ثلاثة عناوين في شخصية عبدالمقصود خوجة
كثيرة هي العناوين التي يمكن الحديث عنها في حياة فقيد الثقافة والوطن الأستاذ الأديب الشيخ عبدالمقصود بن محمد سعيد خوجة رحمه الله.
وسأتحدث بإيجاز عن ثلاثة عناوين بارزة في شخصيته الفريدة.
مبادرات التواصل:
التواصل بين أبناء المجتمع قيمة إنسانية ودينية ووطنية، خاصة في أوساط النخب الاجتماعية، فهم ذوو الرأي والتأثير، وحينما يتواصلون فيما بينهم، تتاح لهم فرص التشاور وتداول الرأي وانضاجه، ويشيعون أجواء التواصل والتقارب على المستوى الاجتماعي العام.
وتتأكد أهمية قيمة التواصل، حينما تظهر في المجتمع تيارات اقصائية تعصبية، تنشر ثقافة الكراهية، وتصنّف الناس حسب توجهاتهم الفكرية والمذهبية، وتحرّض بعضهم على بعض.
هنا يأتي دور المثقفين الواعين، في التبشير بثقافة التسامح والانفتاح، ومواجهة أفكار التعصب والانغلاق، وإطلاق مبادرات عملية للتلاقي والتواصل، بين رموز التوجهات المختلفة، والمكونات المتنوعة للنسيج الاجتماعي.
ومن الطبيعي أن تنتصب العوائق والعراقيل، أمام مبادرات التواصل، من قبل الجهات التي ترفض التسامح وتعادي الانفتاح.
وقد حقق الفقيد الراحل اختراقاً كبيراً، ونجاحاً مهماً، على هذا الصعيد.
لم يكن ينتظر الفرص العفوية، للتعرف على الآخرين من ذوي الرأي والكفاءة والمكانة، ولا كان ينتظر أن يقصده الآخرون لمكانته ووجاهته، بل كان يبحث عن ذوي الكفاءة والرأي، ويبادر للتواصل معهم والتعرف عليهم، ومن ثم يبدأ مشوار العلاقة التي يحرص على استمرارها وتفعيلها.
لم تكن لي معرفة شخصية بالفقيد الراحل، حينما التقيته لأول مرة في ملتقى الحوار الوطني الثاني، الذي انعقد في مكة المكرمة بتاريخ 27-31/12/2003م ــ 4-8/11/1424هـ.
كان سعادته أحد الأعضاء المشاركين في اللقاء، وبعد انتهاء أول جلسة، بادرني بالسلام والتحية، وذكر لي أنه شاهد بعض حواراتي عبر بعض الفضائيات، وأنه سعيد بما سمع فيها من طرح وطني وحدوي، ومعالجة واعية للاختلاف المذهبي، وأبدى رغبته في زيارتي مساء ذلك اليوم، في الغرفة المخصصة لإقامتي في الفندق، وهذا ما حصل بالفعل، حيث كانت تلك الجلسة الجميلة التي امتدت لساعتين بداية لعلاقة وثيقة متواصلة. تعددت خلالها اللقاءات والزيارات المتبادلة، ومشاريع التعاون، وتداول الآراء والأفكار. وكان هذا هو نهجه في صنع العلاقة مع الآخرين، بأخذ زمام المبادرة للتعارف والتواصل، وتوظيف العلاقة في خدمة المصالح العامة للدين والوطن.
وحيث شرفني باستضافته في زيارته للقطيف بتاريخ 9 ربيع الأول 1425هـ، وزيارته الثانية للقطيف ثم للأحساء، بتاريخ 3 ربيع الأول 1429هـ.
فقد لاحظت حرصه واهتمامه بالتعرف على الكفاءات والطاقات، ورغبته في التواصل مع ذوي الرأي والشأن الاجتماعي، وقد صحب معه في زيارته الثانية كوكبة من الشخصيات الأكاديمية والاجتماعية من جدة، فكان للزيارتين صدى كبير في الأوساط الثقافية والاجتماعية في المنطقة، وقام الأستاذ عبدالباري الدخيل بتوثيق الزيارتين في كتاب جميل بعنوان: (مشهد للتواصل والانفتاح الوطني)، صدر عن دار أطياف للنشر والتوزيع عام 1431هـ.
تكريم الكفاءات
الكفاءات العلمية والثقافية، هي الثروة الحقيقية لكل مجتمع من المجتمعات، ولإبرازها وتكريمها أثر كبير في تقدم الوعي الاجتماعي وتنمية الثقة بالذات، حيث تتحفز الكفاءة لمزيد من الإبداع والإنتاج، كما يحفّز تقديرها وإشهارها همم وتطلعات أبناء الجيل الصاعد ليرتاد طريق الإبداع والتميّز.
لكن معظم الكفاءات في مجتمعاتنا تظل مغمورة مجهولة، لا يُشاد بها إلا بعد مغادرتها الحياة، في بيانات النعي وحفلات التأبين، وقد تُعرف على مستوى منطقتها ومحيطها الاجتماعي المحدود.
وكانت مرحلة النهوض الوطني تستلزم إبراز وإشهار الكفاءات الوطنية من مختلف أرجاء الوطن، ومختلف شرائح مكوناته الاجتماعية، المتنوعة في انتماءاتها القبلية والفكرية والمذهبية.
كان الشيخ عبدالمقصود خوجة هو المبادر الأول، والمتصدي الأبرز، للقيام بهذا الدور على المستوى الأهلي الاجتماعي، فقد أسّس منتدى (الاثنينية) قبل أكثر من أربعين عاماً، ليكرّم في أمسياته شخصية علمية أو أدبية كل أسبوع، حتى بلغ عدد الشخصيات التي قام منتدى الاثنينية بتكريمها قرابة 500 شخصية معظمها من أبناء الوطن.
وتتوزع هذه الشخصيات على أجزاء خريطة الوطن وتنوعات ألوانه، من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه.
وحينما تقرأ قائمة تلك الشخصيات تجد فيها الرجل والمرأة والسني والشيعي والسلفي والصوفي والليبرالي، وتجد المسؤول الحكومي، وعالم الدين، والمفكر، والأديب، والطبيب، والفيزيائي، والفنان، والإعلامي وسواهم.
وقد التزم الشيخ عبدالمقصود خوجة في برنامجه لتكريم الشخصيات التي يستضيفها بطقوس مميزة، تحيط الضيف بهالة من التقدير والاحترام، وتُظهر جوانب القوة والإبداع في شخصيته وعطائه، وتحشد لحضور أكبر عدد من الشخصيات البارزة، وتوفير أوسع مدى من التغطية الإعلامية، ثم يوثّق حفل التكريم ضمن مجلد سنوي تصدره الاثنينية بطباعة أنيقة وفاخرة.
توظيف المكانة والإمكانات لخدمة الثقافة
لا يتحقق النهوض الفكري والتنمية الثقافية في أي مجتمع، إلا بتضافر الجهود الرسمية والأهلية، ونجد في المجتمعات المتقدمة كثافة المبادرات الأهلية، وتشكيل المؤسسات والمنظمات المدنية المهتمة بالمعرفة والثقافة والأدب والفن.
فمعظم مراكز الأبحاث والدراسات، وجوائز التفوق والتميّز، على المستوى العالمي كجائزة نوبل مثلاً، هي مبادرات من القطاع الخاص.
وفي تاريخ تألق الحضارة الإسلامية نقرأ كثيراً من الصفحات الرائعة عن إنشاء المدارس العلمية، والمكتبات العامة، وتخصيص الأوقاف لخدمة قضايا العلم والمعرفة، والصرف على المنشغلين بها.
لكن مجتمعاتنا في هذه العصور المتأخرة عانت من الركود المعرفي والثقافي، بسبب ضعف الدور الأهلي المجتمعي على هذا الصعيد.
ونتفاءل الآن في وطننا الغالي بانبثاق مبادرات مجتمعية لمختلف أعمال الخير والبّر، لكن مساحة الاهتمام بالشأن الثقافي والمعرفي لا تزال ضئيلة محدودة.
وسيسجل تاريخنا الوطني أن الشيخ عبدالمقصود خوجة كان في طليعة المهتمين بهذا الشأن، حيث أسّس منتداه لإعلاء شأن الثقافة، وتكريم أهل العلم والمعرفة، وتوفير فرص التلاقي والتواصل بين رواد الفكر والأدب، كما تصدى لطباعة عدد كبير من الأعمال الفكرية والأدبية، لكبار المفكرين والأدباء في الوطن.
وكان يصرف مالاً وجهدًا كبيرًا في متابعة طباعتها، بأفضل صور الاتقان في التحقيق والإخراج، كما يهتم بنشرها وتوزيعها مجاناً، وإيصالها إلى المكتبات العامة، وإلى كل الراغبين والمهتمين بالثقافة والأدب.
وتشكّل إصدارات الإثنينية مكتبة قيمة زاخرة تضم ما يقرب مائتي مجلد. وإلى جانب هذه المكتبة الورقية أنشأ موقعاً إلكترونياً متميزاً على الشبكة العنكبوتية يحوي مكتبة إلكترونية لكل مجلدات الإثنينية وإصداراتها، وإرشيف صور يضم 33 ألف صورة توثيقية، وفيديو توثيقي لبرنامج الإثنينية، وبرنامج على ضفاف الإثنينية.
رحم الله الشيخ عبدالمقصود خوجة، وأسكنه فسيح جنانه، وعوّض ساحة الوطن والمعرفة بمن يسدّ الفراغ الذي خلّفه، ويواصل المسيرة التي انتهجها.