عطاء المجالس الحسينية
جاء في الكافي عن الامام جعفر الصادق انه قال لأصحابه (تزَاوَرُوا وَتَلَاقَوْا وَتَذَاكَرُوا أَمْرَنَا وَأَحْيُوهُ)[1] .
هذه المجالس التي يحيها المؤمنون في كل مكان بمناسبة ذكرى شهادة أبي عبدالله الحسين هي ثمرة لتوجيهات ائمة اهل البيت لشيعتهم، حيث كانوا يأمرونهم بالتزاور والتلاقي وتذاكر امر اهل البيت ، وأمر الدين وأمر الأمة.
هذه المجالس بالإضافة إلى أنها تؤكد التلاحم بين المؤمنين، وتوثّق العلاقة والارتباط فيما بينهم، فإن فيها ثلاثة مستويات من الفائدة، والعطاء:
المستوى الأول: ترسيخ التفاعل النفسي والانشداد العاطفي والولائي لأهل البيت ، وإذا انشدّت مشاعر الإنسان وعواطفه إلى رمز أو شخصية، يكون أكثر تقبلًا لتوجيهاته، وأقرب للاقتداء به.
هذه المجالس ترسخ التفاعل الولائي في النفوس، عن طريق ذكر سيرة الائمة ، وكريم أخلاقهم، وعظيم فضلهم، ومدى ما تحملوه من آلام في سبيل الله سبحانه وتعالى، لذلك فإن المؤمنين في كل موسم من هذه المواسم؛ يتجدد ولاؤهم لأهل البيت، وتترسخ مشاعر المحبة والقرب من هؤلاء الطاهرين، وما أحوجنا إلى مثل هذا الأمر، خاصة بالنسبة للأجيال الصاعدة، الذين يحاول الإعلام بأشكاله المتطورة، أن يملأ نفوسهم بشخصيات أخرى، وبرموز ونماذج بعيدة عن النهج القويم، نحن في حاجة إلى أن نكرّس صور وشخصيات هؤلاء القادة العظام في نفوسهم.
المستوى الثاني: الاستفادة المعرفية؛ في هذه المجالس تطرح آراء وأفكار ومعارف دينية وتاريخية واجتماعية.
ونفخر ولله الحمد أن مستوى الطرح المنبري في مساحة منه أصبح في مستوى متقدم وراقٍ، في قسم من هذه المجالس موائد معرفية مفتوحة أمام القاصدين، وعلى الإنسان نفسه أن يكون مستقبلًا جيدًا لهذه المعارف والأفكار.
عندما تستمع خطيبًا عليك أن تفكّر فيما يقول، وليس مجرد تمضية وقت وانتظار انتهاء المجلس، هناك أحاديث حول قراءة القرآن كقول أميرالمؤمنين : «لاَ يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ اَلسُّورَةِ»[2] ، هذه الروايات تبين أن المسألة ليست مسألة طي صفحات، بل المطلوب أن تستفيد وتنفتح على ما في الآيات الكريمة وتتفاعل معها.
وحين يسمع شيئًا من هذه المحاضرات عليه أن يفتح المجال لعقله أن يفكّر، فليس كل ما تسمعه قد يكون صحيحًا، ولعل هناك اشتباه أو خطأ أو غفلة، أو لعلك لم تفهم الفكرة بشكل جيد، فكّر وتأمل بعد المحاضرة، لاحق الفكرة، اقرأ حولها، سمعت فكرة مثيرة جديدة ابحث عنها، لاحقها، وسائل المعرفة متوفرة الآن، لا تمر مرور الكرام على ما تسمع من آراء وأفكار.
المستوى الثالث: تلقي الموعظة والإرشاد: الإنسان في حاجة إلى الموعظة، وهي: إثارة الوجدان، وإيجاد دافع في أعماق الإنسان نحو الخير واجتناب الشر والحذر منه.
أنت معرض للأخطاء والغفلة، وحالة الاسترسال، وحينما تجلس في هذه المجالس، تسمع الآيات القرآنية، وتسمع كلام أهل البيت ، وإرشادات الخطباء، عليك أن تتفاعل معها نفسيًا، وأن تستقبل الموعظة استقبالًا حسنًا.
قد يظن بعض الناس أن الفائدة من هذه المجالس هي فائدة معلوماتية معرفية، وأن نسمع فكرة جديدة، فإذا لم يسمع شيئًا جديدًا اعتبر وقت الاستماع ضياعًا، لكن رسالة المجالس الحسينية لا تتلخص في الجانب المعرفي، فهناك الجانب الوعظي الارشادي، وهو جانب مهم، نحن في أمس الحاجة إليه.
وهناك نصوص كثيرة تلفت نظر الإنسان إلى أهمية الموعظة، ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : (ثَمَرَةُ اَلْوَعْظِ اَلاِنْتِبَاهُ)[3] .
وهذا يعني أن موعظة قد تنبهك لشيء أنت غافل عنه، في علاقتك مع الله، او مع والديك، أو مع زوجك وابناءك، أو مع جيرانك، أو في تصرفك في أموالك وإدارتك لأمور حياتك، المطلوب هو الاستماع للموعظة التي تفيد في هذه المجالات، والتفاعل معها.
وورد عن الإمام علي : (بِالْمَوَاعِظِ تَنْجَلِي اَلْغَفْلَةُ)[4] .
إذا سمع الإنسان موعظة فإنه يتجاوز حالة الغفلة التي كان يعيشها تجاه أمر من الأمور، أو قضية من القضايا.
وفي كلمة أخرى عنه : (أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ)[5] .
ولعل هذا المستوى من الاستفادة من المجالس الحسينية هو أرقى المستويات.
إذا استطاع الإنسان أن يجمع بين المستويات الثلاثة، فيعمّق في نفسه الولاء لأهل البيت ، ويستفيد معرفيًا، ويتلقى الموعظة، فهو الأفضل، لكن لو خيّر الإنسان بين هذه المستويات، فإن المستوى الثالث - وهو التفاعل مع الموعظة التي تغير نمط شخصيته وسلوكه وتعامله إلى الأفضل - هو المستوى الأرقى بين هذه المستويات.