه، أما إذا كان تائهًا دون هدف، فإنه سيبحث عمّا يملأ فراغه، وإن كان أمرًا تافهًا.
وإذا كان قلبه سليمًا فإنه لا يتجه للتفكير في إيذاء الآخرين، أما من تمتلئ نفسه بالعقد والأمراض، فإنه ينشغل بالنيل من هذا وذاك.
إنّ الله تعالى يجعل من أوائل صفات المؤمنين الناجحين الإعراض عن الاهتمامات التافهة.
يقول تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾[5] .
وعنه : «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ اَلْمَرْءِ تَرْكُهُ اَلْكَلاَمَ فِيمَا لاَ يَعْنِيهِ»[6] .
لأنّ انشغال الإنسان بالاهتمامات التافهة يكون على حساب اهتماماته الأخرى النافعة.
عنه : «إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها»[7] .
ورد عن الإمام علي : «مَنِ اِشْتَغَلَ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ فَاتَهُ مَا يَعْنِيهِ»[8] .
وعنه : «مَنِ اِشْتَغَلَ بِغَيْرِ اَلْمُهِمِّ ضَيَّعَ اَلْأَهَمَّ»[9] .
الإعراض عن اللغو
وقد يندفع الإنسان نحو الاهتمامات الزائفة حين يرى إقبال الآخرين عليها، لكنّ الدين والعقل يرشدان الإنسان إلى تقوية مناعته الذاتية، حتى لا ينجذب نحو اللغو وفاعليه.
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾[10] .
(والمراد بالمرور باللغو، المرور بالذين يمارسون اللغو، ويشتغلون به، فلا يتوقفون عندهم ليستمعوا إليهم، أو ليخوضوا معهم فيه، بل يعرضون عنه ويتابعون طريقهم إلى ما يريدون تنزّهاً عن ذلك)[11] .
وفي عصرنا الحاضر فإنّ بعض مواقع التواصل الاجتماعي تمثل إغراءً وفخًّا لإسقاط الإنسان في الاهتمامات التافهة الزائفة، فإذا لم يقرّر الإعراض عن هذا اللغو والمرور عليه مرور الكرام، فسيجد نفسه مُنشدًّا ومنجذبًا إليه، وقد يجرّه ذلك إلى الفساد والشقاء.
قد تكون البداية مكالمة أو رسالة عاطفية، يتجاوب الإنسان معها فتكون نتائجها وخيمة.
وقد يقرأ الإنسان أو يسمع تشهيرًا بشخص أو جهة، فينساق لمتابعة الموضوع ويتفاعل معه، حتى يصبح جزءًا من اهتماماته التي تشغله وتوقعه في المخالفات الشرعية والعداوات الاجتماعية.
الاستدراج إلى اللغو
وقد ينحدر الإنسان إلى اللغو والتفاهات مجاراة لمنافسيه، وردًّا على مناوئيه بلغتهم وأسلوبهم.
وهذا ما تحذّر منه التعاليم الدينية والمبادئ الأخلاقية، فإذا كان خصومك يستخدمون لغة بذيئة وأسلوبًا قذرًا، فلا تنحدر إلى مستواهم، بل كن في مستوى الخلق الرفيع، إكرامًا واحترامًا لنفسك، فلا تردّ الجهل بالجهل، واللغو باللغو.
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾[12] .
ورد عن الإمام الصادق : في تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ هو: «أَنْ يَتَقَوَّلَ اَلرَّجُلُ عَلَيْكَ بِالْبَاطِلِ، أَوْ يَأْتِيَكَ بِمَا لَيْسَ فِيكَ، فَتُعْرِضُ عَنْهُ لِلَّهِ»[13] .
وقال مقاتل: (هو الشتم، فإنّ كفّار مكة كانوا يشتمون النبي وأصحابه، فنهوا عن إجابتهم)[14] .
قال الإمام علي لقنبر وقد رام أن يشتم شاتمه: «مَهْلاً يَا قَنْبَرُ! دَعْ شَاتِمَكَ مُهَاناً، تُرْضِ اَلرَّحْمَنَ، وَتُسْخِطِ اَلشَّيْطَانَ، وَتُعَاقِبْ عَدُوَّكَ، فَوَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ، وَبَرَأَ اَلنَّسَمَةَ، مَا أَرْضَى اَلْمُؤْمِنُ رَبَّهُ بِمِثْلِ اَلْحِلْمِ، وَلاَ أَسْخَطَ اَلشَّيْطَانَ بِمِثْلِ اَلصَّمْتِ، وَلاَ عُوقِبَ اَلْأَحْمَقُ بِمِثْلِ اَلسُّكُوتِ عَنْهُ»[15] .
وورد عن الإمام الكاظم : «مَا تَسَابَّ اِثْنَانِ إِلَّا اِنْحَطَّ اَلْأَعْلَى إِلَى مَرْتَبَةِ اَلْأَسْفَلِ»[16] .
ورد عن الإمام علي : «نِصْفُ اَلْعَاقِلِ اِحْتِمَالٌ، وَنِصْفُهُ تَغَافُلٌ»[17] .
وعنه : «مَنْ لاَ يَتَغَافَلْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ اَلْأُمُورِ تَنَغَّصَتْ عِيشَتُهُ»[18] .
وجاء في سيرة الإمام زين العابدين : (شتم بعضهم زين العابدين صلوات الله عليه، فقصده غلمانه فقال: «دَعُوهُ فَإِنَّ مَا خَفِيَ مِنَّا أَكْثَرُ مِمَّا قَالُوا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَلَكَ حَاجَةٌ يَا رَجُلُ؟»)[19] ، واللّافت هنا أنّ الإمام لم يُعِرْ شتيمة الرجل أدنى اهتمام يذكر، وزاد على ذلك بأن عرض تلبية حاجة الرجل إن كان محتاجًا.
وفي حادثة أخرى استقبل الإمام رجلًا آخر، فأخذ يكيل للإمام السبّ والشتم، فأجابه الإمام بالقول: «يَا فَتَى؛ إِنَّ بَيْنَ أَيْدِينَا عَقَبَةً كَؤوداً، فَإِنْ جُزْتُ مِنْهَا فَلاَ أُبَالِي بِمَا تَقُولُ، وَإِنْ أَتَحَيَّرُ فِيهَا فَأَنَا شَرٌّ مِمَّا تَقُولُ»[20] ، ويشير إلى أنّ المرء معنيٌّ بما يشغله ويهمّه من أمر دنياه وآخرته، ولا يقف عند ما دون ذلك.
وفي حادثة أخرى شتمه رجل فأشاح الإمام بوجهه عنه، فقال الرجل: إيّاك أعني، فأجابه الإمام على الفور قائلًا: «وَعَنْكَ أُغْضِي»[21] ، مشيرًا إلى ترفّعه التام عن السُّباب والشّتائم. من هنا ينبغي أن نتربّى على هذه المواقف الرائعة، فلا يستوقفنا أيّ كلام، ولا نتفاعل مع كلّ ما يربك أفكارنا ويؤذي مشاعرنا وأحاسيسنا.
ويعبّر عن هذا الموقف المتسامي قول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
ويقول وليم شكسبير: "لا تأبه بالمحبطين، حافظ على نفسك من أعداء النَّجاح".
ويقول الشاعر:
حَسَدوا الفَتى إِذ لَم يَنالوا سَعيهُ
فَالقَومُ أَعداءٌ لَهُ وَخُصومُ