الرقّ المغفول عنه
ورد عن الإمام علي بن أبي طالب : «عَبْدُ اَلشَّهْوَةِ أَذَلُّ مِنْ عَبْدِ اَلرِّقِّ»[1] .
يصادف اليوم الجمعة الثاني من ديسمبر اليوم الدولي لإلغاء الرق، وهو تاريخ اعتماد الجمعية العامة لاتفاقية الأمم المتحدة لقمع الاتجار بالأشخاص في الثاني من ديسمبر 1949م.
والرق هو مصادرة إنسانية الإنسان، والتعامل معه كسائر الأشياء من الحيوانات، والأثاث والأدوات والآلات الجامدة، يباع ويشترى ويُتملّك، ويسخّر حسب إرادة من يستعبده، فهو فاقد لصلاحية التصرف بذاته ومكاسبه. بل كان لمالكه في العصور السابقة، تمام الحرية في إبقائه على قيد الحياة، أو قتله، أو تجويعه وتعذيبه والتنكيل به.
وكان بعض الأسياد يجبرون عبيدهم على أداء أشقّ الأعمال، تحت ضرب السياط الملهبة، ومن يمتنع أو يُقصّر في عمله، يتعرض لمختلف العقوبات القاسية، مثل كيِّ المواضع الحسّاسة من جسمه بالنار، أو وضع الأجسام الثقيلة في يديه، أو ملء فمه وأذنيه بالزيت المغلي، أو قطع لسانه وأعضائه والتمثيل به.
وتعود نشأة الرق في أوقات مبكرة من التاريخ، إلى الحروب والصّراعات التي كانت منتشرة بين الشعوب والقبائل، حيث يأخذ المنتصرون أفراد الجهة المغلوبة كأسرى يستعبدونهم ويسترقونهم.
واستمرت معاناة الإنسانية في الاستعباد والرق إلى العصر الحديث، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وقّعتْ الدول المشتركة في عصبة الأمم عام 1926م اتفاقية تقضي بملاحقة تجارة الرّق والمعاقبة عليها، والعمل على إلغاء الرقيق بجميع صوره، وفي عام 1946م أصدرت هيئة الأمم المتحدة إعلانًا عالميًّا تضمّن حظر الرّق، وتجارة الرقيق، والتزمت به كلّ دول العالم تدريجيًّا.
الاحتفال بإلغاء الرّق
ويأتي الاحتفال سنويًّا باليوم الدولي لإلغاء الرق، للتذكير بمعاناة ملايين البشر عبر التاريخ، ولتقدير هذا الإنجاز الإنساني بصدور قرار منع الرّق، ولمراقبة ومتابعة الالتزام بهذا القرار.
وعلى الرغم من أنه قد تم أخيرًا تجريم الرق في موريتانيا في عام 2007، وهو ما أدّى إلى عتق رقاب الكثير من الناس، ولكن لم تتم إدانة سوى عدد قليل من ملاك العبيد بتهمة ممارسة هذه الجريمة. ولا تزال العبودية تمثل مشكلة خطيرة في الدولة، إذ تفيد تقديرات المؤشر العالمي للرق بأنه لا يزال هناك ما بين 140,000 إلى 160,000 عبد في موريتانيا[2] .
الرق الحديث
وتشير تقارير المنظمات الدولية إلى أشكال من الرق الحديث، مثل: العمل الجبري، ورق الديون، والزواج القسري، والاتجار بالبشر، والاستغلال الجنسي، وسائر حالات الاستغلال التي لا يمكن للأشخاص رفضها أو الفكاك منها، بسبب التهديدات والعنف والإكراه والخداع، وإساءة استخدام السّلطة، ومن مظاهر العبودية المعاصرة استغلال العمالة المنزلية وإساءة التعامل معها.
وتظهر أحدث تقديرات منظمة العمل الدولية أنّ هناك خمسين مليون شخص في العالم يعيشون ما يطلق عليه (الرق الحديث) خاصة في وسط النساء والأطفال، حيث يتم تهريب الأطفال والاتجار بهم لتسخيرهم، وكذلك خداع الفتيات وتهريبهنّ لاستغلالهنّ في الدعارة الجنسية.
ويشكل الاتجار بالبشر والجنس نسبة كبيرة من العبودية الحديثة. ويتضمن هذا أيّ فعل جنسي، مثل الدعارة، نتيجة الإكراه عن طريق العنف أو التهديد أو الاحتيال. ويشارك العديد من مرتكبي الاتجار بالجنس في العملية برمتها، من تجنيد الضحايا إلى نقلهم واستدراجهم. على غرار العمل الجبري، حتى إذا وافق العامل بالجنس في البداية على الدعارة، فإنه يعتبر مستعبدًا بمجرد إكراهه أو تهديده لممارسة الجنس.
فلا زالت العبودية تنتشر وتتوسع في العديد من المجتمعات، وإن اختلفت طرقها وأشكالها عمّا كانت عليه في العصور القديمة.
ويتعرض أكثر من 150 مليون طفل لعمل الأطفال مما يمثل قرابة واحد من كلّ عشرة أطفال في جميع أنحاء العالم، وفقًا لمنظمة العمل الدولية[3] .
وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) يعمل طفل واحد من كلّ ستة أطفال، في مخالفة صريحة لاتفاقية حقوق الطفل.
أخطر ألوان الرّق
هناك نوع مغفول عنه من العبودية والرق القديم الجديد، وهو أخطر ألوان الرق؛ لأنه السبب والمنشأ لكلّ أشكاله وأنواعه، وهو عبودية الإنسان للشهوات والأهواء.
حيث تتنازع الإنسان في ميوله وسلوكه جهتان مرجعيتان:
1/ مرجعية العقل والضمير، التي توجه ميول الإنسان وسلوكه نحو قيم الخير والعدل، واحترام إنسانية الآخرين وحقوقهم.
2/ مرجعية الشهوات والأهواء وهي تدفع الإنسان نحو تحصيل اللذات والرغبات، وخدمة المصالح الذاتية الأنانية، دون مراعاة لأيّ قيم أو مبادئ.
وحين ينقاد الإنسان لأهوائه وشهواته، يتقلّص دور العقل والضمير في قراراته وسلوكه، فيضرّ نفسه، ويضرّ من حوله، ويصبح أداة لإفساد الحياة.
بالتأكيد فإنّ من يستعبد أخاه الإنسان، ويسترقّه، وينكّل به، لا ينطلق من مرجعية عقله وضميره، وإنما تسيّره لذلك شهواته وأهواؤه.
وكذلك من يمارس الاغتصاب والاعتداء على أعراض الناس.
ومن يمارس الفساد واختلاس المال العام، أو نهب أموال الآخرين، كشركائه في الإرث، أو دائنيه، أو المتعاملين معه، إنما يقوم بذلك انقيادًا لأهوائه وشهواته.
مشكلة الحضارة المادية
ومشكلة الإنسان في هذا العصر خاصة، أنه يعيش في ظلّ حضارة مادية، تحرّض الأهواء والشهوات عند بني البشر، وتسوقهم للانقياد لها، فمثلًا على الصعيد الأخلاقي، نرى كيف تسعى دول واتجاهات غربية، لنشر ثقافة الابتذال الجنسي، وأنماط الانحراف السلوكي، كالمثلية، والتعري، وتشجيع العلاقات الجنسية المنفلتة.
وقد أقرّ مجلس الشيوخ الأمريكي (الثلاثاء 29 نوفمبر) (مشروع قانون "لحماية زواج المثليين" في سائر أنحاء الولايات المتحدة).
وفور اعتماد هذا النص، قال الرئيس الأميركي (جو بايدن) في بيان إنه "مع إقرار مجلس الشيوخ اليوم بأصوات من الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) قانون احترام الزواج، فإن الولايات المتحدة على وشك أن تعيد التأكيد على حقيقة أساسية: الحب هو الحب، ويجب أن يكون للأميركيين الحقّ في الزواج من الشخص الذي يحبونه"[4] .
ومن الناحية العملية، يلغي هذا القانون كلّ التشريعات السابقة التي تحدّد الزواج على أنه ارتباط بين رجل وامرأة.
ويريد الغربيون فرض ثقافتهم وسلوكهم الشاذ على سائر الأمم والشعوب، وقد حاولوا استغلال مناسبة المونديال الرياضي في قطر 2022م للترويج لهذا السلوك الشاذ، لو لا الضوابط التي وضعتها الدولة المضيفة لإفشال محاولاتهم.
كما قام عدد من السفراء الغربيين برفع العلم الخاص بالمثليين في المناسبات المرتبطة بهم، على مباني سفاراتهم في بعض الدول الإسلامية، ونشروا تغريدات بهذا الخصوص، أثارت الامتعاض، وقُوبلت بالرفض والاستنكار في مجتمعات تلك الدول.
الدين وتحرير الإنسان
وهنا يأتي دور الدين الذي يوجه الإنسان للإصغاء لصوت عقله ونداء ضميره، ويمنحه الإرادة والاستقامة لكبح جماح أهوائه وشهواته، حتى يكون هو المسيطر عليها، ولا تكون هي المسيطرة عليه، وبذلك يمتلك حريته الحقيقية، كإنسان يتميّز بمرجعية العقل والضمير، وينطلق منها في مواقفه وقراراته وسلوكه.
يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿٤٠﴾ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾. [النازعات: 40-41].
وورد عن أمير المؤمنين علي : «طُوبَى لِمَنْ غَلَبَ نَفْسَهُ وَلَمْ تَغْلِبْهُ، وَمَلَكَ هَوَاهُ وَلَمْ يَمْلِكْهُ»[5] .
وعنه : «عَبْدُ اَلشَّهْوَةِ أَذَلُّ مِنْ عَبْدِ اَلرِّقِّ»[6] .
لماذا يكون عبد الشهوة أذلّ من عبد الرق؟
لأنّ الرقيق قد فرضت عليه العبودية، بينما يختار عبد الشهوة الرّق لنفسه، ولأنّ الرقيق قد يفوز في آخرته، بينما يخسر عبد الشهوة آخرته، ولأنّ الرقيق يعيش إنسانيته وصدقه داخل نفسه، بينما يدمّر عبد الشهوة إنسانيته، ويسحق ضميره ووجدانه، وقد يدمر حياته ويعيش فيها مذلة العار والسقوط.
ورأينا كيف أنّ رئيس أهم وأقوى دولة في العالم (الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون) واجه مذلة التحقيق والمحاسبة، وتلطّخ بالعار أمام شعبه، وأمام العالم، لاستجابته لشهوة جنسية.
ورأينا عددًا من رؤساء دول، وأصحاب مناصب ونفوذ، واجهوا مذلة المحاكمة والسجن، بتهم الفساد بسبب شهوة المال.
وفي بلادنا المملكة العربية السعودية تحدثت بيانات هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة)، عن قضاة كانوا موضع الثقة والتقدير، لكنهم خانوا الأمانة والدين والوطن، واستحقوا العقوبة والتشهير، بسبب انزلاقهم في مطب الشهوة والفساد.
وكم من إنسان دمرت حياته، وتحطّم مستقبله، وضاعت دنياه وآخرته، بسبب الانقياد لشهوة عابرة.
وقد نشر موقع بي بي سي (الخميس 1 ديسمبر 2022م) تقريرًا عن تعرّض عدد من الأثرياء والشخصيات في بعض الدول للاختطاف من قبل مسلّحين، وتعذيبهم والاستيلاء على أموالهم، عبر تطبيق مواعدة لترتيب لقاءات غرامية جنسية.
وذكر التقرير الذي نشر تحت عنوان: (كيف يستغلّ المجرمون تطبيقات المواعدة للإيقاع بالأثرياء؟) أحداثًا وإحصاءات عن مدينة (ساو باولو) أكبر وأغنى مدينة في البرازيل، أنّ "أكثر من 90 في المئة من عمليات الخطف التي سجلتها الشرطة المحلية"، تتم عبر استدراج الراغبين في ممارسة الشهوات الجنسية من الأثرياء. حيث يتصل رجل بامرأة عبر تطبيق مواعدة، ويتبادل الرسائل معها، ويرتبان موعدًا للقاء وجهًا لوجه، وعندما يصل إلى المكان المتفق عليه، يختطفه مسلّحون.
وتخضع الضحية للتعذيب النفسي، وأحيانًا الجسدي، للاستيلاء على حساباته المصرفية.
هكذا يكون الانقياد للشهوة طريقًا للدمار والسقوط.
وهنا يأتي دور الدين في تحصين الإنسان من سيطرة الأهواء والشهوات، ليكون حرًّا حقيقيًّا، وحتى لا يقع في أذلّ رقّ وعبودية.