القبلة عنوان وحدة الأمة
يقول تعالى: ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾. [البقرة: 144]
كان رسول الله والمسلمون في مكة لثلاثة عشر عامًا من البعثة إلى الهجرة، يستقبلون بيت المقدس في صلاتهم، واستمرّ ذلك بعد الهجرة إلى المدينة المنورة سبعة عشر شهرًا أو تسعة عشر شهرًا، ثم جاء الأمر الإلهي باستقبال المسجد الحرام في الصلاة.
وقد تحدّثت عن هذا التغيير في جهة القبلة، بضع آيات في القرآن الكريم، من سورة البقرة، كما ورد عدد من الأحاديث والروايات في السيرة النبوية، حول ملابسات هذا التغيير وتداعياته.
وتوحي الآيات القرآنية، أنَّ النبي كان يتطلّع إلى أمر الله تعالى بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وأنّ الله تعالى استجاب لرغبة نبيّه ، وأمره بالتوجه في صلاته إلى الكعبة، بدلًا من بيت المقدس، يقول تعالى: ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [سورة البقرة، الآية: 144].
جاء في صحيح البخاري عن البرّاء بن عازب: «لَمَّا قَدِمَ رَسولُ اللَّهِ المَدِينَةَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكانَ يُحِبُّ أنْ يُوَجَّهَ إلى الكَعْبَةِ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ [البقرة: 144]، فَوُجِّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ»[1] .
وفي رواية أخرى عن البرّاء بن عازب: «أنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكانَ يُعْجِبُهُ أنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ»[2] .
وتشير بعض الأحاديث والروايات إلى أنّ اليهود في المدينة، كانوا يعتبرون أنّ توجه النبي والمسلمين إلى بيت المقدس، هو نوع من الاعتراف بأصالتهم الدينية، وتبعية المسلمين لهم، وكان هذا الادّعاء منهم يؤذي رسول الله ، فيتوجه بطرفه للسماء، متطلّعًا لأمر الله تعالى بتغيير جهة القبلة إلى الكعبة. كما جاء في رواية عن أمير المؤمنين علي : «أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ كَانَ فِي أَوَّلِ مَبْعَثِهِ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ اَلْمَقْدِسِ جَمِيعَ أَيَّامِ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ، وَبَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى اَلْمَدِينَةِ بِأَشْهُرٍ فَعَيَّرَتْهُ اَلْيَهُودُ وَقَالُوا: إِنَّكَ تَابِعٌ لِقِبْلَتِنَا، فَأَحْزَنَهُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي اَلسَّمَاءِ، وَيَنْتَظِرُ اَلْأَمْرَ: ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾»[3] .
وجاء في تفسير ابن كثير: (أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ، فاستمرَّ الأمرُ عَلَى ذَلِكَ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُكْثِرُ الدّعاءَ والابتهالَ أنْ يُوَجَّه إِلَى الْكَعْبَةِ، التِي هِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَأُمِرَ بالتوجِّه إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)[4] .
وقال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾: (وَعبّر بترضاها لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَيْلَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ مَيْلٌ لِقَصْدِ الْخَيْرِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَعْبَةَ أَجْدَرُ بُيُوتِ اللَّهِ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَهُوَ أَجْدَرُ بِالِاسْتِقْبَالِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلِأَنَّ فِي اسْتِقْبَالِهَا إِيمَاءً إِلَى اسْتِقْلَالِ هَذَا الدِّينِ عَنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَمَّا كَانَ الرِّضَى مُشْعِرًا بِالْمَحَبَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ تَعَقُّلٍ، اخْتِيرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، دُونَ تُحِبُّهَا أَوْ تَهْوَاهَا أَوْ نَحْوِهِمَا، فَإِنَّ مَقَامَ النَّبِيءِ يَرْبُو عَنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ مَيْلُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَصْلَحَةِ الْعَارِضَةِ لِمَشْرُوعِيَّةِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ)[5] .
مواجهة التحدّي اليهودي
كان اليهود في المدينة يمثلون تحدّيًا خطيرًا على الصعيد الفكري والنفسي للمجتمع الإسلامي الناشئ، فهم يتكئون على تراث ديني شابه كثير من التحريف والتغيير، ويتخذون موقفًا عدائيًّا مناوئًا للدعوة الدينية الجديدة، ويمارسون التعالي والزّهو على سائر الأمم والمجتمعات؛ لاعتقادهم أنّهم شعب الله المختار، لذلك كانوا يشنّون حربًا نفسية ضروسًا على المسلمين، ويسعون للتشويش على مواقف رسول الله ، وبثّ الشكوك والشّبهات حول المعتقدات والشرائع الإسلامية.
لذلك اهتمّ رسول الله بتحصين المجتمع الإسلامي فكريًّا ونفسيًّا، في مواجهة محاولات الاختراق والتأثير اليهودي، وفي هذا السّياق كان تطلّعه لتغيير جهة القبلة عن بيت المقدس إلى البيت الحرام، من أجل تعزيز استقلال شخصية المجتمع الجديد، وسدّ ثغرات التأثير النفسي المضاد.
وجاءت الاستجابة الإلهية بتحويل القبلة، تحقيقًا لهذا الغرض، كما يشير قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].
فقد أراد الله تعالى لهذه الأمة أن تكون في موقع الريادة للأمم الأخرى، وليس في موقع التبعية للآخرين، بما حمّلها الله من رسالة عظيمة هي خاتمة الرسالات السماوية، وبما خصّها من قيادة نبوية هادية هي سيّد الرسل وخاتم الأنبياء محمد .
وقد أدرك اليهود، أنّ تحويل القبلة قد فوّت عليهم فرصة مهمّة، كانوا يستغلّونها في كيدهم للإسلام والمسلمين، فاتّجهوا للتشويش على هذا التشريع الإلهي، وإثارة التساؤلات والشكوك حوله، ووجدت إثاراتهم صدًى في نفوس ضعفاء الإيمان والوعي، وفي أوساط المنافقين.
يقول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان: (ومن المعلوم أنّ تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، من أعظم الحوادث الدينية، وأهم التشريعات التي قوبل بها الناس بعد هجرة النبي إلى المدينة، وأخذ الإسلام في تحقيق أصوله، ونشر معارفه، وبثّ حقائقه، فما كانت اليهود وغيرهم تسكت وتستريح في مقابل هذا التشريع؛ لأنّهم كانوا يرون أنه يبطل واحدًا من أعظم مفاخرهم الدينية، وهو القبلة، واتّباع غيرهم لهم فيها، وتقدّمهم على من دونهم في هذا الشعار الديني)[6] .
تحويل القبلة تساؤل وتشكيك
كان محور التساؤل والإشكال الذي طرحوه يستهدف التشكيك في صدق الرسالة، ومصداقية الرسول، فكيف يأمر الله تعالى بالتوجه إلى قبلة ثم يحوّل التوجه إلى قبلة أخرى؟ فهل كان الأمر الأول باستقبال بيت المقدس خطأً حتى يُصحّح؟
وهل يأمر الله تعالى بالخطأ لمدة خمسة عشر عامًا، إضافة إلى عهد الأنبياء السابقين؟
وإذا كان استقبال بيت المقدس من قبل الأنبياء السابقين، ومن قبل ذات النبي والمسلمين صحيحًا، فهذا يعني خطأ التوجه الجديد باستقبال الكعبة!!
ومن الطبيعي أن تثير عملية التغيير في أيّ تشريع أو عرف سائد، في الوسط الاجتماعي، تساؤلًا حول باعث التغيير وغايته، لتمسّك الناس بما ألفوه واعتادوا عليه، والدين لا يقمع التساؤل الذي ينطلق من رغبة في المعرفة والوعي، بل يحفّز على ذلك (للآيات الكثيرة الآمرة بالتفكّر والتعقّل، فيما يتعلّق بالمبدأ والمعاد، وتكميل النفس، وفهم الأحكام ودركها من أهمّ وجوه تكميل النفس، وقد وردت في السنة المقدسة نصوص كثيرة تبيّن المصالح والمفاسد والحكم الكثيرة للأحكام الشرعية.. فالسؤال عن الأحكام وعللها وحكمها صحيح ولا بأس به، بل حثّ عليه الشارع)[7] .
خاصّة وأنّ المسلمين آنذاك كانوا حديثي عهد بالتشريع الديني، وبوظائف الرسالة، لذلك فإنّ بعضهم كان يتساءل بعفوية وبراءة عن مصير المسلمين الذين فارقوا الحياة، وكانوا يتوجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس.
جاء في الدر المنثور: (كَانَ رَسُول الله يُصَلِّي نَحْو بَيت الْمُقَدّس وَيكثر النّظر إِلَى السَّمَاء ينْتَظر أَمر الله فَأنْزل الله ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الْبَقَرَة: الْآيَة 144] فَقَالَ رجال من الْمُسلمين: وَدِدْنَا لَو علمنَا من مَاتَ منّا قبل أَن نصرف إِلَى الْقبْلَة وَكَيف بصلاتنا نَحْو بَيت الْمُقْدِس فَأنْزل الله ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ﴾)[8] .
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «لَمَّا صَرَفَ اَللَّهُ نَبِيَّهُ إِلَى اَلْكَعْبَةِ عَنْ بَيْتِ اَلْمَقْدِسِ قَالَ اَلْمُسْلِمُونَ لِلنَّبِيِّ أَرَأَيْتَ صَلاَتَنَا اَلَّتِي كُنَّا نُصَلِّي إِلَى بَيْتِ اَلْمَقْدِسِ مَا حَالُنَا فِيهَا وَحَالُ مَنْ مَضَى مِنْ أَمْوَاتِنَا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ اَلْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اَللَّهُ ﴿وَمٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُضِيعَ إِيمٰانَكُمْ﴾ فَسَمَّى اَلصَّلاَةَ إِيمَانًا»[9].
لم تكن المشكلة في طرح السؤال، بل كانت في توظيف السؤال لإثارة التشكيك في صدق الرسالة، ولإضعاف معنويات المسلمين، وهنا كانت إجابة الوحي الإلهي صارمة حاسمة تجاه تساؤلات المناوئين المغرضين، ومحفّزة للوعي، وباعثة للثقة والاطمئنان، في نفوس المؤمنين، واستغرقت هذه الإجابة في معالجة موضوع تغيير القبلة ما يقرب من عشر آيات، من الآية 42 إلى الآية 152 من سورة البقرة.
ومما تؤكد عليه هذه الآيات النقاط التالية:
1/ إنّ الذين تبنّوا حملة التشكيك في هذا التشريع الإلهي، من اليهود والمنافقين، ينطلقون من حالة السّفه التي يعيشونها تجاه الرسالة، يقول تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾. [البقرة: 142].
2/ إنّ التشريع الديني هو قرار إلهي، فكلّ الجهات لله ﴿قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ وهو تعالى الذي يقرّر لعباده الجهة التي يستقبلونها في صلاتهم، فالنبي لا يقرّر ما يرغب فيه ويريده، بل إن ّالأمر بيد الله، يقول تعالى: ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾. [البقرة: 144].
3/ إنّ التسليم للتشريعات الإلهية، قديمها وجديدها، هو الاختبار لصدق الإيمان بالله ورسوله، يقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله﴾. [البقرة: 143].
المسلمون أهل القبلة
إنّ الله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان، ولا تحدّه جهة، وحين يريد الإنسان التوجه إلى ربه، فكلّ الجهات مفتوحة أمامه.
يقول تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. [البقرة: 105].
لكنّ الله سبحانه وتعالى فرض التوجه حال الصلاة الواجبة إلى جهة معيّنة وهي الكعبة؛ لأنّها أقدس مكان وبقعة عند الله، ولأنه أرادها رمزًا وعنوانًا لاستقلالية هذه الأمة ووحدتها.
ومن هنا جاء مصطلح أهل القبلة في النصوص الإسلامية، وعند فقهاء المسلمين، فاستقبال الكعبة هو عنوان الانتساب للإسلام والانتماء للأمة الإسلامية.
فقد ورد عن رسول الله في مصادر السنة والشيعة كما في صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه قال: «مَن صَلَّى صَلَاتَنَا واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذلكَ المُسْلِمُ الذي له ذِمَّةُ اللَّهِ وذِمَّةُ رَسولِهِ، فلا تُخْفِرُوا اللَّهَ في ذِمَّتِهِ»[10] .
ومثله ورد في كتاب بصائر الدرجات عن الإمام جعفر الصادق أن رَسُولَ اَللَّهِ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا، وَاِسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَاكَ اَلْمُسْلِمُ اَلَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اَللَّهِ، وَذِمَّةُ رَسُولِهِ»[11] .
إنّ اتجاه المسلمين بجميع مذاهبهم لاستقبال الكعبة المشرفة، يجب أن يكون عنوانًا لوحدتهم، ومحفّزًا على تحقيق هذه الوحدة، بالتأكيد على ما يجمعهم من أمر دينهم، ومصالح دنياهم.
وقد عانت أمتنا، خاصّة في هذه العقود الأخيرة، من فتن الانقسام والاحتراب، بمختلف العناوين، والأقسى منها ما كان بالعناوين الدينية المذهبية، مما أدّى إلى سفك الدماء وانتهاك الحرمات، وتخريب الأوطان، وهدر الإمكانات.
لكنّنا نتفاءل بتجاوز الأمة لهذه المحن القاسية، واستجابة مجتمعاتها لصوت الدين والعقل.
وقد جاءت دعوة شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب يوم الجمعة 10 ربيع الآخر 1444هـ الموافق 4 نوفمبر 2022م للحوار بين ضفّتي الإسلام السنة والشيعة لتعزيز هذا التفاؤل، حيث دعا في ختام "ملتقى البحرين للحوار، الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني"، إلى "المسارعة بعقد حوار إسلامي جاد، من أجل إقرار الوحدة والتقارب والتعارف، تُنبذ فيه أسباب الفرقة والفتنة والنزاع الطائفي على وجه الخصوص".
وقال: إنّ "هذه الدعوة إذ أتوجّه بها إلى إخوتنا من المسلمين الشيعة، فإنني على استعداد، ومعي كبار علماء الأزهر ومجلس حكماء المسلمين، لعقد مثل هذا الاجتماع بقلوب مفتوحة وأيدٍ ممدودة للجلوس معًا على مائدة واحدة".
وحدّد هدف الاجتماع بـ "تجاوز صفحة الماضي وتعزيز الشأن الإسلامي ووحدة المواقف الإسلامية"، مقترحًا أن تنصّ مقرّراته "على وقف خطابات الكراهية المتبادلة، وأساليب الاستفزاز والتكفير، وضرورة تجاوز الصراعات التاريخية والمعاصرة بكلّ إشكالاتها ورواسبها السيئة".
وشدّد على ضرورة أن "يحرّم على المسلمين الإصغاء لدعوات الفرقة والشقاق، وأن يحذروا الوقوع في شرك العبث باستقرار الأوطان، واستغلال الدين في إثارةِ النعرات القومية والمذهبية، والتدخل في شؤون الدول والنيل من سيادتها أو اغتصاب أراضيها"[12] .
ولا بُدّ من الإشادة بهذه الدعوة والترحيب بها، والدفع باتجاه تحويلها إلى مبادرة عملية، مع الحفاظ على خصوصيات أتباع كلّ مذهب، وحفظ حريتهم في معتقداتهم وعباداتهم وشعائرهم.
ينبغي أن يكون الحوار من أجل تجاوز النزاعات والاختلافات، ولا يستهدف تغيير شيء في هذه المذاهب.
إننا لا نتحاور حتى يغيّر أهل السنة أو الشيعة شيئًا من معتقداتهم أو شعائرهم، فكلّ إنسان له قناعاته يتعبّد لربه بما يدين الله تعالى به.
بل نتحاور لنؤكد على المشتركات، ونتجاوز السّلبيات، ونرسم طريق الاحترام المتبادل فيما بيننا، ولنتعاون في مواجهة التحدّيات التي تحيط بنا من كلّ جهة.
نعم؛ ستبقى هناك فئات متطرفة من السنة والشيعة، تصرّ على إثارة الخلافات والفتن، ومن الطبيعي أنّ أعداء الدين والأمة يشجعون ويدعمون هذه التوجهات المتطرفة.
لكن علينا أن نتحمّل مسؤولية التأكيد على وحدة الأمة، وبثّ الوعي الوحدوي، وثقافة التسامح، في صفوف أبناء الأمة، وأن نراهن على الجيل الجديد الذي يتطلّع إلى غدٍ مشرق، ويسعى إلى الانعتاق من أسر الماضي، والخروج من كهوف التاريخ.