هوس تكديس الثروة
﴿قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا﴾ [الإسراء: 100].
حبّ المال والثروة نزعة متجذّرة في نفس الإنسان منبثقة من حبّ الذات، يقول تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر: 20].
ويقول تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 8].
وهي نزعة إيجابية في أصل وجودها؛ لأنها تدفع الإنسان إلى العمل والسّعي والإنتاج وإعمار الأرض.
ورد عن الإمام الصّادق : «لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُحِبُّ جَمْعَ الْمَالِ مِنْ حَلَالٍ»[1] .
ويستهدف الإنسان من اكتساب المال والثروة تلبية حاجاته ورغباته، وتسيير أمور حياته.
وبمقدار ماله وثروته يحصل على مكانة اجتماعية.
وإذا كان يحمل تطلّعات إنسانية وقيمية، فإنه يستفيد من ثروته في خدمة تلك التطلّعات.
الاستمتاع بتكديس الثروة
لكنّه قد يصاب الإنسان بهوس جمع المال والثروة للتمتع بتكديسها بين يديه، وتحت سلطته، دون أن يحرّك تلك الثروة وينفق منها، بل يرتاح ويتلذّذ بتضاعف أرقام حساباته وقيمة ممتلكاته، وقد يكتفي بالتفاخر والتباهي بها.
تكون لديه ثروات وأموال فوق حاجته لكنّ إنفاق شيء من المال والثروة يصيبه بالقلق والخشية، مهما كانت الأموال التي في حوزته طائلة.
وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة ﴿قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا﴾ [الأسراء: 100].
وماذا ستكون النتيجة؟ سيفارق هذا المال أو أنّ المال يفارقه، وقد نال السّمعة السّيئة ببخله، ورد عن الإمام علي : «بِالْبُخْلِ تَكْثُرُ اَلْمَسَبَّةُ)[2] ، كما عرّض نفسه لشقاء الآخرة وعذاب الله تعالى بعد عناء كسب الثروة وحراستها.
يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: 34].
ويلخّص هذا الحال والمآل للبخيل ما ورد عن النبي : «اَلْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ الله، بَعِيدٌ مِنَ اَلنَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ اَلْجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ اَلنَّارِ»[3] .
ولكن لماذا يصاب الإنسان بهذا الهوس، وتشتدّ لديه حالة البخل؟
تفيد الآيات القرآنية أنّ ذلك ناشئ من ا لطبيعة الذاتية للإنسان إذا لم يسعَ لتهذيبها وترشيدها.
يقول تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا﴾ [الإسراء: 100].
ويقول تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: 128].
فإذا انساق الإنسان مع الرّغبات والأهواء دون أن يستثير وجدانه وعقله، ودون الاهتداء بالتوجيهات الإلهية، فإنه مهيئ لهذا النمط من السّلوك.
اختلاق التبريرات
ونتيجة لهذا الهوس يختلق الإنسان في نفسه مبرّرات للبخل. تسلّط آيات القرآن عليها الأضواء لتنبّه الإنسان من الوقوع فيها.
فتارة يرجئ الإنفاق إلى الحصول على مستوى أفضل من الثروة، لكن حالة الشّح حين تتمكن من نفسه قد لا تسمح له بالإنفاق حتى مع زيادة ثروته.
يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٧٥﴾ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ [التوبة: 75-76].
وتارة يتفلسف في عدم الإنفاق بأنّ الله تعالى لو كان يريد منّا الإنفاق على الفقراء لأتاح لهم المال بقدرته، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [ياسين: 47].
وتارة يحمّل الآخرين مسؤولية الإنفاق.
فإذا عرض عليه المساهمة في مشروع خدمي ينفع الناس في مجال الصّحة أو التعليم مثلًا، قال: إنّ ذلك من مسؤوليات الحكومة، ولها ميزانيات ضخمة!!
وإذ طلب منه فقير أو محتاج أحال ذلك على الجمعيات الخيرية فهي المعنية بمساعدة الفقراء!!
وحين يُطرح عليه تمويل عمل أو نشاط ديني يتساءل: أين دور الحقوق الشرعية؟ ولماذا لا يصرف منها؟
وبعضهم يقول: إنّ هناك من هم أثرى منّي، فلماذا لا تذهبون إليهم وتطلبون منهم؟
وهكذا يتهرّب من الإنفاق في أعمال الخير ولخدمة وطنه ومجتمعه، بسبب هذه التبريرات الشّيطانية الناشئة من البخل والشّح.
ورد عن علي : «اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ وَلاَ تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَقَلِيلَهُ كَثِيرٌ وَلاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنَّ أَحَداً أَوْلَى بِفِعْلِ اَلْخَيْرِ مِنِّي فَيَكُونَ وَاَللَّهِ كَذَلِكَ»[4] .
إنّها تبريرات تكرّس حالة الشّح والبخل عند الإنسان.
وهذا لا يعني ألّا يفكر الإنسان في حاجاته المستقبلية المحتملة. لكنّها عادة تكون ضمن حدود متوقعة، وهي أقلّ بكثير من مقدار ما يحوزه الأثرياء.
إنّ التعاليم الدينية توجه الإنسان إلى التوازن في إنفاقه وعطائه، ولا تطلب منه أن ينفق كلّ ثروته دون أخذ حاجاته المستقبلية بعين الاعتبار.
يقول تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29].
ويقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67].
بل حتى التفكير في مستقبل الذرية مطلوب حيث ورد عن النبي قال: «أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»[5] .