معرفة الرّب والاعتراف بالذنب
جاء في الدعاء المروي عن الإمام الحسين في يوم عرفة:
«فَأَيُّ نِعَمِكَ ياإِلهِي أحْصِي عَدَداً وَذِكْراً، أَمْ أَيُّ عَطاياكَ أَقُومُ بِها شُكْراً؟، وَهِي يا رَبِّ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيها العادُّونَ، أَوْ يَبْلُغَ عِلْمًا بِها الحافِظُونَ، ثُمَّ ما صَرَفْتَ وَدَرَأْتَ عَنِّي اللّهُمَّ مِنَ الضُّرِّ وَالضَّرَّاءِ، أَكْثَرُ مِمَّا ظَهَرَ لِي مِنَ العافِيَةِ وَالسَّرَّاءِ.
إِلهِي ما أَلْطَفَكَ بِي مَعَ عَظِيمِ جَهْلِي، وَما أَرْحَمَكَ بِي مَعَ قَبِيحِ فِعْلِي! إِلهِي ما أَقْرَبَكَ مِنِّي وَأَبْعَدَنِي عَنْكَ، وَما أَرْأَفَكَ بِي! فَما الَّذِي يَحْجُبُنِي عَنْكَ؟».
يوم عرفة يوم عظيم تعبّد الله فيه الحجيج من عباده أن يقفوا على سفح جبل في صحراء، من أول وقت الظهيرة عند زوال الشمس إلى غروبها، وقد أحرموا لربهم، وأعلنوا الاستجابة لأمره والتلبية لدعوته، حيث بدؤوا حجهم بهتافهم (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك).
في يوم عرفة يقف الحجيج على صعيد عرفة يسودهم الخشوع والتوجه إلى الله، وتعلوا أصواتهم بالدعاء بلغاتهم المختلفة، وقد جاؤوا من كلّ فجّ عميق من مختلف البلدان والاصقاع، رجالًا ونساءً، من شتّى القوميات والأعراف والقبائل والانتماءات.
إنه مشهد عظيم يُذكّر الإنسان بيوم الحشر بين يدي الله تعالى.
وغير الحجيج عليهم أن يعيشوا أجواء عرفة الروحانية، لينالوا من بركة هذا اليوم العظيم، ولتشملهم رحمة الله وفضله.
فضل يوم عرفة
فقد ورد عن الإمام زين العابدين : «إنّ الله تعالى يَقُولُ لِمَلاَئِكَتِهِ عَشِيَّةُ عَرَفَةَ: اُنْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثاً غُبْراً أَرْسَلْتُ إِلَيْهِمْ رَسُولاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ فَسَأَلُونِي وَدَعَوْنِي، أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيَّ أَنْ أُجِيبَهُمُ اَلْيَوْمَ، قَدْ شَفَعْتُ مُحْسِنَهُمْ فِي مُسِيئِهِم،ْ وَقَدْ تَقَبَّلْتُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ فَأَفِيضُوا مَغْفُوراً لَكُمْ»[1] .
وجاء في دعاء الإمام زين العابدين : «اَللَّهُمَّ هَذَا يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمٌ شَرَّفْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ وَعَظَّمْتَهُ، نَشَرْتَ فِيهِ رَحْمَتَكَ، وَمَنَنْتَ فِيهِ بِعَفْوِكَ، وَأَجْزَلْتَ فِيهِ عَطِيَّتَكَ، وَتَفَضَّلْتَ بِهِ عَلَى عِبَادِكَ»[2] .
وورد عنهم : «أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ اَلنَّاسِ ذَنْباً مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ ثُمَّ ظَنَّ أَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَغْفِرْ لَهُ»[3] .
يوم دعاء ومسألة
إنّ العمل الرئيس والأساس الذي توجّه إليه النصوص الدينية في يوم عرفة هو الدّعاء.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّمَا تُعَجِّلُ اَلصَّلاَةَ - يوم عرفة - وَتَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِتَفْرُغَ نَفْسُكَ لِلدُّعَاءِ فَإِنَّهُ يَوْمُ دُعَاءٍ وَمَسْأَلَةٍ»[4] .
وحتى الصوم إنّما يستحب في يوم عرفة لمن لا يضعف عن الدّعاء.
وبالتأمل في الأدعية المروية عن أهل البيت ليوم عرفة نجد أنّها تركز على أمرين:
الله الحقيقة الحاضرة
الأمر الأول: استحضار معرفة الرّب وتذكير الإنسان بفضل الله عليه ولطفه به ونعمه التي لا تُعدّ ولا تحصى.
الله تعالى ليس مجرّد حقيقة علمية مستكنّة في ذهن الإنسان كمعرفته بإحدى الكواكب الفضائية، أو المعادلات الرياضية والفيزيائية، بل هي حقيقة وجودية وجدانية حاضرة في عقل الإنسان المؤمن وقلبه ونفسه ومشاعره وأحاسيسه دائمًا وأبدًا.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾. [الأحزاب: 41]
ذكر الله يرافق الإنسان في مختلف حالاته وحركاته، يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191]
إنّ من يذكر الله تعالى فإنّ الله يذكره بتوالي فضله عليه، يقول تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾. [البقرة: 152]
التعاليم الدينية تؤكّد على استحباب ذكر الله في الحالات المختلفة؛ عند بدء شرب الماء وانتهائه، وبدء الطعام وانتهائه، والدخول لقضاء الحاجة والانتهاء منها، وعند النوم واليقظة.
وذكر الله تعالى ليس لفظًا يلهج به الإنسان فقط، بل وجدان وشعور ينبض بالحضور الإلهي.
الاعتراف لتصحيح المسار
الأمر الثاني: الاعتراف أمام الله تعالى بالذنوب والأخطاء والتقصير في طاعة الله، لتحفيز الإنسان على العزم على تصحيح مسيرته، والأمل في شمول عفو الله له ورحمته.
ورد عن رَسُولُ اَللَّهِ : منْ لَزِم الاسْتِغْفَار، جَعَلَ اللَّه لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مخْرجًا، ومنْ كُلِّ هَمٍّ فَرجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ.
عظمة الله ورحمته
وإذا كان المطلوب من الإنسان أن يذكر ربه دائمًا وأبدًا، فإنّ هناك صفتين من صفاته أشدّ إلحاحًا في الذكر والاستحضار، وهما: صفة العظمة، وأنه تعالى أكبر من كلّ شيء.
يقول تعالى: ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾. [الإسراء: 111].
واستحضار هذه الصفة من أجل أن يشعر الإنسان بالقوة والمنعة؛ لارتباطه بالله العظيم القادر على كلّ شيء، والأكبر من كلّ شيء، وحتى لا يخضع الإنسان ولا يستسلم لأيِّ شيءٍ من مغريات أو مصيبات الحياة.
والصفة الثانية: هي الرحمة.
ليعيش الإنسان الأمل والتفاؤل والاطمئنان، تجاه المشاكل والتحدّيات والأزمات، ولا يتسرّب إليه القنوط والإحباط، وتكون نفسه عامرة برجاء مغفرة الله ورضوانه، وإن تورّط في الأخطاء والعثرات، ما دام يكتشفها ويشعر بالنّدم على الوقوع فيها، وينوي تصحيح المسار.
إنّ نصوص الأدعية المأثورة المروية عن أئمة الهدى ، تتضمّن معاني تربوية وعقدية مهمّة، فينبغي التأمل في هذه المضامين، واستلهام معانيها العميقة، ولا يصح الاكتفاء بقراءة الدّعاء دون تأمّل وتفكير.