تجليات جديدة للقدرة الإلهية
يقول تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف: 105].
من العلوم الجديدة علم المعرفة والإدراك، أو علم الاستعراف، هذا العلم الجديد يدرس العقل وآليته في معرفة الأشياء، ويتداخل مع علوم مختلفة، مثل (علم النفس المعرفي)، والفلسفة، والمنطق، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والعلوم العصبية، وغيرها.
يؤكد هذا العلم أنّ الذّهن عندما يحفظ ويستذكر ويدرك ويفكّر، هو في الحقيقة يقوم بالترّميز وفكّ الرموز.
الترّميز هو جعل شيء علامة على آخر، بحيث تربط هذا الشيء (الرمز) بذاك الآخر (المرموز إليه) وفكّ الرموز هي عملية استرجاع، يحيلك فيها الرمز إلى الأصل المرموز إليه.
وبسبب هذه الطبيعة الذهنية للإنسان أصبح الإنسان يعيش عالمًا مليئًا بالرموز والإشارات.
تسير في الشارع وترى الرموز تلاحقك.. الإشارة الحمراء ترمز للتوقف، والخضراء للسير والحركة، وثمة إشارات ترمز لمنع الوقوف، أو الانتباه، أو تحديد السرعة.
تأتي إلى الكمبيوتر، فتجد أنّ كلّ قطعة في لوحة المفاتيح ترمز إلى شيءٍ محدّد، ولها وظائف ومهام محددة.
تمسك الريموت كونترول بيدك لتفتح التلفزيون، فتجد أنّ كلّ زرٍّ هو رمز لمهمّة محدّدة، ولكلّ قناة في التلفزيون رمزًا تردّديًا محدّدًا.
حتى عالم الملابس يتضمّن رموزًا ويرسل إشارات، العمامة ترمز للدين، الصليب يرمز للمسيح، لباس الجندي يرمز للسّلطة العسكرية، رداء القاضي يرمز للسّلطة القضائية، رداء الطبيب الأبيض يرمز للصحة والعلاج.
إنْ رأيت دخانًا كثيفًا يتصاعد ستعرف أنّ ثمة نارًا مشتعلة قبل أن تراها. إنْ رأيت ضوءًا ساقطًا على جدار ستعرف أنّ قرص الشمس قد طلع وإن كنت لم تره، وإنْ سمعت صوتًا من رواء جدار ستعرف أنّ ثمة متكلمًا وإن لم تره.
وهكذا ينتقل ذهن الإنسان من الأثر إلى المؤثر، ومن الفعل إلى وجود الفاعل، ومن العلامة إلى ما تدلّ عليه.
وفي هذا السياق يأتي استخدام القرآن الكريم لمصطلح آية، وهي العلامة والإشارة الدالة على شيء[1] .
ويتحدّث عن ظواهر الخلق والوجود باعتبارها علامات وإشارات دالة على وجود الله تعالى وعظمته.
لكنّ ذلك بحاجة إلى التفاتة من الإنسان بعقله وإدراكه، فهي تشير بوضوح إلى أنّ وراءها خالقًا قادرًا حكيمًا.
نقول هذا مقدّمة للإشارة إلى الحدث أو الإنجاز العلمي العظيم الذي أعلن عنه مؤخرًا، وهو يمثل تجليًا جديدًا للقدرة الإلهية.
صور مذهلة عن بدايات الكون
في يوم الإثنين 12 يوليو 2022م (أصدر الرئيس الأميركي جو بايدن الصورة الأولى من تلسكوب جيمس ويب الفضائي التابع لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا"، وهي صورة لمجموعة مجرات تكشف عن أكثر لمحة تفصيلية عن بدايات الكون.
وأظهرت الصورة التي عرضها بايدن ورئيس ناسا، بيل نيلسون، سلسلة مجرّات عمرها 4.6 مليار.
وقال نيلسون: إنّ واحدًا على الأقلّ من المشاهد الضوئية الخافتة الأقدم التي تظهر في "خلفية" الصورة يعود إلى أكثر من 13 مليار سنة، مما يجعله أصغر بنحو 800 مليون سنة فقط من الانفجار الكبير، وهو الشرارة النظرية التي بدأت توسع الكون المعروف قبل نحو 13.8 مليار سنة.
وقبل الكشف عن الصورة، قال بايدن: "إنّها نافذة جديدة على تاريخ الكون الذي نعيش فيه، وسنحصل اليوم على لمحة لأول ضوء يسطع من تلك النافذة: ضوء من عوالم أخرى، نجوم تسبح في أفلاك بعيدة جدًّا عن عالمنا. إنه أمر مذهل بالنسبة لي".
أول صورة تم الإعلان عنها يوم الإثنين السابق التي أظهرت عددًا كبيرًا من مجموعة مجرّات وكأنّها عدسة مكبّرة لأجسام توجد خلفها، ويطلق على تلك العدسة عدسة الجاذبية، وقد نتج عن ذلك منظر لمجال عميق يشتمل على مجموعة من المجرّات القديمة الخافتة بصورة مذهلة، بعضًا من تلك المجرّات البعيدة لم يرها العالم من قبل.
بعد حوالي 6 شهور من إطلاق تلسكوب جيمس ويب في الفضاء، أطلقت الصورة الأولى الملونة له بشكل دقيق للغاية.
وضع تلسكوب جيمس ويب في الفضاء في مدار يبعد عن الأرض حوالي مليون ونصف كيلومتر، أي ما يقرب من 4 ضعف المسافة التي بين القمر والأرض.
حقبة جديدة من علم الفلك
علماء الفلك يتوقعون الحصول على مجموعة من الاستنتاجات عن تكوين المجرّات والنجوم الأولى، إلى جانب قيام التلسكوب بعملية مسح للفضاء من أجل إيجاد حياة على الكواكب البعيدة، أي التي توجد خارج النظام الشمسي ومكونات تلك الكواكب الجيولوجية.
بعد أن تمكن التلسكوب من التقاط الصورة الأولى هتفت وكالات الفضاء حول العالم بنجاح مهمّة هذا التلسكوب الذي كلّف بناؤه 10 مليار دولار أمريكي و25 سنة من الجهد.
والتقط "جيمس ويب" كذلك صورة لخماسية ستيفان وهي مجموعة مجرّات تبعد 290 مليون سنة ضوئية عن الأرض).[2] .
يقول أشرف شاكر، رئيس قسم الفلك بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية بمصر: «كان التأريخ للعلم قبل أمس الإثنين، ينقسم إلى مرحلتين، الأولى: ما قبل الصعود إلى القمر، والثانية: ما بعد الصعود للقمر، حيث حدثت ثورة الاتصالات والمعلومات، ولكن، ودون مبالغة، قد نكون بعد صورة تلسكوب جيمس ويب، على أعتاب تأريخ جديد يقسّم العلم إلى مرحلتين، وهما ما قبل التلسكوب وبعده».
ويوضح شاكر أنّ «ما تم نشره قد يكون غيضًا من فيض، فهذا التلسكوب الذي تم تطويره بالتعاون بين وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) ووكالة الفضاء الأوروبية ووكالة الفضاء الكندية، سيكون أداة لحلّ الكثير من الألغاز الكونية التي سيكون لها انعكاسات على حياة البشر على الأرض.
ويقول رمزي عبد العزيز، عضو هيئة التدريس بمركز الفحص المجهري النانوي بجامعة آلتو بفنلندا لـ «الشرق الأوسط»: «عندما تتمعن في الصورة، تتخيّل أنّ حجم كوكبنا الأرضي أمام حجم الكون كلّه وما يحتويه من آلاف المليارات من المجرات، هو كمثل حجم حبة رمل في وسط كلّ رمال الصحاري وشواطئ البحار وأعماقها وأضعافها وأضعاف أضعافها، عندها سيدرك البشر حجمهم الطبيعي بالنسبة للكون».
ويشير رئيس المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية بمصر جاد القاضي إلى مجموعة من الأسئلة التي سيساعد التلسكوب وصوره في الإجابة عنها، مثل «هل توجد كائنات فضائية أم لا؟»، و «هل توجد عناصر للحياة خارج كوكب الأرض؟»، و «أين نحن في كوكب الأرض من الكون؟»، و «ما هو عمق الكون وعمره الدقيق وكيفية نشأته؟».
وقال رئيس وكالة الفضاء الأميركية بيل نيلسون إنّ "كلّ صورة هي اكتشاف جديد"، معتبرًا أنّ كلّ لقطة "ستمنح البشرية رؤية للكون كما لم نشاهده من قبل"[3] .
وتظهر في الصورة التي نشرتها ناسا آلاف المجرّات التي تشكّلت بعيد الانفجار العظيم وولادة الكون.
وعلق عالم الفلك في جامعة كورنيل جوناثان لونين لوكالة فرانس برس قائلًا: "لقد بدأت حقبة جديدة في علم الفلك"، واصفًا الصورة بأنّها "رائعة"[4] .
غياب الحديث عن الله
إنّ هذا الإنجاز العلمي الكبير والصور الباهرة التي أظهرها عن تاريخ الكون، بمثابة تجلّيات جديدة للقدرة الإلهية العظيمة.
لكن من يتابع الإعلان عن هذا الحدث الاستثنائي ومستوى التفاعل معه عالميًا يدهشه أمران:
الأول: لم يأخذ ما هو جدير به من التفاعل قياسًا بتفاعل الناس مع الأحداث السياسية، أو حتى المباريات الرياضية، أو ما يتعلّق بنجوم الفنّ.
الثاني: هناك غياب وتغييب للحديث عن الله الخالق المدبر الحكيم.
إنّ القرآن الكريم يلفت نظر الإنسان دائمًا للانتقال من الإشارة إلى ما تشير إليه، ومن العلامة إلى ما تدلّ عليه.
يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴿٢٠﴾ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿٢١﴾ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ﴿٢٢﴾ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴿٢٣﴾ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿٢٤﴾ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾. [الروم: 20-25]
إنّ معظم من تحدّثوا عن الموضوع أظهروا انبهارهم ودهشتهم لما كشفت تلك الصور عن عظمة الخلق والوجود، واتساع رقعة الكون، والعجز عن التنبؤ بحدوده، ولم يتجاوزوا ذلك للحديث عن دلالة هذه الاكتشافات المذهلة على وجود الخالق وعظمته، إنّ اكتشاف أيّ لوحة فنية رائعة يدفع المتابعين والمهتمين، للبحث عن مبدع تشكيل تلك اللوحة ومنتجها، وإن ظهر أيّ منجز علمي يحفّز لتمجيد وتبجيل صاحب ذلك الإنجاز ورائده، فلماذا يتجاهلون الحديث عن مبدع هذا الكون العظيم، وهم يكتشفون تجلّيات قدرته؟
لماذا يستكبرون ويعرضوه عن دلالات هذه الآيات الواضحة، متجاهلين منطق الفطرة والعقل؟
وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾. [الأعراف: 146]