جدلية العلاقة بين المصلحة والرغبة
يقول تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. [البقرة: 216]
المصلحة من الصلاح، وهي المنفعة والخير والفائدة.
والرغبة من معانيها الميل النفسي للشيء وارادته والحرص عليه.
إنّ حبّ الإنسان لذاته يدفعه للسّعي نحو ما فيه مصلحة وخير له، وللابتعاد عمّا يناقض مصلحته، ويجلب له الشّر والضّرر.
قد يحصل تطابق بين المصلحة والرغبة، حين يرغب الإنسان ويحبّ ما فيه منفعة وخير له، ويكره ما يسبّب له الشّر والضرر.
وقد يحصل تنافٍ وتباين بين الأمرين، بين ما ينفع الإنسان وما يرغب فيه أو يكرهه، حين تتعلّق رغبة الإنسان بشيءٍ يضرّه أو يكره أمرًا ينفعه ويفيده.
إنّ إدراك المصلحة قد يحتاج إلى بذل جهد، واستخدام القدرة العقلية، أما الرغبة في الشيء، أو عن الشيء، فهي ميل عاطفي ساذج، قد يحصل في نفس الإنسان لأدنى سبب.
وعلى الإنسان أن يفكّر في الأمور ويتعامل مع الخيارات من خلال عقله، ليحقّق المصلحة لنفسه، وليس من خلال ميوله العاطفية في حبّ شيءٍ أو كرهه.
إنّ الإنسان قد يكره شيئًا بينما تكون فيه مصلحته، وقد يحبّ شيئًا بينما تكون فيه مضرّته، وذلك لأحدِ سببين:
إدراك المصلحة
1/ الجهل بموقع المصلحة والمضرة، حيث لا تتوفر للإنسان كلّ المعلومات المرتبطة بما يواجهه في الحياة.
يقول تعالى ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾. [الإسراء: 85]
ويقول الشاعر:
فقلْ لمنْ يدَّعِي في العلمِ معرفةً علمتَ شَيئاً، وغابَتْ عنك أشياءُ
وقد ينظر الإنسان للأمر من زاوية، ويجهل أو يتجاهل الزوايا الأخرى، فيحبّ أو يكره ما ينفعه أو يضره من جهة، لكنّه قد لا يكون كذلك من سائر الجهات.
سيطرة العاطفة
2/ قد تسيطر الميول العاطفية على الإنسان حبًّا أو كرهًا، فتمنعه من التفكير السّليم والنظرة الموضوعية لتشخيص المصلحة والمضرة.
ورد عنه : «حُبُّكَ لِلشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ»[1] .
وعن الإمام علي : «مَنْ عَشِقَ شَيْئا أَعْشَى بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَة»[2] .
وعنه : «إِنَّكَ إِنْ أَطَعْتَ هَواكَ أَصَمَّكَ وَأَعْماكَ»[3] .
إنّ الآية الكريمة ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. [البقرة: 216] تريد ترشيد رؤية الإنسان للأشياء لينظر إليها من خلال إيمانه وعقله، وليس من خلال رغباته وميوله العاطفية فقط، وهذا الترشيد نحتاجه في المسارات التالية:
أحداث الكون والحياة
أولًا: في المسار الكوني الوجودي، فإنّ أمور الكون والحياة تجري بإرادة الله تعالى، ووفق حكمته، ولا خيار للإنسان إلّا التسليم والرضا بقضاء الله وقدره.
إنّ ما يظهر للإنسان من تبعات وأضرار بعض الحوادث الكونية، كالكوارث والأوبئة، والوفيات والأمراض، لا بُدّ من فهمه في سياق المعادلات العامة لمصلحة الحياة والوجود، التي أرادها الله تعالى، ولا ندرك كلّ أبعادها.
يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. [البقرة: 216]
إنّ من مبادئ الإيمان الثقة بعدل الله وحكمته، والاعتقاد بأنّ أحداث الكون والحياة تجري وفق قوانين وسنن لمصلحة كلّ الوجود، وضمن الإرادة والحكمة الإلهية، لكنّ معرفة الإنسان محدودة بما يجري في هذا الكون.
نشرت (سي إن إن) تقريرًا عن المركز الأوروبي للأبحاث النووية يقول فيه: إنّ العلماء يجهلون 96% من الكون.
يقول تعالى ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾. [الإسراء: 85]
ويقول تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾. [المؤمنون: 71]
يقول الفيلسوف سقراط: كلّ ما أعرفه أنني لا أعرف شيئًا.
ورد عن علي : «إِنَّ اللّه َ سُبْحانَهُ يُجْرِي الأمُورَ عَلى ما يَقْتَضيهِ لا عَلى ما تَرتَضيهِ»[4] .
وفي الدعاء: «اللّهُمَّ فَاجْعَلْ نَفْسِي مُطْمَئِنَّةً بِقَدَرِكَ راضِيةً بِقَضائِكَ»[5] .
ويحدث كثيرًا أن يندفع الإنسان لأمر فيتعذر عليه فينزعج من ذلك ثم يكتشف أنّ مصلحته في ذلك.
ورد عن علي : «إٍذا لَمْ يَكُنْ ما تُريدُ فَأَرِدْ ما يَكُونُ»[6] .
التشريعات الإلهية
ثانيًا: في المسار التشريعي: فإنّ التشريعات الدينية الثابتة إنّما شرّعها الله لمصلحة الإنسان، ولا تلبّي حاجةً لله، فالله غني عن العالمين.
ورد عن الإمام علي : «خَلَقَ اَلْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِنًا مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ»[7] .
وإذا كان الإنسان لا يدرك مصالح بعض التشريعات، فذلك إمّا لنقصٍ في علمه وخبرته، أو لأنه غافل عن الأبعاد الأخرى للتّشريع، كالمصالح المعنوية الروحية، ومصلحة مستقبله الأخروي، ومراعاة المصالح الاجتماعية والإنسانية العامة.
ويجري هذا الأمر أيضًا في مجال القوانين العامة التي توضع لمصلحة نظام حياة المجتمع.
في العلاقات وإدارة الحياة
ثالثًا: في مسار العلاقات الاجتماعية: على الإنسان أن يوطّن نفسه على الصبر وتحمّل بعض ما يكره من الآخرين، فذلك ما يساعده على النّجاح في حياته، وعلى تحقيق المصالح الأهم.
يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾. [الفرقان: 20]
في العلاقات الزوجية يقول تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾. [النساء: 19]
وفي مجال إدارة الإنسان لشؤون حياته، ينبغي أن يفكر بعقله، ويدرس الخيارات التي تواجهه، بعيدًا عن هيمنة الرغبات والعواطف، ففي اختيار شريك الحياة مثلًا: على الشاب والفتاة ألّا يخضعا للجانب العاطفي فقط، فيكون الجمال والشكل هو المعيار الوحيد في الاختيار، دون النظر إلى بُعدِ الانسجام الروحي والأخلاقي، ووجود سائر مؤهّلات الشراكة الزوجية الناجحة.
وكذلك حين تتعذّر على الطالب تحقيق رغبته في اختيار تخصّصه الدراسي، أو الجامعة التي يودّ الالتحاق بها، فإنّ عليه أن يتفاعل إيجابيًّا مع الخيارات الممكنة، وقد يجعل الله فيها خيرًا كثيرًا.
وهكذا الحال في مجال فرص العمل المتاحة، حيث يحصل كثيرًا أن يجد الإنسان النجاح في مجال لم يكن يتوقعه فيه.