الإمام علي (ع) والعمل الاجتماعي
في ذكرى شهادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) تحدث سماحة الشيخ في الليلة الثانية من هذه الذكرى المؤلمة ليلة 20 شهر رمضان 1423هـ حول بعدٍ مهمٍ جداً في حياة أمير المؤمنين وهو بعد الاهتمام بالناس وخدمتهم. وقد افتتح سماحته الحديث بمقطعٍ من كتابٍ بعثه أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنينفعامله على البصرة، جا فيه: «أما بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبةٍ فاسرعت إليها تُستطاب لك الألوان وتُنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تُجيب إلى طعام قومٍ عائلهم مجفو وغنيهم مدعو. فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.ألا وإن لكل مأمومٍ إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتمهاد، وعفةٍ وسداد. »
وذكر سماحة الشيخ في بداية حديثه إن سيرة ألإمام تتلخص في بعدين أساسين، هما:
البعد الأول: إخلاص العبودية لله.
تتجلى في حياة الإمام أروع صور العبودية لله في جميع جوانب حياته. وقد نُقل عنه هذه المقولة المشهورة: إلهي كفاني عزاً أن أكون لك عبداً وكفا بي فخراً أن تكون لي رباً.
البعد الثاني: الاهتمام بخدمة الناس وقضاء حوائجهم.
وهذا البعد منبثقٌ من البعد الأول، وهو تجسيدٌ له. ومن يفهم ويعي مبادئ الإسلام يعرف أن أفضل الطرق لنيل الثواب ورضا الخالق تعالى هو خدمة الناس وقضاء حوائجهم. سئل رسول الله : «من أحب الناس لله؟ فقال : أنفع الناس للناس».
وقال سماحة الشيخ إن قيمة العبادات تبرز في مدى تفاعل الإنسان بالاهتمام بالناس، وإلا فإن العبادة تكون فارغة من محتواها ولا قيمة لها. والقرآن الحكيم يؤكد على ذلك إذ يعتبر أن الذي يُقصر في خدمة الناس مكذباً بالدين، يقول تعالى: ﴿أ رأيت الذي يُكذب بالدين. فذلك الذي يدعُّ اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين﴾.
وحياة أمير المؤمنين مشعلاً وضاءً في هذا الجانب فهو يتنكّر لذاته في قبال خدمة الآخرين، يول : «ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة. ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرّى».
عوائق تحول دون خدمة الناس
بعد ذلك تحدث سماحة الشيخ عن أهم عائق يحول دون خدمة الناس وهو: حب الذات والأنانية المتأصلة في النفوس. وقال سماحة الشيخ: لا مانع من أن يحب الإنسان ذاته، ولكن ينبغي أن يكون ذلك ضمن حدود. وقال سماحته أيضاً: تجد في المجتمع صنوفاً من الناس البعض تصل حالة حب الذات عنده إلى مستوى العداء مع الآخرين، والبعض يصب جل اهتمامه بنفسه وأسرته ولا يشغل فكره بالمجتمع، ولكن تجد هناك أناساً نذروا أنفسهم لخدمة المجتمع لأنهم على يقين بأنه لا يوجد أي مجتمع من المجتمعات يخلو من وجود حالات احتياج أو حالات ضعف.
ضمانات خدمة الآخرين
ثم قال سماحة الشيخ: إن اهتمام الإنسان بخدمة الناس يضمن له أمران:
أولاً- الأجر والثواب.
ثانياً- تحسين وضع المجتمع الذي يعيش فيه.
دوافع خدمة الناس
ثم تحدث سماحة الشيخ عن الدوافع التي تدفع الإنسان باتجاه خدمة الناس، وذكر لذلك ما يلي:
أولاً- الدافع الديني.
قال رسول الله : «من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم».
ثانياً- الوعي الحياتي.
الواعون في الأمة يدركون أن حالات الضعف والفقر في المجتمع تؤثر على المجتمع، ولذا فهم يسارعون لسد ما يمكن سده من هذه الحالات.
تحديات تواجهها الأمة
ثم قال سماحة الشيخ إن الأمة في أمس الحاجة إلى تكاتف أبنائها ومساعدة بعضهم البعض، وخصوصاً مع ما تمر به الأمة من تحديات خطيرة تكالبت عليها في هذا العصر بالتحديد، وذكر سماحة الشيخ من تلك التحديات ما يلي:
أولاً- التحدي القيمي.
خصوصاً مع انتشار الفضائيات وكما يُبث فيها، وكذلك توسع دائرة الإنترنت وما فيها من مواقع غير قيمية.
ثانياً- تحدي الحاجات عند طبقة كبيرة من المجتمع.
خصوصاً في هذا العصر ومع انحسار الحالة الاقتصادية، بعكس ما كانت عليه في الماضي بسبب الطفرة الاقتصادية نتيجة تدفّق البترول في المنطقة.
ثالثاً- تحدي التنمية والتقدم الاجتماعي.
تعيش مجتمعاتنا حالة من التخلف في كثير من الجوانب الحياتية: في التعليم، وفي المعرفة العامة، وفي أنظمة العلاقات الاجتماعية.
وبعدها تساءل سماحة الشيخ: من المسؤول عن مواجهة هذه التحديات؟ في الواقع الواعون والمدركون من أبناء المجتمع ينبغي عليهم التصدي لهذه التحديات. ولكن كيف؟ وهنا طرح سماحة الشيخ عدة نقاط:
أولاً- أن يقرر الإنسان أن يُعطي من نفسه وماله ووقته وفكره.
ثانياً- أن تكون هناك مؤسسات وأطر تتكاتف فيها الطاقات من أجل مواجهة هذه التحديات.
مؤسسات الخدمة الاجتماعية والواقع المأزوم
ودعا سماحة الشيخ بعد ذلك إلى الاهتمام بمؤسسات الخدمة الاجتماعية، وضرورة التكاتف معها من أجل تحقيق أفضل خدمة للمجتمع، وأكد على الشباب وذوي الخبرات العالية أن ينضموا إلى هذه المؤسسات فهي بحاجةٍ ماسةٍ إلى سواعد يُعتمد عليهم.
وقال سماحة الشيخ إن الغرب قد تقدم علينا كثيراً في هذا الجانب وذكر لذلك مجموعة من الإحصائيات، كما تعرض للاجتماع الأول للجمعيات الخيرية في المملكة المنعقد في الرياض وذكر أن ما توصل إليه اللقاء يكشف عن ضعفٍ في التعاون مع المؤسسات الاجتماعية بما لا يتناسب والعدد السكاني للمملكة.
وقال سماحة الشيخ: إن ضعف الإقبال على المؤسسات الخيرية يكشف عن ضمورٍ في التدين، وأن الواقع مجرد شعارات وعناوين يتغنى بها البعض.
ثم قدّم سماحة الشيخ مجموعة من المقترحات للجمعيات الخيرية التي قد تكون عاملاً مساعداً لنهضة مستقبلية:
أولاً- ينبغي أن يتوفر في الجمعيات الخيرية طاقات إدارية متطورة ومتفرغة، وذلك لتتمكن الجمعيات من تحقيق أكبر قدر ممكن من الأهداف المنشودة.
ثانياً- تقوية جانب العلاقات بين الجمعيات والمجتمع، حتى يكون المجتمع على اطلاع تام بما في الجمعيات فيتولد الحماس للدخول ضمن الجمعية.
ثالثاً- التجاوب الاجتماعي مع الجمعيات الخيرية، إذ لا يزال الواقع يشكو من ضعفٍ في هذه الناحية.
ودعا سماحة الشيخ علماء الدين للانفتاح على الجمعيات الخيرية وأن يُصرف جزءً من الحقوق الشرعية على هذه الجمعيات.
أمير المؤمنين خير قُدوةٍ وأسوة
ثم تحدث سماحة الشيخ عن ما ينبغي أن نستلهمه من إحياء ذكريات أهل البيت ، وقال: إن إحياء ذكر أهل البيت ينبغي أن ينعكس على سلوكنا حتى يعرف الجميع آثار هذه المجالس على المجتمع، وإلا فسيستنكر علينا الآخرون إحياءنا لذكر أهل البيت إن لم يجدوا آثارها واضحةً وجلية.
واختتم سماحة الشيخ حديثه باستعراض نماذج مشرقة وجوانب رائعة من حياة أمير المؤمنين تكشف مدى عمق إحساسه المرهف بحاجات الآخرين، فهو كان أباً للأيام وراحماً للضعفاء، وعيناً للمساكين. فالإمام علي نموذجٌ نادر الوجود في عصرٍ يتدافع الناس فيه باتجاه الأهواء والشهوات المادية الفانية.
وأمير المؤمنين بنفسه يدعو شيعته ومواليه بأن يسلكوا طرقه بالمقدار الممكن من طاقتهم، لأنهم قد لا يقدرون على القيام بما يقوم به أمير المؤمنين فتراه يقول: «ألا وإن لكل مأمومٍ إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتمهاد، وعفةٍ وسداد. »
اللهم وصل على علي أمير المؤمنين، ووصي رسول رب العالمين، عبدك ووليك وأخي رسولك، وحجتك على خلقك، وآيتك الكبرى والنبأ العظيم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.