تشيّؤ الإنسان ورعاية المسنين
ورد عن رسول الله : «إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ تَعَالَى: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبةِ المُسْلِمِ»[1] .
من أخطر إفرازات الحضارة المادية المعاصرة، هيمنة الروح المصلحية المادية على الإنسان، وإغفال البعد القيمي الأخلاقي، وهذا ما أنتج حالة (تشيّؤ الإنسان).
والتشيّؤ يعني التحول إلى أشياء وأدوات بالمفهوم المادي، وفي المفهوم الاجتماعي، يدلّ على تحول العلاقات بين البشر، إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء، ومعاملة الناس بعضهم بعضًا بعدّهم أشياء مجرّدة، دون النظر إلى القيمة الإنسانية.
العلاقات وفق مبدأ المنفعة
ويعتبر الفيلسوف والكاتب الناقد المجري (جورج لوكاش 1885-1971م) (أول من بحث في موضوع التشيّؤ في الفكر الفلسفي المعاصر، وهو يرى أن التشيّؤ يحوّل العلاقات الإنسانية في ظلّ هيمنة النظام الاقتصادي الرأسمالي إلى أشياء جامدة، وخاضعة لمنطق التبادل التجاري بالصورة التي يتحول فيها البشر إلى سلع، وفق مبدأ المنفعة)[2] .
وقد انتقد هذا الواقع العديد من المفكرين الغربيين، ودقوا أجراس الإنذار والخطر على إنسانية الإنسان.
إنّ تعامل الإنسان مع أيّ شيء من الأشياء، أو جهاز من الأجهزة، إنّما هو بمقدار انتفاعه منه، فإذا انتهت صلاحية ذلك الجهاز، وانتفت المنفعة والمصلحة منه، تنتهي قيمته، ويصبح عبئًا على الإنسان حتى يتخلص منه.
وبذات الطريقة يكون التعامل بين الإنسان والإنسان الآخر، يهتم به ويحترمه ما دامت هناك مصلحة ومنفعة في البين، فإذا انتفت المنفعة والمصلحة، فلا دافع للاهتمام والاحترام. مهما كانت درجة القرابة والصلة بذلك الإنسان، أبًا أو أمًا أو زوجًا أو ولدًا.
التعامل مع المسنين نموذجًا
وتتحدّث كثير من التقارير والإحصاءات عن حالة الجفاء والجفاف في العلاقات الإنسانية في المجتمعات المادية المتقدمة، حيث يكون مصير كبار السنّ والمرضى العاجزين إلى رعاية المؤسسات المعنية، دون اهتمام أو تواصل من أبنائهم وذويهم، وهذا يعرّضهم للوحدة والعزلة الاجتماعية والاكتئاب، وكشفت جائحة كورونا عن مآسي في دور العجزة والمسنين في مختلف المجتمعات الغربية.
وتشير كثير من التقارير إلى أنّ إساءة معاملة كبار السنّ تعدّ إحدى المشكلات العالمية الموجودة بالبلدان النامية والمتقدمة على حدٍّ سواء.
من هنا تأتي أهمية إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة يومًا عالميًّا للمسنين في سنة 1990م هو الأول من شهر أكتوبر في كلّ عام، لتذكير المجتمعات الإنسانية بهذه الشريحة، وضرورة الاهتمام برعايتها. والتعامل معها باحترام يليق بإنسانيتها وعطائها في الحياة.
خاصة وأنّها شريحة آخذة في الاتساع، فبسبب تقدّم مستوى الطب، وتوفر الرعاية الصحية، وتطور خدمات الحياة، ارتفع متوسط العمر عالميًّا، وتضاعف عدد كبار السنّ في مختلف المجتمعات.
المنطق الإنساني في رعاية المسنين
إنّ احترام كبار السنّ ورعايتهم ينطلق من مبدأ احترام إنسانية الإنسان، وتقدير ما قدّم من عطاء ودور في حياته.
كما أنّ هذه المرحلة تنتظر كلّ إنسان يمتدّ به العمر، فحين تتعزّز هذه الحالة تكون حماية لمستقبل أجيال المجتمع.
ورد عن رسول الله : «مَا أكْرَمَ شَابٌّ شَيْخاً لِسِنِّهِ إلاَّ قَيَّضَ الله لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّه)[3] .
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «بَرُّوا آبَاءَكُمْ يَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ»[4] .
من هنا جاءت النصوص الدينية تؤكّد على رعاية المسنين واحترامهم.
ورد عن رسول الله : «مَنْ وَقَّرَ ذَا شَيْبَةٍ لِشَيْبَتِهِ آمَنَهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ»[5] .
وعنه : «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا، فَلَيْسَ مِنَّا»[6] .
وجاء في الكافي بسند صحيح عن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ إِجْلَالَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ»[7] .
على المستوى العائلي فإنّ البرّ بالوالدين يقع في الرتبة التالية لتوحيد الله وعبادته، يقول تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿٢٣﴾ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾. [الإسراء: 23-24].
ورد عن رسول الله : «مَن أصْبَحَ مُطِيعًا لِلَّهِ في والِدَيْهِ أصْبَحَ لَهُ بابانِ مَفْتُوحانِ مِنَ الجَنَّةِ، وإنْ كانَ واحِدًا فَواحِدًا، ومَن أمْسى عاصِيًا لِلَّهِ في والِدَيْهِ أصْبَحَ لَهُ بابانِ مَفْتُوحانِ مِنَ النّارِ، وإنْ كانَ واحِدًا فَواحِدًا». فَقالَ رَجُلٌ: وإنْ ظَلَماهُ؟ قالَ: «وإنْ ظَلَماهُ، وإنْ ظَلَماهُ، وإنْ ظَلَماهُ»[8] .
إنّ رعاية كبار السّن واحترامهم تتجاوز الإطار العائلي، فهي مسؤولية اجتماعية، تستلزم صدور تقنينات تنظم حقوق هذه الشريحة، وتردع أيّ تعدٍّ عليهم أو الإساءة لهم.
نظام حقوق كبير السّن ورعايته
وقد صدر في بلادنا مؤخرًا بتاريخ 3/ 6/ 1443هـ نظام حقوق كبير السّن ورعايته بمرسوم ملكي[9] .
وقد نصّ النظام الذي يحتوي على 23 مادة على قضايا أساسية مهمّة تضمنتها المادة الثانية:
- تمكين كبار السّن من العيش في بيئة تحفظ حقوقهم وتصون كرامتهم.
- نشر التوعية والتثقيف المجتمعي لبيان حقوق كبار السّن؛ لأجل احترامهم، وتوقيرهم.
- توفير معلومات إحصائية موثقة عن كبار السّن؛ للاستفادة منها في إجراء الدراسات والبحوث ذات العلاقة بهم، والمساعدة في وضع الخطط والبرامج.
- تنظيم وتنفيذ برامج مناسبة لكبار السّن؛ تعزّز من مهاراتهم وخبراتهم وممارسة هواياتهم وتعزيز اندماجهم في المجتمع.
- تشجيع القادرين من كبار السّن على العمل، والاستفادة من برامج الدعم الموجهة إلى الجهات المشغلة لهم.
- دعم النشاطات التطوعية في خدمة كبار السّن.
- تأهيل المرافق العامة والتجارية والأحياء السكنية والبيئة المحيطة والمساجد؛ لتكون ملائمة لاحتياجات كبار السّن، وذلك في ضوء الأنظمة والأوامر ذات العلاقة.
- تخصيص أماكن لكبار السّن في المرافق العامة والمناسبات العامة.
- حثّ القطاع الخاص وأصحاب الأعمال والجهات الأهلية على رعاية كبار السّن من خلال إقامة مراكز أهلية وأندية اجتماعية.
وقد حدّد النظام عقوبات رادعة بالسّجن والغرامة على أيّ انتهاك لشيءٍ من حقوق كبار السّن. ومهم جدًّا تداول هذا النظام وتفعيله ونشر مضامينه.
كما يجب أن تنشأ مؤسّسات بمبادرات أهلية تهتم بكبار السّن، وأن تسود المجتمع ثقافة احترام الكبير ورعايته، ويجب أن تتعزّز هذه الثقافة في أوساط الجيل الصّاعد، فبعض أبناء الجيل الجديد تنقصهم هذه الثقافة وهذا الاهتمام.
إنّ الحديث الشريف الوارد عن النبي يعتبر إكرام الكبير من إجلال الله تعالى: «إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ تَعَالَى: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبةِ المُسْلِمِ»[10] .