الآداب الاجتماعية وتعزيز القيم
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المجادلة: 11].
للآداب الاجتماعية مهمّتان رئيستان:
الأولى: صنع العلاقات الإيجابية بين الناس؛ لأنّ الآداب تشيع أجواء المحبّة والاحترام، وتنمّي مشاعر الرّضا في النفوس، وترشّد سلوك التعامل الاجتماعي.
ومما تجدر الإشارة إليه، أنّ تأثير الالتزام بالآداب على مستوى توثيق العلاقات الإيجابية، يتحقق في الإطار العائلي أيضًا، فإذا التزم أفراد العائلة بالآداب في علاقاتهم الداخلية يكونون أقرب إلى بعضهم بعضًا، وأبعد عن تسرّب المشاكل والخلافات فيما بينهم.
الثانية: تعزيز القيم الإنسانية في نفوس وسلوك أبناء المجتمع، ذلك أنّ الآداب في كلّ مجتمع تنبثق من القيم والمبادئ الوجدانية التي يؤمن بها، وتنسجم مع منظومته الفكرية والثقافية.
وبالتزام تلك الآداب تترسّخ القيم التي وراءها والمبادئ المنتجة لها.
الترحيب بالقادمين للمجلس
وفي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المجادلة: 11] نلتقي بمفردة من مفردات الآداب الاجتماعية التي أراد الدين تكريسها في المجتمع.
فقد كان الأصحاب يتوافدون على مجلس رسول الله ليتفقّهوا في الدين، وليتشرّفوا بملاقاة النبي والقرب منه، وليطّلعوا ويواكبوا مسار الدعوة، ويشاركوا في تبليغها والدفاع عنها.
ويحدث في بعض الأحيان أن يزدحم المجلس فيأتي قاصدون للمجلس متأخّرين فلا يجدون مكانًا، ويظلّون وقوفًا، بينما يتشبّث الحاضرون بأماكنهم في المجلس.
فجاءت الآية الكريمة لتربّي المجتمع على أدب التعامل مع هذا الموقف.
إنّها تخاطب المؤمنين مذكّرة لهم بإيمانهم الذي يشكّل خلفية لهذا الأدب الاجتماعي المطلوب منهم، بأن يفسحوا المجال للقادمين إلى مجالسهم ليشاركوهم في الحضور، فذلك ما يُشعر القادمين بالاحترام والاهتمام، ويمنحهم الفرصة للمشاركة.
اهتمام الإنسان بتقدير الآخرين له
إنه لا شيء يُسعد الإنسان كشعوره باهتمام الآخرين به، فذلك ما يعزّز ثقته بنفسه، ورضاه عن ذاته، ويشدّه إلى الآخرين. إنّ فرح الإنسان باحترام الآخرين له أكثر من فرحه بعطاياهم المادية.
وحين يدخل المجلس شخص، فإنّ على الجالسين أن يظهروا الاهتمام به، فيفسحوا له في المكان، ويبدوا له التقدير، ولو بأقلّ حركة للاحتفاء به.
قال الصّحابي الجليل سلمان الفارسي : دخلت على رسول الله وهو متكئ على وسادة فألقاها إليَّ، ثم قال: «يَا سَلْمَانُ! مَا مِنْ مُسْلِمٍ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ اَلْمُسْلِمِ فَيُلْقِي لَهُ اَلْوِسَادَةَ إِكْرَامًا لَهُ إِلَّا غَفَرَ اَللَّهُ لَهُ»[1] .
و (كَانَ يُكْرِمُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَتَّى رُبَّمَا بَسَطَ ثَوْبَهُ وَيُؤْثِرُ اَلدَّاخِلَ بِالْوَسَادَةِ اَلَّتِي تَحْتَهُ)[2] .
وكان إذا جلس إليه أحد تزحزح له شيئًا، روي أنه دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ رَجُلٌ اَلْمَسْجِدَ وَهُوَ جَالِسٌ وَحْدَهُ فَتَزَحْزَحَ لَهُ، وَقَالَ: «إِنَّ مِنْ حَقِّ اَلْمُسْلِمِ عَلَى اَلْمُسْلِمِ إِذَا أَرَادَ اَلْجُلُوسَ أَنْ يَتَزَحْزَحَ لَهُ»[3] .
يفسح الله لك
هكذا يربّينا الإسلام ويعلّمنا على إبداء الاحترام والإكرام لكلّ الناس، وبذلك ننال رضا الله سبحانه، وننعم بعلاقات طيبة في محيطنا الاجتماعي.
إنّ الله سبحانه يقدّم وعدًا، ووعده صادق، وهو لا يخلف الميعاد، بأنه سيفسح لمن يفسح للآخرين ﴿فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ وإذا كنّا نعرف المطلوب منّا وهو التوسّع والتفسّح في المجالس، فإننا لا نعرف آفاق الوعد الإلهي المفتوح، ففي ماذا يفسح الله لنا؟
(وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوماً واسعاً، وتشمل كلّ سعة إلهية، سواء كانت في الجنة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة، أو في المال والرزق، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير؛ لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا)[4] .
قيمة الاحترام للآخرين
إنّ القيمة التي يُعزّزها هذا الأدب، هي قيمة الاحترام للآخرين، والاهتمام بمصالحهم على مستوى الاهتمام بمصالح الذات: «أَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَتَكْرَهَ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لَهَا»[5] كما ورد عن الإمام علي .
إنّ من المطلوب أن يفكّر الإنسان في تقدّم الآخرين، وفي إفساح المجال والفرص لهم، كما يسعى لتحصيل الفرص لنفسه، في المجال المعنوي والمادي.
إنّ الدعاء للآخرين ينطلق من هذا الإحساس، ويُعزّزه في نفس الإنسان.
عن الإمام جعفر الصادق عن رسول الله : «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعُمَّ فَإِنَّهُ أَوْجَبُ لِلدُّعَاءِ»[6] .
وعن أبي عبدالله الصادق : «دُعَاءُ اَلْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ اَلْغَيْبِ يَسُوقُ إِلَى اَلدَّاعِي اَلرِّزْقَ، وَيَصْرِفُ عَنْهُ اَلْبَلاَءَ، وَيَقُولُ لَهُ اَلْمَلَكُ لَكَ مِثْلاَهُ»[7] .
يقول تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 41].
ويقول تعالى: ﴿رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [نوح: 28].
إنّ البعض من الناس يعيش الحرص والبخل والضيق في الأفق، يقول تعالى: ﴿قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا﴾.
لقد سمع النبي إعرابيًا يدعو في صلاته، اللَّهمَّ ارحمني ومحمَّدًا ولا ترحمْ معنا أحدًا، فالتفتَ إليهِ النَّبيُّ فقالَ: «لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا»[8] .
إنّ بعض الناس يبخل حتى بالمعونة الصغيرة على غيره كما جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾.
وتظهر هذه الحالة في طريقة البعض في قيادته لسيارته، وعدم إتاحة الفرصة لسيارة أخرى يريد قائدها الالتفاف بها نحو اليمين أو اليسار.
إنّ التفسّح في المجالس مجرّد عينة ومفردة، مما ينبغي أن يتحلّى به الإنسان المؤمن من مشاعر الاهتمام بالغير، وتجاوز الأنانية المفرطة، فيبذل احترامه وتقديره للآخرين، كما عليه أن يبذل نصحه ودعمه ومساعدته لهم في مختلف المجالات.
إنّ فسح المجال في المجلس للآخرين، يُعزّز في نفس الإنسان خُلق وسلوك فسح المجال وإتاحة الفرصة للغير في الميادين المختلفة.
أعطه المجال ليعبّر عن رأيه، ويمارس دوره، ويحقّق تطلّعه، ولا تنظر بسلبية للطامحين في محيطك الاجتماعي، ولا تعرقل طريق أحد يريد التقدّم، إنّ قوله تعالى: ﴿فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ ينبغي أن يكون شعارًا لقيمة حضارية، ومؤشرًا لسلوك إيجابي في العلاقات الاجتماعية.