شهر رمضان.. حيوية ونشاط
شهر رمضان المبارك أفضل منطقة زمنية يمرّ بها الإنسان خلال العام حيث اختصّه الله بالخير الفضيل من بين سائر الأزمنة والأوقات ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ ، فقد جعل فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، واختاره لنزول القرآن.
وقد ورد عن النبي : «سَيِّدُ الشُّهورِ شَهرُ رَمَضانَ» .
لا للكسل والخمول
حينما يمتلك الإنسان وقتًا غاليًا مهمًّا، فإنّ عليه أن يقضيه في أفضل الأعمال والبرامج، لا أن يضيعه في الفراغ والكسل والاشتغال بتوافه الأمور.
وشهر رمضان كأفضل وأغلى فترة زمنية تمرّ على الإنسان في العام، ينبغي له أن يحرص على كلّ ساعة من ساعاته، ولحظة من لحظاته، فكما ورد في كلام رسول اللَّه : «أَيَّامُهُ أَفْضَلُ اَلْأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اَللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ اَلسَّاعَاتِ» .
ومعنى ذلك أن يحفل شهر رمضان بأفضل البرامج، وأحسن الأعمال، وأن يكون إنتاج الإنسان فيه أكثر، وفاعليته أكبر.
برامج عبادية مكثفة
لذا نرى التعاليم الإسلامية تقدّم برامج مكثفة من الأعمال العبادية في شهر رمضان:
ـ فهناك أوراد وصلوات مستحبّة كثيرة.
ـ وأدعية متنوعة لأيام وليالي هذا الشهر، ورد عن الإمام علي : «عَلَيْكُمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِكَثْرَةِ اَلاِسْتِغْفَارِ وَاَلدُّعَاءِ» .
ـ وقراءة القرآن يستحب زيادتها ومضاعفتها، كما ورد عن الإمام الباقر : «لِكُلِّ شَيْءٍ رَبِيعٌ، وَرَبِيعُ اَلْقُرْآنِ شَهْرُ رَمَضَانَ» .
توجيه للنشاط الاجتماعي
وفي المجال الاجتماعي: هناك توجيه ديني لتكثيف النشاط الاجتماعي في شهر رمضان، كما نقرأ في خطب رسول اللَّه عن هذا الشّهر الكريم حيث يقول : «وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ، وَمَسَاكِينِكُمْ، وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ، وَاِرْحَمُوا صِغَارَكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ.. وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ اَلنَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ.. أَيُّهَا اَلنَّاسُ مَنْ فَطَّرَ مِنْكُمْ صَائِمًا مُؤْمِنًا فِي هَذَا اَلشَّهْرِ كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اَللَّهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ، وَمَغْفِرَةٌ لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ» .
وفي حديث آخر عنه : «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» .
هذه الروايات وأمثالها تعني أن تكون للإنسان برامج مكثفة، خلال شهر رمضان، في الجانب العبادي، والمجال الاجتماعي، فتكون أوقات الإنسان فيه معمورة بالنشاط، حافلة بالحركة.
فهو شهر النشاط والحركة والعمل.
مسار خطأ
لكنّ ما تعوّده كثيرون في مجتمعاتنا، هو اتّخاذ هذا الشهر الكريم موسمًا للخمول والكسل، حيث يتدنّى فيه الأداء التعليمي في المدارس، والوظيفي في الدوائر والمؤسّسات، ويقضي قسم كبير من الناس فيه النهار نومًا واسترخاءً، بحجة الصيام، وكأنّ الصوم داعٍ للكسل، أو بديل عن العمل، فيوقف الإنسان حركته لكي يصوم، وتلحظ بعض التقارير انخفاض مستوى الإنتاجية العملية لدى قسم من المجتمعات الإسلامية في شهر رمضان.
بينما نجد في تاريخنا الإسلامي أنّ شهر رمضان المبارك قد احتضن كثيرًا من المعارك الفاصلة بين المسلمين والكفّار، وسجّل المسلمون فيه أروع البطولات والانتصارات، فغزوة بدر الكبرى وقعت في أول شهر رمضان يفرض اللَّه صومه، في السنة الثانية للهجرة، وفتح مكة المكرمة حصل في شهر رمضان، للسنة الثامنة للهجرة، وفي شهر رمضان فتح المسلمون جزيرة (رودس) سنة 53هـ كما فتحوا ثغور الأندلس على يد موسى بن نصير عام 91هـ.
من هنا يمكن القول إنّ شهر رمضان يربّي الإنسان الفرد والمجتمع على الحيوية والنشاط، بممارستها خلاله لتكون منهجًا دائمًا في حياة الإنسان وسلوكه.
ورد عن الإمام زين العابدين أنه كان يدعو به في كلّ يوم من شهر رمضان: «اللّهُمَّ ارزُقني فيهِ الجِدَّ وَالاِجتِهادَ وَالقُوَّةَ وَالنَّشاطَ» .
مفهوم الحيوية
ولنقف عند مفهوم الحيوية: كلمة الحيوية مصدر صناعي من الحياة التي تقابل الممات، ويراد بها هنا الفاعلية والنشاط؛ لأنّ من آثار الحياة النّمو والحركة والإحساس. ويقابل الحيوية حالة الكسل والخمول.
وقد عدّ القرآن الكريم آثار الحياة وجودًا للحياة، يقول تعالى: ﴿يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ بنموّ النبات والزرع فيها، وهو أثر للحياة.
والحياة في حقيقتها وجوهرها حركة ونشاط، فبمقدار ما يكون هناك نشاط وحركة في حياة الإنسان فإنّ نصيبه من الحياة أكبر، وكلّما قلّ نشاطه كان نصيبه أقلّ.
الإنسان قدرة هائلة
إنّ هندسة خلقة الإنسان تهيئوه لممارسة أعلى قدر من الحركة والنشاط، حيث منحه الله قدرة عقلية هائلة وإرادة نفسية عظيمة، وجسمًا في أحسن تقويم، يحتوي على حوالي 100 تريليون خلية كما تشير الدراسات العلمية.
وتتجلّى الحيوية في مختلف أبعاد شخصية الإنسان، فهناك حيوية في الفكر وحيوية في المشاعر والأحاسيس النفسية، وحيوية في الحركة والعمل.
الحيوية وتجلّياتها
لكنّ بعض الناس لا يحرّكون هذه القدرات والإمكانات الهائلة في حياتهم إلّا بشكل ضئيل.
إننا نلحظ في بني البشر أفرادًا يتفجرون حيوية ونشاطًا وهم الذين يقودون الحياة.
وهناك من يسيطر عليهم الخمول والكسل، فيعيشون على هامش الحياة.
حيوية الفكر تتجلّى في التطلع للمزيد من المعرفة ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ ، وفي القابلية لمراجعة الأفكار وتجديدها.
﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ .
ورد عن الإمام علي : «فِي اَلتَّجَارِبِ عِلْمٌ مُسْتَأْنَفٌ» .
في مقابل الجمود عند مستوى محدود من المعرفة، أو التشبّث بأفكار معينة، ورفض إعادة النظر فيها، مما يمنع من قبول أيّ فكرة جديدة.
وتتجلّى حيوية النفس في التفاعل الإيجابي مع الأمور والأحداث والقدرة على مواجهة التحدّيات، وتجديد المشاعر والأحاسيس تجاه الأشخاص والأحداث.
أما الحيوية في العمل والسّلوك فتظهر في استثمار الوقت وكثافة العمل وبذل أقصى جهد ممكن.
إنّ الحيوية استمتاع بالحياة، واستثمار للطاقة، وتحقيق للإنجازات.
بينما تفقد حياة الإنسان قيمتها في ظلّ الكسل والخمول،
وورد عن الإمام محمد الباقر : «اَلْكَسَلُ يَضُرُّ بِالدِّينِ وَاَلدُّنْيَا» .
وجاء في دعاء للإمام زين العابدين : «وَاُمْنُنْ عَلَيْنَا بِالنَّشَاطِ وَأَعِذْنَا مِنَ اَلْفَشَلِ وَاَلْكَسَلِ» .