الإيمان وصياغة الشخصية
يقول تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾. [سورة البقرة، الآية: 138].
يتحدّث البعض عن الإيمان كمجموعة معتقدات وآراء يعتنقها الإنسان، في إطار ما يتوفر عليه من معارف ومعلومات، فكما يتبنّى بعض النظريات العلمية في الفيزياء والجيولوجيا مثلًا، يتبنّى الاعتقاد بوجود الله تعالى وبالحياة الآخرة، وكما يعرف عن وجود الكواكب والمجرّات، وعن وجود الفلاسفة والمفكّرين، يعرف عن وجود الأنبياء والأوصياء، كلّ ذلك في حدود المعلومات الذهنية، والمعرفة النظرية.
وقد يتعامل البعض مع الإيمان كانتماء عائلي وهُويّة اجتماعية، فهو قد ولد من أسرة تنتمي إلى دين ومذهب معيّن، ونشأ في مجتمع مصنّف ضمن توجه ديني، لذلك يكون منتميًا لذات التوجه.
كما قد يرى البعض أنّ الإيمان والتديّن يتحقّق بأداء الطّقوس والشّعائر الدينية، فيقيسون درجة الإيمان بمدى الإقبال والمواظبة على العبادات القيام بها.
لكننا حين نقرأ النصوص الدينية، ونتأمّل مفاهيم الدين، ندرك أنّ الإيمان أعمق من ذلك، فهو في حقيقته صياغة كاملة لشخصية الإنسان، تتجلّى في منهجية تفكيره، وحركة مشاعره، ومظاهر سلوكه.
الإيمان صِبغة مائزة
ويعبّر القرآن الكريم عن الإيمان بأنه صبغة الله، حيث يشكّل ويرسم لون شخصية الإنسان، يقول تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾. [سورة البقرة، الآية: 138] إنه اللون الذي يضفيه تعالى على كامل شخصية الإنسان، وفي مختلف أبعادها.
والصِّبغة لغة: ما يُصبغ به وتلوّن به الثياب. والصَّبغ في كلام العرب: التغيير، ومنه صُبغ الثوب إذا غُيّر لونه، وأزيل عن حاله إلى حال.
فالإيمان يمنح الإنسان لونًا مميزًا، يطبع الذات في جميع خصائصها وصفاتها، تمامًا كما هو الصّبغ عندما يطبع الثوب أو الجسد فيلوّن كلّ جزئياته.
وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق : فِي قَوْلِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ قَالَ: «اَلصِّبْغَةُ هِيَ اَلْإِسْلاَمُ»[1] .
وهل يمكن لأحدٍ أن يقدّم أفضل وأحسن من الصّبغة والصّياغة الإلهية لشخصية الإنسان ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾؟
ادّعاءات الإيمان
وانطلاقًا من هذه الحقيقة، فإنّ القرآن يرفض ادّعاء الإيمان من قبل من لا ينعكس الإيمان على فكرهم ونفوسهم وسلوكهم.
يقول تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾. [سورة البقرة، الآية: 8]
ويقول تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾. [سورة النور، الآية: 47]
وتفيد بعض الآيات الكريمة، أنّ فطرة الإنسان تكشف له عن وجود الخالق فيستيقن بوجوده، لكنّ ذلك لا يحقّق له الإيمان ما لم يلتزم بمقتضيات الإيمان، فكرًا ومشاعر وسلوكًا.
يقول تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾. [سورة النمل، الآية: 14].
ويقول تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾. [سورة العنكبوت، الآية: 61].
ليس مجرّد هُويّة
وقد يكون الإنسان منتميًا لمجتمع المؤمنين بالهوية والتصنيف الاجتماعي، لكنّه إذا لم يحقّق مقومّات الإيمان في شخصيته، فلا يكون مؤمنًا حقيقيًّا، لذلك فإنه تعالى يردّ على بعض الأعراب ادّعاءهم الإيمان، وكانوا للتوّ قد أعلنوا الإسلام كانتماء اجتماعي، ولم تتجذّر مفاهيمه في نفوسهم، ولم تنعكس قيمه على سلوكهم.
يقول تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿١٤﴾ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾. [سورة الحجرات، الآيات: 14-15].
العبادات ليست معيارًا
كما أنّ أداء العبادات، وإقامة الشّعائر الدينية، لا تكفي لتحقّق الإيمان، ما لم ينعكس الإيمان على سائر أبعاد شخصية الإنسان، حيث يعتبر القرآن ذلك تديّنًا ناقصًا كاذبًا.
يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ﴿١﴾ فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴿٢﴾ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴿٣﴾ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴿٤﴾ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴿٥﴾ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ﴿٦﴾ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾. [سورة الماعون، الآيات: 1-7].
وترفض عدّة أحاديث ونصوص دينية، اعتبار المواظبة على العبادات والشّعائر مقياسًا لتحقّق الإيمان، ما لم يصحبها التزام أخلاقي في السّلوك الاجتماعي.
حيث ورد عن النبي : (لاَ تَنْظُرُوا إِلَى كَثْرَةِ صَلاَتِهِمْ، وَصَوْمِهِمْ، وَكَثْرَةِ اَلْحَجِّ، وَاَلْمَعْرُوفِ، وَطَنْطَنَتِهِمْ بِاللَّيْلِ، وَلَكِنِ اُنْظُرُوا إِلَى صِدْقِ اَلْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ اَلْأَمَانَةِ)[2] .
وورد عن الإمام جعفر الصادق : (لاَ تَغْتَرُّوا بِصَلاَتِهِمْ، وَلاَ بِصِيَامِهِمْ، فَإِنَّ اَلرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلاَةِ وَاَلصَّوْمِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ اِسْتَوْحَشَ، وَلَكِنِ اِخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ اَلْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ اَلْأَمَانَةِ)[3] .
فالصلاة والصوم وإقامة الشعائر قد يمارسها الإنسان كعادة، بحيث لو تركها شعر بالفراغ والوحشة؛ لأنه أَلِفَ هذه الممارسة، أو تكيّف معها كعادة اجتماعية، وبذلك لا تعبّر عن إيمان حقيقي، ما لم تنعكس آثارها على سائر جوانب شخصية الإنسان.
اكتشاف آثار الإيمان
من هنا فإنّ على الإنسان أن يتأمّل في شخصيته، ليلتمس آثار الإيمان على أبعادها المختلفة، في الفكر، والمشاعر النفسية، والسّلوك الاجتماعي، فإذا وجد أيّ مساحة من شخصيته قد أخذت لونًا وصبغة أخرى، غير صبغة الله، فعليه أن يبادر إلى التغيير والإصلاح، واستكمال الصبغة الإلهية، ليحقّق الإيمان والعبودية لله تعالى.
كما يشير آخر الآية الكريمة: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾. [سورة البقرة، الآية: 138].
وحين يتحدّث القرآن الكريم، عن صفات المؤمنين، ومقتضيات الإيمان، وعن صفات الكافرين والمنافقين، فإنه يقصد من ذلك فرز الألوان وتبيين اختلاف الصّبغة بين الشّخصية المؤمنة وسواها، وهذا ما تشير إليه روايات عرض النفس على القرآن، كالحديث المروي عن الإمام محمد الباقر : (اِعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى كِتَابِ اَللَّهِ، فَإِنْ كُنْتَ سَالِكاً سَبِيلَهُ، زَاهِداً فِي تَزْهِيدِهِ، رَاغِباً فِي تَرْغِيبِهِ، خَائِفاً مِنْ تَخْوِيفِهِ، فَاثْبُتْ وَأَبْشِرْ)[4] .