العام الجديد بين الاسترسال والمراجعة

 

ورد عن أمير المؤمنين علي : «تَخَيَّرْ لِنَفْسِكَ مِنْ كُلِّ خُلْقٍ أَحْسَنَهُ فَإِنَّ اَلْخَيْرَ عَادَةٌ»[1] .

تتشكل حياة الإنسان من مجموعة من العادات تشمل جميع جوانب حياته.

فمعظم ممارسات الإنسان يؤديها بطريقة معينة اعتاد عليها وألفها، فنومه ويقظته، وأكله وشربه، وكلامه وحركته، وتعامله مع الناس والأشياء، وسائر الأمور، كلّها تتم بصورة تلقائية دون مجهود عقلي أو تركيز.

إنّ أيَّ عمل جديد يقوم به الإنسان يحتاج في البداية إلى جهد نفسي، وتركيز عقلي، لاتخاذ قرار القيام بذلك العمل، ثم لاختيار طريقة أدائه وانجازه، لكنه بالممارسة والتكرار يصبح سلوكًا روتينيًا، يؤديه بعفوية ويسر.

كقيادة السيارة أو الرياضة أو الخطابة أو الكتابة، أو استخدام الكمبيوتر وسائر الأجهزة، وكذلك مختلف الأعمال، فقد يتهيّب الإنسان بعضها في البداية، ويتردد في القيام بها، ويتحمّل شيئًا من الصعوبة في أدائها، ثم تصبح أمرًا سهلًا بعد أن يتعوّدها ويألفها.

إنّ النسبة الأكبر من حركة الإنسان وممارساته، هي من النوع الذي تحكمه العادة، والطريقة المألوفة عند الإنسان، وهناك نسبة محدودة من الممارسات الجديدة التي قد تطرأ على برنامج الإنسان، فإذا تكررت أخذت المسار ذاته.

لذلك يكاد الإنسان يكون مجموعة عادات تمشي على الأرض.

تشكيل العادة ورسوخها

تتكون عادات حياة الإنسان بداية، من تأثيرات البيئة التي يتربى وينشأ فيها، ثم يكون لثقافته ومعارفه وظروف حياته، ونمط شخصيته وصفاته النفسية، تأثير على نوعية العادات التي تتشكل في حياته، وعلى طريقة أدائه وانجازه للأعمال والممارسات التي يقوم بها.

وتتعزّز العادة في حياة الإنسان كلّما استمر عليها زمنًا أطول، بحيث يصعب عليه تجاوزها، والتخلي عنها. مع قدرته على ذلك لو تحلّى بالإرادة والعزم.

صحيح أنّ «لِلْعَادَةِ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ سُلْطَانٌ»[2]  كما ورد عن الإمام علي ، لكنه سلطان يمكن مقاومته.

تغيير العادات والسلوك

قد يواجه الإنسان صعوبة في تغيير بعض عاداته، فإذا ما قرّر التغيير، وتسلّح بالإرادة، وقاوم الرغبة والميل إلى تلك العادة، فإنه يحقّق التغيير ويتجاوز تلك العادة.

وهذا ما نراه في حياة كثير من الناس من ذوي الإرادة والوعي، فهناك من يتوفق لترك بعض المعاصي والمنكرات بعد زمن من ممارستها، وهناك كثير ممن ترك عادة لازمته زمنًا طويلًا كالتدخين والمخدرات، وما كان يتصور أن يكون قادرًا على تركها.

إنّ مشكلة الإنسان هي الاسترسال، وأصل معنى الاسترسال هو الاستمرار في السير أو الكلام أو العمل دون التفات أو توقف.

من هنا جاءت النصوص الدينية تشجع الإنسان على التسلح بالإرادة لمقاومة سلطان العادة.

ورد عن أمير المؤمنين علي : «بِغَلَبَةِ اَلْعَادَاتِ اَلْوُصُولُ إِلَى أَشْرَفِ اَلْمَقَامَاتِ»[3] .

وورد عنه : «غَالِبُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى تَرْكِ اَلْعَادَاتِ وَجَاهِدُوا أَهْوَائَكُمْ تَمْلِكُوهَا»[4] .

وورد عنه : «غَيِّرُوا اَلْعَادَاتِ تَسْهَلُ عَلَيْكُمُ اَلطَّاعَاتُ»[5] .

وورد عنه : «ذَلِّلُوا أَنْفُسَكُمْ بِتَرْكِ اَلْعَادَاتِ وَقُودُوهَا إِلَى فِعْلِ اَلطَّاعَاتِ»[6] .

العام الجديد فرصة للمراجعة

وعلى الإنسان أن يستثمر الفرص والظروف المساعدة لمراجعة بعض عاداته وأساليب حياته، حتى يتجاوز العادات السيئة، والأساليب الخطأ، وقد لا تكون العادة سيئة والأسلوب خطأ، لكنّها أقلّ جودة، فعليه أن يرتقي إلى العادة الأجود والأسلوب الأفضل.

وهذا ما يشير إليه الإمام علي فيما ورد عنه: «تَخَيَّرْ لِنَفْسِكَ مِنْ كُلِّ خُلْقٍ أَحْسَنَهُ فَإِنَّ اَلْخَيْرَ عَادَةٌ»[7] .

ومن الفرص المناسبة، والظروف المساعدة لتغيير العادات، التحولات الزمنية، كبداية العام الجديد، وخاصة مع وجود الأجواء المصاحبة للانتقال من عام يأفل إلى عام جديد يطلّ على الحياة.

وهناك دعاء يثير في نفس الإنسان التطلع للتحول والتغيير إلى الأفضل في العام الجديد، فقد ورد في بعض المصادر أنه يقرأ في بداية العام الجديد، «يَا مُحَوِّلَ الْحَوْلِ وَالْأَحْوَالِ، حَوِّلْ حَالَنَا إِلَى أَحْسَنِ الْحَالِ». وَبِرِوَايَةٍ أُخْرَى: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ يَا مُدَبِّرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَا مُحَوِّلَ الْحَوْلِ وَالْأَحْوَالِ حَوِّلْ حَالَنَا إِلَى أَحْسَنِ الْحَالِ»[8] .

إنّ من وظائف الدعاء إثارة التطلّعات السامية والطموحات الراقية في نفس الإنسان، وتحفيزه للسعي من أجل تحقيقها، فحينما يطلب الإنسان من الله شيئًا، عليه أن يسعى ويبذل جهده، فيرفده الله تعالى بالدعم والتوفيق لإنجازه وتحقيقه، وإلّا فإنّ «اَلدَّاعِي بِلاَ عَمَلٍ كَالرَّامِي بِلاَ وَتَرٍ»[9]  كما ورد عن أمير المؤمنين علي .

إنّ على الإنسان وهو يستقبل عامًا جديدًا ضمن المتداول في بيئته ومحيطه، فهناك تواريخ مختلفة لرأس السنة باختلاف الثقافات، حيث تبدأ السنة عند المسلمين حسب التقويم الهجري، بشهر المحرم. بينما تبدأ السنة الميلادية الجديدة عند المسيحيين بالأول من شهر يناير كانون الثاني. كما يبدأ العام الفارسي والكردي الجديد في 20-21 آذار/ مارس من كلّ عام ويسمّونه (نوروز)، أي اليوم الجديد. وهناك بداية العام الصيني، وبداية العام الكوري، وبداية العام الأمازيغي، وغيرها.

عليه أن يقوم بمراجعة لسيرته وسلوكه، ولا يبقى مسترسلًا مع عاداته وأساليبه دون إعادة نظر وتفكير. فإذا وجد لديه عادة أو سلوكًا خطأ، أو مرجوحًا، فليقرّر تغييره وتجاوزه في السنة الجديدة. وليفكر في إنشاء عادات جديدة حسنة مفيدة لدنياه وآخرته.

فيما يرتبط بإدارته لذاته في الجانب الصحي والمعيشي، والثقافي والعبادي، وفيما يرتبط بعلاقته مع من حوله من أسرته وأقربائه وأصدقائه وأبناء مجتمعه.

 

خطبة الجمعة 6 جمادى الآخرة 1444هـ الموافق 30 ديسمبر 2022م.

[1]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص324.
[2]  نفس المصدر، ص403.
[3]  نفس المصدر، ص302.
[4]  نفس المصدر، ص473.
[5]  نفس المصدر، ص472.
[6]  عيون الحكم والمواعظ، ص255.
[7]  غرر الحكم، ص324.
[8]  المجلسي: زاد المعاد، ص328.
[9]  نهج البلاغة، حكمة: 337.