موسم عاشوراء واليوم العالمي للتنوع الثقافي
عن عَبْدِ اَلسَّلاَمِ بْنِ صَالِحٍ اَلْهَرَوِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا اَلْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى اَلرِّضَا يَقُولُ: «رَحِمَ اَللَّهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا، فَقُلْتُ لَهُ: وَكَيْفَ يُحْيِي أَمْرَكُمْ؟ قَالَ: يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَيُعَلِّمُهَا اَلنَّاسَ، فَإِنَّ اَلنَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلاَمِنَا لاَتَّبَعُونَا»[1] .
يحتاج الإنسان بين فترة وأخرى لتجديد حيويته في كلّ مجالٍ من مجالات حياته، ذلك لأنه بمرور الزمن قد يتسلّل إلى الإنسان الملل والكسل والغفلة، مما يضعف درجة إقباله على عمله، ويخفض مستوى نشاطه وإنتاجيته.
وتجديد الحيوية يكون ببعث همة جديدة داخل النفس، وتوفير أجواء خارجية مشجعة، وابتداع تغيير وتطوير في برامج العمل وأساليب الأداء.
موسم عاشوراء وذكرى شهادة أبي عبدالله الحسين وتضحيته، يتيح لمجتمعنا هذه الفرصة العظيمة في تجديد الحيوية الدينية والثقافية والاجتماعية.
تجديد الحيوية الدينية
ففي المجال الديني هناك تعزيز لحالة الانتماء الديني، وإثارة مشاعر الولاء للنبي وأهل بيته، واستحضار سيرة الإمام الحسين في نهضته الدينية المقدسة.
وفي عصرٍ تزداد فيه مساعي صرف الناس عن الدين، وملء نفوسهم واهتماماتهم وأوقاتهم بالتوجهات المادية والشهوانية، وبثّ شبهات التشكيك في مبادئ الدين، وجدوى الالتزام به مع تقدّم العلم وتطور الحياة.
يأتي موسم عاشوراء ليندفع الناس طواعية للحضور في المساجد والحسينيات والمجالس والمواكب، وليستمعوا المحاضرات الدينية، ويردّدوا الشعارات الحسينية، وليبذلوا من جهدهم ووقتهم ومالهم من أجل إحياء ذكرى هذا الرمز الديني العظيم. وهذا تجلٍّ أكبر لتجديد الحيوية الدينية.
في هذا السياق ينقلون عن بعض القيادات الشيوعية في العراق أيام المد الشيوعي أنّهم يقولون: إننا نعمل طوال العام في أوساط الشباب لجذبهم وتعبئتهم ضدّ الدين، فتأتي عشرة المحرم لتكتسح كلّ ما عملناه وقمنا به.
الحيوية الثقافية والاجتماعية
وفي المجال الثقافي، فإنّ انعقاد مئات المجالس وإلقاء الخطب والمحاضرات فيها، واستماع الناس بمختلف شرائحهم لما يلقى فيها من مواعظ وإرشاد وسيرة وتاريخ ومعارف متنوعة حسب مستوى كلّ خطيب وكفاءته، تمثل زخماً معرفيًّا ثقافيًّا في الوسط الاجتماعي.
إضافة إلى دور المواكب والرواديد وإبداعاتهم الأدبية والفنية، وكذلك الأنشطة المصاحبة من معارض ومراسم ومطبوعات ومسارح تمثيل وبثّ فضائي ونشر إلكتروني، كلّ ذلك يشكل موجاً يجدّد الحالة الثقافية وينشطها في المجتمع.
وعلى الصعيد الاجتماعي، فإنّ موسم عاشوراء يصنع حراكًا أهليًّا تطوعيًّا واسعًا فريدًا من نوعه في المجتمعات الإنسانية.
يتعاون الناس فيما بينهم لإدارة المجالس والمواكب والأنشطة المختلفة، بتآلف وانسجام، ويلتقي الناس بمختلف شرائحهم وطبقاتهم وانتماءاتهم في هذه البرامج، مما يعزّز حالة التماسك والتضامن الاجتماعي، ويؤكد ولاء الإنسان وانتمائه لمجتمعه.
عاشوراء والمحيط الوطني
هذا كلّه فيما يتعلق بداخل المجتمعات الشيعية، ولكن ماذا عن انعكاس موسم عاشوراء على المجتمعات الأخرى المحيطة بالمجتمعات الشيعية، وخاصة من شركائهم في أوطانهم، فنحن جزء من نسيج وطني، ويهمّنا العلاقة مع سائر مواطنينا ووجود النظرة الإيجابية المتبادلة بين الأطياف الوطنية.
ونحن نُقبل على موسم عاشوراء يصادف اليوم، اليوم العالمي للتنوع الثقافي ومحاربة التمييز العنصري، حيث اعتمدت الأمم المتحدة يوم 29 يوليو من كلّ عام، لنشر ثقافة التنوع وقبول الآخر، وإرساء قيم الحوار ونبذ الكراهية والعنصرية.
وبهذه المناسبة نؤكد على أمرين:
الأمر الأول: إذا كان قبول التنوع مطلوبًا على المستوى العالمي فهو أكثر إلحاحًا على مستوى الأوطان، أن تتقبّل الأطياف في الوطن على اختلافها المذهبي والثقافي بعضها بعضًا، فلكلّ مجتمع خصائصه الثقافية ضمن الإطار الوطني العام.
وحين يحتفي الشيعة بموسم عاشوراء فهي خصيصة دينية ثقافية في مذهبهم وتقاليدهم، على الآخرين أن يتفهّموهم ويقبلوهم كما هم، أنت قد لا توافقهم الرأي فيما يقومون به، ولك رأيك، لكنّهم أيضًا لهم رأيهم. وكما قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأي مختلف
ويقول آخر:
اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
الانفتاح والتعافي من التشدّد
كانت بلادنا تعاني من أجواء التشدّد والتطرف التي أضرت ببلادنا في الداخل والخارج، وقبل يومين نشر أحد كتابنا السعوديين مقالًا في جريدة الوطن السعودية بعنوان: (الصورة الذهنية المذهبية)[2] أشار فيه إلى أنه عايش فترة نشر الكتب الطائفية ضدّ الشيعة حتى في المدارس الثانوية من قبل مدرسين يتبنّون الفكر المتطرف الذي كان منتشراً ومتغلغلًا في مختلف المواقع.
تجاوزت بلادنا بحمد الله هذه الأجواء السلبية بتوجهات قيادة الوطن وهي الآن تقوم بدور عالمي لتعزيز الحوار بين الأديان والثقافات، وقبل شهرين في 14 شوال 1443هـ انعقد في الرياض (ملتقى القيم الإنسانية المشتركة) الذي جمع علماء مسلمين ومن الأقليات الإسلامية من مختلف الدول وقيادات دينية وفكرية متنوعة من العالم بدعوة من رابطة العالم الإسلامي.
ومما أكّد عليه المجتمعون كما ورد في البيان الختامي: (وجوب تفهّم الخصوصيات الدينية لكلّ دين أو مذهب، والتعامل معها بصفتها تمثل التنوع البشري المشمول بحكمة الخالق في الاختلاف).
وتأكيد (أهمية مراعاة الخصوصيات الدينية والثقافية، وعدم ممارسة أيّ استعلاء أو إملاءات عليها)[3] .
إنّ هذا التوجه التسامحي الحضاري، هو ما يعطي صورة مشرقة عن الإسلام وعن بلادنا، وهو ما يعزّز الوحدة الوطنية، وقبول المواطنين لبعضهم بعضًا مع احترام التنوع المذهبي والثقافي.
كيف نقدّم أنفسنا للآخرين؟
الأمر الثاني: إذا كان من حقّنا على الآخرين أن يحترموا خصوصيتنا، فإنّ من واجبنا أن نحسن تقديم أنفسنا للآخرين.
نحن كمجتمع شيعي معنيون بحسن التقديم لأنفسنا ورسم صورتنا أمام المجتمعات الأخرى، نتمسّك بخصوصيتنا المذهبية والثقافية، ولكن نهتم بتشكيل الانطباعات عنّا في محيطنا الوطني والإسلامي والعالمي.
هناك من يقول: لا يهمّنا ما يقول الآخرون عنّا، ولا عن نظرتهم إلينا، وهذا غير صحيح؛ لأنه مخالف لمنطق العقل ومصلحة المجتمع، ولأنّ أئمتنا يقولون خلاف ذلك، إنهم يقولون:
كما عن سليمان بن مهران، قال: دخلت على الصادق جعفر بن محمد وعنده نفر من الشيعة وهو يقول: «مَعَاشِرَ اَلشِّيعَةِ، كُونُوا لَنَا زَيْناً، وَلاَ تَكُونُوا عَلَيْنَا شَيْناً، ﴿قُولُوا لِلنّٰاسِ حُسْناً﴾، اِحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ، وَكُفُّوهَا عَنِ اَلْفُضُولِ، وَقَبِيحِ اَلْقَوْلِ»[4] .
وجاء في رواية أخرى عن الإمام الصادق: «رَحِمَ اَللَّهُ عَبْداً اِسْتَجَرَّ مَوَدَّةَ اَلنَّاسِ إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَيْنَا»[5] ، وورد في نصٍّ آخر عنه : «حَبِّبُونَا إِلَى اَلنَّاسِ وَلاَ تُبَغِّضُونَا إِلَيْهِمْ»[6] .
إنّ علينا في خطاباتنا ومراسيم عزائنا أن ندرك أنّ العالم يرانا ويسمعنا، وأنّ هناك من يريد استغلال أيّ ثغرة لتشويه صورتنا، ولإساءة العلاقة بيننا وبين محيطنا الوطني والإسلامي والعالمي، فلنتق الله في سمعة مذهبنا ومجتمعنا، ولنحرص على تقديم أنقى صورة وأفضل سيرة.
نسأل الله أن يوفقنا جميعًا لإحياء هذا الموسم الحسيني المبارك بأمنٍ وأمان، ويُسرٍ وعافية، وأن يجعلنا ممن يستفيدون من بركات وخيرات هذا الموسم لآخرتنا ودنيانا.