الأميّة الأبجدية والأميّة الثقافية
يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾. [البقرة: 78].
احتفى العالم في اليوم الثامن من سبتمبر باليوم العالمي لمحو الأمية، وقد بدأ الاحتفاء بهذا اليوم الذي قرّرته منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة سنة 1967م، من أجل التذكير بأهمية التعليم، والعمل لتقليص حالة الأميّة التي يسود انتشارها خاصة في البلدان المتخلّفة والفقيرة.
والأميّة تعني عدم المقدرة على القراءة والكتابة، وهي الأميّة الأبجدية، أي عدم معرفة الحروف الأبجدية قراءة وكتابة.
وكانت فرصة تعلّم القراءة والكتابة ضئيلة أمام الناس في العصور الماضية، والمتعلّمون كانوا شريحة محدودة في كلّ المجتمعات، ومع تقدّم المجتمعات البشرية، اتسعت رقعة التعليم، وأصبح إلزاميًّا في معظم البلدان، فتقلّصت مساحة الأميّة على المستوى العالمي.
أرقام صادمة عن الأميّة
ولا تزال مجتمعات كثيرة تعاني من انتشار الأمية، فحسب الإحصاءات الأخيرة الصادرة عن منظمة اليونسكو للأمم المتحدة هناك أكثر من 750 مليون نسمة على الأقلّ من الشباب والكبار يعجزون عن القراءة والكتابة.
وهناك 250 مليون طفل يفشلون في اكتساب المهارات الأساسية للقراءة والكتابة.
وتصل نسبة من يجهلون القراءة والكتابة من سكان العالم البالغين إلى 17%.
وفي العالم العربي يشير تقرير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألسكو) إلى أنّ هناك 69.4 مليون إنسان ممن هم في سنّ 15 عامًا فما فوق يعانون من الأميّة.
وحسب بعض التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2021 فإنّ نسبة الأميّة في الدول العربية بين الفئة العمرية 15 عامًا فما فوق تبلغ 25.5%، وتفيد بعض التقارير أنّ عددًا من الدول العربية ترتفع فيها نسبة الأميّة، في الفئة العمرية 15 فما فوق، (حيث تصل في العراق إلى 49.9%، وفي موريتانيا 46.5، وفي اليمن 45%، وفي جزر القمر 41.2%)[1] .
وقد انخفضت نسبة الأميّة في بعض الدول العربية إلى حدٍّ أدنى، حيث وصلت في البحرين إلى 2.5% وفي فلسطين 2.6% وفي بلادنا وصلت إلى 3.7% ونأمل أن تحتفي بلادنا قريبًا إن شاء الله بتصفير نسبة الأميّة.
ولا شك أنّ التقدّم في محو الأميّة الأبجدية إنجاز مهم وأساس لكلّ مجتمع إنساني.
عن الأميّة الثقافية
لكنّ هناك نوعًا آخر من الأميّة يطلق عليه الأميّة الثقافية، وقد يكون في وسط من يتجاوزون الأميّة الأبجدية.
فقد يتقن الإنسان القراءة والكتابة لكنّه لا يستفيد منها في اكتساب الثقافة والمعرفة، بل يقتصر على الحدّ الأدنى من استخدام القراءة والكتابة في ضرورات حياته.
ولا يجتهد في تنمية قدراته الفكرية للفهم والإدراك، فحتى لو قرأ تكون قراءته سطحية تخلو من التفكير والتأمل.
من هنا فإنّ الأميّة الثقافية تعني أمرين: قلّة الاطّلاع المعرفي، وضعف الاهتمام بفهم وتحليل ما يطّلع عليه.
ولعلّ الآية الكريمة ﴿ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلّا أمانيّ وإن هم إلا يظنون﴾ [البقرة: 78]، التي جاءت في سياق الحديث عن اليهود في العهد النبوي، تتحدّث عن هذا النوع من الأميّة، وهو الأمية الثقافية، حيث يشير بعض المفسّرين إلى أنّ معنى الآية: (أنهم لا يعلمون الكتاب إلّا قراءة اللفظ من دون التعدّي إلى فهم المعنى الحقيقي، فليس حظّهم من الكتاب إلّا ما يتوهمونه ويظنونه)[2] .
(فهم الأميّون الذين لم يملكوا وسائل المعرفة التي يستطيعون من خلالها أن ينفذوا إلى عمق الكتاب، ولذلك كانت معرفتهم بالكتاب معرفة سطحية تنطلق من خلال ما يتصورونه في أنفسهم، وما يتّفق مع تخيّلاتهم وأحلامهم ورغباتهم)[3] .
وفي ذمّ هذه الحالة عند اليهود تحذير للمسلمين ألّا يصابوا بها، فمثلًا قد ننظر إلى شخص لا يقرأ القرآن، لأنه لا يجيد القراءة، فهو محروم من قراءة القرآن؛ لأنه أمّي أميّة أبجدية، وكذلك لو نظرنا إلى شخص يقرأ القرآن كلّ يوم، ولا يسعى لفهم شيءٍ من آياته بالتفكير والتدبر فيها، بل يقرأ القرآن كألفاظ وكلمات، فهو يعيش أميّة ثقافية، فهل هناك فرق بينه وبين الشخص الأول؟
إنّ القرآن يندّد بالأميّة الثقافية في مجال قراءة القرآن:
يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟ [محمد: 24]
وورد في الحديث عن النبي : (يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُمْ)[4] .
مصطلح محو الأميّة الثقافية
ويعود تشكيل مصطلح محو الأميّة الثقافية للمفكر والناقد الأمريكي (إي. دي. هيرش) (مواليد 1928م) في كتابه المشهور (محو الأميّة الثقافية)، ويتمثل هذا المفهوم (محو الأميّة الثقافية في نظره) في قدرة الفرد على فهم المعطيات الثقافية للمجتمع الذي يعيش فيه، وتمكّنه من التفاعل الثقافي في مختلف أوجه وفعاليات الحياة الاجتماعية.
و(يرى أنه إذا كان محو الأميّة الأبجدية يرمز إلى تمكين الفرد من القدرة على القراءة والكتابة، فإنّ محو الأميّة الثقافية يتمثل في الوعي العميق بالمضامين الثقافية القائمة في المجتمع، واستيعاب رموزها وإشاراتها ومعانيها)[5] .
وفي هذا السياق يقول أحد الكتاب: يمكن أن يكون المرء متعلّمًا دارسًا في الجامعة، وتجده شديد الجهل بنفسه وبمن حوله، وبأمور أخرى كثيرة من المفروض أن يكون عارفًا ومحيطًا بها)[6] .
ويرى أحد الباحثين أنّ (الأميّة الثقافية تنشر في منطقتنا العربية بمعدّلات مخيفة بين أوساط حملة الشهادات العلمية العالية، نتيجة الاقتصار على المقرّرات الدراسية الرسمية أو الأكاديمية وتجاهل التزود الثقافي الحرّ)[7] .
نحو تجاوز الأميّة الثقافية
إنّ القدرة على القراءة والكتابة نعمة يجب أن يستثمرها الإنسان في كسب المزيد من العلم والمعرفة، يقول تعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿٣﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿٤﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 3-5].
إنّ البعض يعيش حالة من الكسل والعزوف عن القراءة، حتى لصفحات قليلة أو سطور قليلة كالنشرة المصاحبة للدواء، أو ما يرتبط بثقافة إدارة الحياة، فيتزوج دون أن يقرأ عن الحياة الزوجية، ويستقبل ولادة أطفاله دون أن يستعدّ بثقافة والدية، وهكذا في مجال المعتقدات والأحكام الدينية.
إنه لا عذر للإنسان في هذا العصر بعد توفر وسائل المعرفة وأدوات الثقافة.
إنّ من يحققون الإنجازات والمكاسب في العالم هم روّاد الثقافة والمعرفة.
أجرى الصحفي المخضرم ستيف سيبولد مقابلات صحفية مع أكثر من 1200 شخص ثري من أنحاء العالم خلال السنوات الثلاثين الماضية، فوجد أنّ أهم سمة مشتركة بينهم أنّهم يقرأون كلّ شيءٍ تقريبًا، من كتب تطوير الذات، إلى كتب السير الذاتية.
وقدّمت مجلة (بزنس انسايدر 25 فبراير 2020م) قائمة بعدد من أشهر الأثرياء مع عاداتهم في القراءة.
فمثلًا: وارن بافت (أكبر مستثمر أسهم في العالم) يقضي ما بين 5 إلى 6 ساعات يوميًا في قراءة الكتب والمجلّات والصحف.
بيل غيتس (مؤسس شركة مايكروسوفت) يقرأ خمسين كتابًا كلّ عام.
مارك زوكربرغ (مؤسس فيسبوك) يقرأ كتابًا كلّ أسبوعين.
مارك كوبان (الريادي الناجح وصاحب الدوري الأميركي لكرة السلة للمحترفين) يقرأ ثلاث ساعات يوميًّا.
إنّ القراءة المفيدة هي التي يواكبها أعمال التفكير والتحليل فيما يقرأ الإنسان.
ورد عن الإمام علي بن أبي طالب : (لاَ خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَقُّهٌ، وَلاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَكُّرٌ، وَلاَ خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ)[8] .
ويقول المفكر الإيرلندي (ادموند يورك): القراءة من دون تأمّل مثل الأكل من دون هضم.