ثقافة احترام الذوق العام
ورد عن رسول الله : «إِمَاطَة الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ»[1] .
حال المرافق العامة في كلّ بلد كالحدائق والسّاحات والطّرق يكشف عن مستوى الأخلاق والتحضّر في مجتمع ذلك البلد، فإذا كانت المرافق العامة تتمتّع بالنظافة والأناقة، فهذا يدلّ على تحضّر ذلك المجتمع وتقدّم أخلاق أبنائه، أما إذا كانت تفتقد النظافة والترتيب فهذا يدلّ على خلل في الذوق العام الاجتماعي.
هذا هو الانطباع الذي يُكوِّنه الزائر لأيّ بلد، والمجتمع الذي يهتم بسمعته عليه أن يهتم بحال المرافق العامة في بلده، من حيث النظافة والترتيب والأناقة.
وإذا تركنا نظرة الآخرين جانبًا، فإنّ حال المرافق العامة ينعكس على نفوسنا وصحتنا، وتربيتنا لأجيالنا القادمة، فالبيئة النظيفة الأنيقة، والتعامل الحضاري، يشرح النفس، ويريح القلب، ويزيل كثيرًا من أسباب الأمراض الجسمية والنفسية.
لأنّ التلوث والأوساخ، ووجود الجراثيم والميكروبات والروائح الكريهة، من مسبّبات الأمراض والانزعاج في النفوس، من هنا تأتي أهمية رعاية المرافق العامة.
عوامل حماية الذوق العام
هناك ثلاثة عوامل رئيسة تحمي الذوق العام، وتصنع البيئة السّليمة الأنيقة:
أولًا: اهتمام الأجهزة والمؤسّسات الخدمية الرسمية، كالأمانات والبلديات والجهات المعنية بالطّرق والنقل، والجهات الصحية.
فهي المسؤولة بالدرجة الأولى عن حال المرافق العامة.
إنّ وجود الحدائق والمنتزهات والسّاحات والكورنيش يستلزم الصيانة وفرق النظافة الكافية، وكذلك الحال في المطارات ومحطّات الطّرق، والأسواق، والمدارس التي تعاني بعضها من إهمال المرافق الصحية.
إنشاء هذه المرافق أمر مهم مطلوب، لكنّ صيانتها ونظافتها ورعايتها لا يقلّ أهمية، لا يكفي أن ننشئ حديقة أو منتزهًا، أو نشقّ طريقًا، أو نبني مطارًا، فالأمر يستلزم وجود فرق كافية وبرامج لصيانة هذه المرافق ورعاية نظافتها وأناقتها.
أما إذا أنشئت هذه المرافق ثم جرى إهمالها، لنقص في الموظفين، أول لخلل في متابعتهم والرقابة عليهم، فإنّ هذه المرافق العامة يسوء حالها!
ونحن نلحظ كيف أنّ بعض المطارات تتوفر على مرافق صحية نظيفة مرتبة، بينما بعض المطارات ترى في مرافقها ما يثير الاشمئزاز، وتلحظ الإهمال وعدم الاهتمام.
وهذا ما نعانيه حتى في بعض المدارس، يبقى الأطفال الصّغار ساعات من النهار في مدارس تشكو الإهمال في رعاية وصيانة المرافق الصحية، والطلاب لا يشكون إلى أهاليهم، وإذا شكوا فغالبًا لا يتحرّك الناس لمعالجة الأمر مع إدارة المدرسة، وقد لا تتوفر لدى إدارة المدرسة المستلزمات الكافية للنظافة، وهذا خلل كبير، أن يعيش أبناؤنا وبناتنا في مدارس تفتقد النظافة، وخاصّة في المرافق الصّحية.
ومن الأمثلة المهمّة أيضًا الطرق التي تحتاج إلى صيانة ونظافة وإنارة، وكذلك محطّات الطّرق التي يتوقف عندها المسافر، كثير منها يفتقد إلى النظافة، يدخل المسافر إلى المرافق الصّحية لتواجهه الروائح الكريهة والأوساخ، فيتأذّى من حالها، وهو ما يكشف عن خلل كبير في الذوق العام.
وعلى كلّ مواطن أن يتابع مع الجهات المعنية لإصلاح الخلل الموجود في أيّ مرفق من المرافق العامة.
أنظمة مراعاة الذوق العام
ثانيًا: وجود الأنظمة والقوانين التي تُلزم المواطنين مراعاة الذوق العام.
وقد صدرت أخيرًا في بلادنا الضوابط الخاصة بتطبيق لائحة الذوق العام، ودخلت حيّز التنفيذ. وهو أمر مطلوب، رغم وجود نقاشات تدور حول بعض مواد العقوبات، إلّا أنّ أصل وجود نظام لحماية الذوق العام أمر ضروري.
في بعض الأحيان تقوم الجهات الرسمية بمهامّها دون تقصير، تنشئ الحدائق وتشقّ الشّوارع وتوفر خدماتها، وتعيّن موظفين للقيام بنظافتها ورعايتها، لكنّ بعض المواطنين لا يهتمّون برعاية النظافة، وهذا ما نلحظه في بعض الحدائق والشّواطئ، يقصد الناس هذه الأماكن العامة في ليالي العطل، ومع توفر الأوعية المخصّصة للقمامة، إلّا أنّ بعض المواطنين لا يكلّف نفسه جمع القمامة ووضعها في مكانها المخصّص!!
يدخل المرافق الصّحية في المطار أو المسجد ولا يهتمّ بنظافة المكان الذي يستخدمه بعد قضاء الحاجة، كسحب (السّيفون)، لا يرى نفسه معنيًّا بنظافة المكان ورعايته!!
الخلل هنا في الإنسان نفسه، لا يلتزم بالسّلوك الحضاري.
ومن الأمثلة الواضحة عدم التزام البعض بوضع أحذيتهم في الأماكن المخصّصة عند مدخل المساجد أو الحسينيات!
قوانين المرور
من الأنظمة والقوانين المهمّة إلزام سائق السّيارة ومن يجلس بجانبه باستخدام حزام الأمان، وعدم إجراء المكالمات الهاتفية أثناء القيادة، وهي أنظمة لمصلحة الإنسان، فنسبة كبيرة من الحوادث والأخطار تنشأ بسبب استخدام الهواتف، لكنّ البعض يستقبل المكالمات والرسائل ويتفاعل معها وهو يقود السّيارة!
من المؤسف أنّ الناس يحتاجون إلى عقوبات حتى يطبّقوا القوانين التي هي لمصلحتهم ولفائدتهم!
ثقافة الأخلاق والتحضّر
ثالثًا: نشر وترسيخ ثقافة الأخلاق والتحضر التي تحمي الذوق العام، عبر التربية الأسرية، ومناهج التعليم، ووسائل الإعلام، ومنابر الخطاب الديني، لخلق الحافز الذاتي والجوّ الاجتماعي للالتزام.
العائلة ينبغي أن تربّي أبناءها على رعاية النظافة والأناقة، فيتعوّد الولد داخل البيت ألّا يلقى المناديل الورقية بعد استخدامها، بل يضعها في المكان المعدّ لها.
إذا تربّى الأطفال داخل البيت على رعاية الذوق العام، وعلى رعاية النظافة، هذا يهيئهم للالتزام في الفضاء الخارجي العام.
بعض العوائل يشفقون على أبنائهم، فلا يكلّفونهم عناء أيّ عمل، بل تقوم الأمّ أو العاملة المنزلية بجميع الخدمات!!
فينشأ الابن وهو لم يتعوّد حتى على ترتيب ملابسه أو فراشه بعد النوم، وهذا من أخطاء التربية!
ينبغي أن نربّي أبناءنا على ثقافة الاندفاع الذاتي، لكي يراعي الولد الأمور المتعلّقة بنظافته وترتيب حياته وأناقة البيئة والمكان الذي يعيش فيه.
رأيت بعض العوائل يدرّبون أبناءهم على الاعتماد على أنفسهم، كلّ واحدٍ يبادر إلى غسل الوعاء الذي يأكل فيه، وهذا يعني أنه يتربّى على هذه الحالة في كلّ ظرف ومكان.
وكذلك مناهج التعليم ينبغي أن ترسّخ في الطلاب والطالبات احترام الذوق العام، عبر التثقيف والبرامج العملية.
كما أنّ لوسائل الإعلام دورًا هامًّا؛ لأنّ الناس يتابعون ويتأثرون بوسائل الإعلام، كما لا ينبغي أن نغفل دور المنبر الديني في هذا المجال، نحن نلحظ اهتمام الخطاب الديني بالمسائل الشرعية، والحثّ على مراعاة أدقّ المسائل في الوضوء، حتى لا يحدث خلل في الصلاة والصوم، وينبغي أن يهتم الخطاب الديني بترتيب شؤون الحياة.
مفاتيح الجنان ومفاتيح الحياة
لفت نظري أنّ أحد العلماء المراجع في قم وهو الشيخ عبدالله الجوادي الآملي حفظه الله، ألفَّ كتابًا بعنوان (مفاتيح الحياة)، وعنوان الكتاب يستحضر في ذهن القارئ من مجتمعاتنا الشيعية عنوان الكتاب المشهور للمحدث الشيخ عباس القمّي (مفاتيح الجنان) الذي تتداوله الأوساط الدينية كمصدر للبرامج العبادية من صلاة ودعاء وزيارة، وقد أراد الشيخ الآملي لفت أنظار المؤمنين إلى أنّ هناك برامج في الدين لفتح أبواب جنان الحياة، تتمثل في التوجيه للتعامل الصحيح والإدارة الجيّدة لشؤون الحياة المختلفة.
وقد جاء في مقدمة الكتاب: (أنه مثلما مهّد محدّث العصر الكبير الحاج الشيخ عباس القمّي رحمه الله عبر كتابه الخالد والنافع «مفاتيح الجنان» طريق السّير والسّلوك للعبادة وسهّل ارتباط الإنسان بربه من خلال ممارسة الأعمال العبادية على الصُّعد الثلاثة: الصلاة والدعاء والزيارات، والحظوة بفيض ثوابها، فإنه يلزمنا أن نستتبع ذلك الكتاب بحلقة ثانية تكون مكمّلة له، تربط الشؤون الدنيوية للعبادة، لا سيّما الاجتماعية منها بنفس الرؤية، بتعاليم الوحي، ليستلهم الإنسان من هذه الدروس الإلهية لحياته، وينتفع بها لما فيه صلاح دنياه وعقباه، من هنا تسمّى هذا الكتاب بـ «مفاتيح الحياة»)[2] .
ويضم الكتاب الذي يقع في (684) صفحة أبوابًا حول (تعامل الإنسان مع نفسه) و (تعامل الإنسان مع بني جنسه) و(التعامل بين الناس والنظام الإسلامي) و(معاملة الإنسان للحيوان) و(تعاطي الإنسان مع الخِلقة البيئية).
وقد صدرت الطبعة الأولى للكتاب باللغة الفارسية عام 2011م في عشرة آلاف نسخة، ونظرًا للإقبال عليه صدرت طبعاته اللاحقة بصورة متوالية إلى 160 طبعة[3] . وصدرت طبعته الأولى باللغة العربية عام 2019م، والثانية عام 2021م.
توجيه نبوي
في تراثنا الديني وأحكام التشريع الإسلامي ما يؤكّد على هذا البعد الأخلاقي الحضاري، وعلى سبيل الشّاهد والمثال لما ورد في مراعاة الذوق العام، ما روي عن رسول الله : «إِمَاطَة الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ»[4] .
إِمَاطَة الْأَذَى معنى عام، قد يتمثّل هذا الأذى في رائحة كريهة، أو منظر سيئ، أو صوت مزعج، ولا يقتصر ذلك على الطريق فقط، وإنّما المقصود بذلك الفضاء العام، إزالة كلّ ما يؤذي الناس في الفضاء العام، من الملوثات الصوتية والبصرية والشمّية، يعتبر صدقة وفيه ثواب عظيم من قبل الله تعالى. كما أنّ إيجاد ما يسبّب الأذى للناس حرام شرعًا.
فعنه : «دَخَلَ عَبْدٌ اَلْجَنَّةَ بِغُصْنٍ مِنْ شَوْكٍ كَانَ عَلَى طَرِيقِ اَلْمُسْلِمِينَ فَأَمَاطَهُ عَنْهُ»[5] .
تعوّدنا أن نسمع عن دخول الجنة بأعمال الصلاة والصّيام وتلاوة القرآن، والنبي يرشدنا إلى طرق أخرى لدخول الجنة، أعمال ترتبط بالإدارة السّليمة والصّحيحة للحياة.
عن أبي عبد الله قال: «كَانَ ـ علي بن الحسين يَمُرُّ عَلَى اَلْمَدَرَةِ[6] فِي وَسَطِ اَلطَّرِيقِ فَيَنْزِلُ عَنْ دَابَّتِهِ حَتَّى يُنَحِّيَهَا بِيَدِهِ عَنِ اَلطَّرِيقِ»[7] .
هذا الإمام الذي قدّم لنا أدعية شريفة في الصحيفة السّجادية، يقوم أيضًا بأعمال المحافظة على البيئة، وإذا كنّا مهتمّين بقراءة أدعية الإمام زين العابدين علينا أن نقتديَ به في سلوكه، فالدّعاء في حقيقته يربّي الإنسان على أن يكون راقيًا في سلوكه وأخلاقه.
علينا أن نهتم ونربّي أبناءنا على ترك كلّ ما يسبّب الأذى للناس، سواء أكان رائحة أو منظرًا أو صوتًا مزعجًا!.