العلاقات البينية والتحدّي الخطير
جاء في وصية لأمير المؤمنين علي لولده الحسن: «يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَينَكَ وَبَينَ غَيرِكَ، فَأَحبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ»[1] .
إنّ العلاقة مع الآخرين ضرورة تفرض نفسها على الإنسان، وذلك انطلاقًا من الحقائق التالية:
أولًا: لأنّ طبيعة الحياة الإنسانية، اجتماعية، والإنسان مدني بالطبع، فلا يستطيع تسيير حياته بمفرده، ومع تقدّم الحياة اتّسعت رقعة ارتباط الإنسان بالآخرين، ففي الماضي كانت أمور الحياة بسيطة بدائية، فكانت حاجة الناس لبعضهم في حدودها، ضمن العشيرة أو القرية، لكنّ الحياة تطورت فأصبح الإنسان يتعامل مع مساحة واسعة من الناس، في مجال تعليمه، واقتصاده ووظيفته وصحته، ومختلف مجالات حياته.
بل قد ترتبط بعض شؤون حياة الإنسان بمن يعيشون في أقصى أنحاء العالم، وراء البحار والمحيطات، حيث يعيش العالم حالة متقدّمة من التواصل والتداخل وتشابك المصالح، وخاصّة على صعيد العلاقات بين الدول والمجتمعات.
وعندما سمع الإمام زين العابدين رجلًا يدعو قائلًا: اللَّهُمَّ أَغْنِنِي عَنْ خَلْقِكَ. قَالَ : «لَيْسَ هَكَذَا إِنَّمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ، وَلَكِنْ قُلِ: اللَّهُمَّ أَغْنِنِي عَنْ شِرَارِ خَلْقِكَ»[2] .
ثانيًا: إنّ العلاقة مع الآخرين جزء من تحقيق الذات وكمالها.
فالإنسان يأنس بأخيه الإنسان، ولو توفرت لإنسان كلّ وسائل الحياة والرفاه في جزيرة معزولة يعيش منفردًا فيها لما ارتاح لذلك.
ولمستوى علاقات الإنسان مع من حوله من أبناء جنسه تأثير كبير في تحقيق ارتياحه النفسي.
كما أنّ العلاقة مع الآخرين تصقل مهارات الإنسان وقدراته، وبها يتبادل التجارب مع الآخرين.
والإنسان يحقّق ذاته من خلال العلاقة مع الآخرين، لذلك يهمّه أن تكون له مكانة عند الآخرين ويسوؤه أن يكون منبوذًا ومهمّشًا ومحاصرًا من قبلهم.
ثالثًا: على المستوى الديني، فإنّ العلاقة بالآخرين ذات صلة بالعلاقة بالله تعالى، وبمستقبل الإنسان في الآخرة، فلا يرضى الله تعالى عن الإنسان إذا أساء في علاقته بالآخرين، إنّ العلاقة السّليمة مع الآخرين طريق للقرب من الله تعالى وتحصيل ثوابه ورضاه. كما أنّ سوء العلاقة مع الآخرين يوجب سخط الله وعقابه.
وكما يتقرّب الإنسان إلى الله تعالى بعبادته، يتقرّب إليه بحسن العلاقة مع عباده.
لذلك ورد عن النبي محمد «إِنَّ الْمُؤْمِنُ الذي يُخَالِطُ الناس وَيَصْبِرُ على أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا من الْمُؤْمِنِ الذي لَا يُخَالِطُ الناس، ولا يَصْبِرُ على أَذَاهُمْ»[3] .
وعنه : «المُؤمِنُ يألَفُ ويُؤلَفُ، ولا خيرَ فيمَنْ لا يألَفُ ولا يُؤلَفُ، وخيرُ النَّاسِ أنفَعُهم للنَّاسِ»[4] .
ميدان التحدّي والاختبار
لكنّ علاقة الانسان بأخيه الانسان تكتنفها صعوبات؛ لتضارب المصالح بسبب نزعة حبّ الذات، وسعي كلّ واحد لتحصيل أكبر قدرٍ من المكاسب، ولو على حساب الآخر. كما أنّ أمزجة الناس ونفسياتهم مختلفة، فالتعامل مع البشر يختلف عن التعامل مع أشياء الطبيعة الأخرى، التي هي ضمن قوانين ثابتة، بينما البشر أمزجة مختلفة وعقول متفاوتة ومصالح متضاربة، بل مزاج الواحد قد لا يكون ثابتًا بل يتغيّر باختلاف الأحوال والظروف، مما يضفي على الصّعوبة صعوبة أخرى.
ولا يستطيع الإنسان أن يجعل الآخرين حسب مزاجه ورغبته، وهل الناس لباس تفصّله على ذوقك ومقاس جسمك؟
أم أثاث يصنعه لك النجار حسب القياسات التي تريدها؟ وهذه مشكلة حقيقية حتى في العلاقة الزوجية.
من هنا يتبيّن مكمن التحدّي، فالإنسان محتاج للعلاقة مع أخيه الإنسان، لكنّه مختلف معه ولا يستطيع الانفصال عنه.
لذلك يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾. [الفرقان: 20]
القاعدة الذهبية
هذا التحدّي كان محلّ اهتمام جميع الديانات والاتجاهات الأخلاقية في التاريخ الإنساني، وهناك مبادئ وقيم أساس لإرشاد الإنسان لطريق النجاح في مواجهة هذا التحدّي.
من تلك المبادئ ما يطلق عليه (القاعدة الذهبية الأخلاقية): (أحبّ لأخيك ما تحب لنفسك) التي تحدّثت عنها كلمات أمير المؤمنين علي .
ولهذه القاعدة حضور في تراث مختلف الديانات والحضارات، حيث ورد مضمونها في موارد متعدّدة من العهد القديم للديانة اليهودية، وكذلك في نصوص الأناجيل المسيحية، وفي القرآن الكريم آيات تحمل روح ومضمون هذه القاعدة، إضافة إلى ورود أحاديث وروايات عن النبي وعن أئمة أهل البيت بالألفاظ المتداولة لهذه القاعدة الأخلاقية أو ما يقاربها.
ولا ينحصر حضور هذه القاعدة في الأديان السماوية الإبراهيمية، فقد تبنّتها سائر الديانات كالبوذية والكونفوشيوسية والزرادشتية، إضافة إلى حضارات الشعوب القديمة، وقد تم إعلانها رسميًّا في برلمان أديان العالم ضمن إعلان (نحو أخلاق عالمية) عام 1993م[5] .
وهذا التوصيف لهذه الجملة بصفة القاعدة الذهبيّة توصيف بدأ في اللغة الانجليزيّة، ويرجع ـ على الأرجح ـ لبدايات القرن السابع عشر الميلادي، خاصّة في وسط بعض رجال الدّين المسيحيّين، في إشارة لتفوّق هذه القاعدة على سائر القواعد الأخلاقيّة، وقد تمّت ترجمته للغات العالم بهذا التعبير عقب الحرب العالميّة الأولى[6] .
إنّ جوهر هذه القاعدة الذهبية، يعني تجاوز الإنسان لتفكيره الأناني الذاتي، واستحضار مصالح الآخر ومشاعره، فكما تهمّك مصالحك ومشاعرك، فإنّ للآخرين مصالحهم ومشاعرهم، فلا بُدّ وأن يكون الاحترام متبادلًا، حتى تستقيم العلاقة البينية.
وهذا ما تؤكّد عليه وصية الإمام علي لولده الحسن: «يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَينَكَ وَبَينَ غَيرِكَ، فَأَحبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ»[7] .
الاهتمام بثقافة العلاقات البينية
إننا نعيش في ظلّ ثقافة مادية ترسّخ التفكير الأناني في نفس الإنسان، بتحريض الرغبات وتعزيز الروح المصلحية على حساب المبادئ والقيم. وهو ما يدفع لتجاهل مشاعر الآخرين ومصالحهم.
وما نقرؤه في التقارير والإحصاءات عن بعض الجوانب الاجتماعية في بلادنا يدقّ ناقوس الخطر تجاه الثقافة السّائدة، ومستقبل العلاقات البينية.
ونشير إلى تقريرين نشرا خلال هذا الأسبوع، أحدهما يتحدّث عن حالات المشاجرات الاجتماعية، التي تصل إلى حدّ العنف الجسدي، حيث تسبّبت في نقل 12.751 حالة إلى المستشفيات عبر مراكز وسيارات الهلال الأحمر خلال العام الماضي 2021م[8] .
بينما يتحدّث التقرير الآخر عن وقوع حالة طلاق كلّ عشر دقائق في المملكة[9] ، وهذا يكشف عن الحاجة للتركيز على ثقافة العلاقات البينية داخل الأسرة، وفي التعليم، ووسائل الإعلام والتواصل، وفي الخطاب الديني.