زواج الفاقدين لزوجاتهم

من الطبيعي أن يترك فقد المرأة الصالحة فراغًا كبيرًا في حياة الرجل، وحزنًا عميقًا في نفسه.

فالمرأة هي محور حياة الأسرة، وعماد استقرارها، وهي ربّة البيت، ونوره وسراجه، ونبع العطف والحنان فيه.

لذلك فإنّ الحديث الوارد عن رسول الله ﷺ يعتبر الزوجة الصالحة خير فائدة ومكسب يناله الرجل بعد تقوى الله سبحانه، حيث ورد عنه ﷺ: «مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ». [سنن ابن ماجة، ح 1862]

وورد عن الإمام علي بن موسى الرضا   أنه قال: «مَا أَفَادَ عَبْدٌ فَائِدَةً خَيْراً مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِذَا رَآهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ». [الكافي، ج5، ص327]

وكلما كانت المرأة أكثر عطاءً في حياتها العائلية، وأكثر اتصافًا بصفات الفضل والكمال، كان دورها وأثرها أكبر في حياة الرجل، وفي استقرار وسعادة كيان الأسرة.

وحين تُفقد مثل هذه المرأة، فلا يمكن وصف مدى الفراغ والحسرة والألم الذي يعصف بنفس زوجها وأولادها.

ولأنّ سيّدتنا فاطمة الزهراء   هي النموذج الأمثل للمرأة الكاملة، فهي سيّدة نساء العالمين، وبضعة رسول الله ﷺ، لذلك كان وقع فقدها عظيمًا على نفس أمير المؤمنين علي  .

وقد عبّر الإمام   عن عمق ألمه وحزنه في قوله بعد دفنها: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي وَعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ وَالسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ، قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي». [نهج البلاغة، خطبة رقم 202]

وينسب إليه   أنه قال في رثائها:

نَفْسِي عَلَى زَفَرَاتِهَا مَحْبُوسَةٌ يَا لَيْتَهَا خَرَجَتْ مَعَ الزَّفَرَاتِ‌

لَا خَيْرَ بَعْدَكَ فِي الْحَيَاةِ وَإِنَّمَا أَبْكِي مَخَافَةَ أَنْ تَطُولَ حَيَاتِي‌

زواج علي بعد فاطمة

ولأنّ أمر الحياة والممات بيد الله، لا يشركه في ذلك أحد، وأمره نافذ في جميع خلقه، فلا خيار إلّا التسليم لأمره والرضا بقضائه وقدره.

وأولياء الله هم في مقدّمة المسلِّمين لأمره، الراضين بقضائه وقدره، فإنّهم يتحلّون بالصبر والثبات عند المصائب وإن عظم وقعها على نفوسهم، ويواصلون حياتهم حسب التعاليم الإلهية ليكونوا نماذج وقدوات للعباد.

فمع كلّ الألم والحسرة بفقد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء   إلّا أنّ أمير المؤمنين عليًّا   بعد وفاتها اختار زوجة تنتظم بها حياته العائلية.

وكانت الزهراء قد أوصته بذلك، واقترحت عليه زوجة معينة، كما ورد في الرواية عن الإمام محمد الباقر   التي أخرجها الكليني في الكافي بسند موثّق: «أَوْصَتْ فَاطِمَةُ   إِلى عَلِيٍّ   أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ أُخْتِهَا مِنْ بَعْدِهَا، فَفَعَلَ». [الكافي، ج5، ص555، ج6]

وجاء في روضة الواعظين وبصيرة المتعظين لأبي علي الفتّال النيشابوري «ت: 508 ه»، أنها   أوصت عليًّا: «يَا اِبْنَ عَمِّ: أُوصِيكِ أَوَّلًا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدِي بِابْنَةِ أُخْتِي أُمَامَةَ فَإِنَّهَا تَكُونُ لِوُلْدِي مِثْلِي فَإِنَّ اَلرِّجَالَ لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ». [ج1، ص151]

وذكر ابن الأثير في أسد الغابة «ج7، ص20»: «ولما كبرت أمامة تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد موت فاطمة   وكانت فاطمة وصت عليًّا أن يتزوجها، فلما توفيت فاطمة تزوجها».

كما ذكر مثل ذلك أبو نعيم الأصفهاني في كتابه معرفة الصحابة، ج6، ص3268.

و«اُمامة بنت أبي العاص بن الربيع، أمها زينب بنت رسول الله ﷺ، ولدت أمامة على عهد رسول الله ﷺ، وكان يحبّها، وحملها في الصلاة، وكان إذا ركع أو سجد تركها، وإذا قام حملها». [أسد الغابة ترجمة رقم: 6724]

وتشير بعض الروايات إلى أنّ عليًّا بادر إلى الزواج من أمامة بعد مدّة قصيرة من وفاة فاطمة الزهراء  ، بل نقل الشيخ المجلسي في بحار الأنوار عن كتاب قوت القلوب: «أنه تزوج بعد وفاتها بتسع ليال». [بحار الأنوار، ج42، ص92]

وقفتان اجتماعيتان

ولنا هنا وقفتان اجتماعيتان:

الوقفة الأولى: يواجه بعض الأزواج بعد وفاة زوجته نوعًا من التحسّس النفسي والعائلي، يعوّق سعيه للإقدام على الزواج من جديد. فيعيش الفراغ النفسي والعاطفي، ويرتبك برنامج حياته، وهذا خطأ كبير.

قد يكون هذا العائق من قبله، وقد يفرض عليه من قبل أبنائه وبناته، أو سائر أقربائه.

إنّ من يفقد زوجته تكون حاجته إلى الزواج حاجة ملحّة، فقد تعوّد على وجود امرأة إلى جانبه، فشعوره بالفراغ بعد غيابها يكون كبيرًا، من الناحية النفسية، وفيما يرتبط بترتيب شؤون حياته المنزلية، إضافة إلى الجانب البيولوجي الغريزي.

وحتى لو تجاوز مرحلة الحاجة الغريزية الجنسية، فإنه لن يستغني عن امرأة تؤنسه وتساعده، وتبعد عنه مشاعر الوحدة والعزلة، وتكمل معه مشوار الحياة.

وهذا ما تؤكد الرواية الواردة عن فاطمة الزهراء   في قولها: «فَإِنَّ اَلرِّجَالَ لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ».

والنصوص الدينية التي تحث على الزواج وتذمّ العزوبة، تنطبق على الحالات المختلفة في حياة الرجل والمرأة، ولا تختصّ بمرحلة الشباب والقوة، ولا بالزواج الأول فقط، بل تحث الإنسان رجلًا وامرأة على العيش ضمن حياة زوجية، وتجنّب حياة العزوبة في مراحل العمر المختلفة، يقول السيد محمد كاظم اليزدي في العروة الوثقى: «يستفاد من بعض الأخبار كراهة العزوبة، فعن النبي ﷺ: ”أراذل موتاكم العزّاب“، ولا فرق على الأقوى في استحباب النكاح بين من اشتاقت نفسه، ومن لم تشتق، لإطلاق الأخبار، ولأنّ فائدته لا تحصر في كسر الشهوة». [العروة الوثقى/ كتاب النكاح/ المسألة 1]

ورد عن الإمام جعفر الصادق   قال: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي   فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ مِنْ زَوْجَةٍ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ  : إِنِّي مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَإِنِّي بِتُّ لَيْلَةً لَيْسَتْ لِي زَوْجَةٌ». [الكافي، ج5، ص329]

وقد يتردد بعض الأزواج الفاقدين لزوجاتهم في قرار الزواج من جديد، من منطلق الإخلاص والوفاء للزوجة الراحلة، لكنّ ذلك يتحقق بالدعاء لها بالرحمة، وإهداء ثواب أعمال الخير لروحها، وليس بالعزوف عن الزواج.

ولا أحد يستطيع المزايدة على وفاء رسول الله ﷺ لزوجته خديجة  ، ووفاء أمير المؤمنين لزوجته فاطمة، لكنّهما لم يتأخرا في الزواج بعدهما.

ويحصل في بعض الحالات أنّ أبناء وبنات الزوجة الراحلة أو أقربائها، يثبّطون عزيمة زوجها عن أخذ زوجة جديدة، بمبررات عاطفية، حيث يسوؤهم أن يروا امرأة أخرى تحلّ مكان أمهم، وهذه حالة عاطفية ساذجة، لا تؤخذ بعين الاعتبار مصلحة الأب، وتسبب له ضررًا بالغًا.

وقد يكون المبرر الحقيقي عند بعض الأبناء خوفهم من مشاركة الزوجة الجديدة في إرث أبيهم، لو قدّر الله وفاته، وهذه أنانية مقيتة، وحالة من الطمع والحرص غير مقبولة شرعًا ولا عقلًا.

الوقفة الثانية: مدى استعداد الزوجة الجديدة، لاحتضان أبناء زوجها من زوجته الراحلة.

فإذا تركت الزوجة أبناءً صغارًا، فإنّ الزوج يحمل همّ تربيتهم، وسيكونون بحاجة إلى من يفيض عليهم العطف والحنان بعد فقد أمهم، فهم يعيشون حالة من اليتم، ومشاعر الحزن، وانكسار النفس.

ومن أجل ذلك أوصت فاطمة الزهراء   عليًّا أن يتزوج ابنة أختها أمامة، حيث قالت: «فَإِنَّهَا تَكُونُ لِوُلْدِي مِثْلِي».

وحين تقوم الزوجة الجديدة بهذا الدور لأبناء زوجها، تنال بذلك عظيم الأجر والثواب، وتكسب أبناءً لم تتحمّل عناء حملهم وولادتهم.

لكن بعض النساء يترددن في الزواج ممن له أولاد صغار من زوجة سابقة، هربًا من أعباء المشاركة في تربيتهم ورعايتهم، وهنّ بذلك يحرمن أنفسهن من أجر عظيم وفضل كبير.

إنّ ديننا يحثّنا على كفالة الأيتام ورعايتهم، فقد ورد عن رسول الله ﷺ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ» وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ، يَعْنِي: السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى.

وعنه ﷺ: «إنّ في الجَنَّةِ دارا يُقالُ لَها دارُ الفَرَحِ لا يَدخُلُها إلاّ مَن فَرَّحَ يَتامَى المؤمنينَ».

ونجد الآن في بلادنا وفي مختلف بلدان العالم، عوائل تبادر لاحتضان الأيتام، ومجهولي الأبوين، انطلاقًا من دوافع إنسانية تطوعية نبيلة، وطلبًا للأجر والثواب، فقد كشفت إحصائية رسمية، أنّ آلاف الأطفال اللقطاء في السعودية، يعيشون في كنف أسر في المملكة، مع تزايد الإقبال على تربيتهم؛ امتثالًا للعادات والتقاليد وتعاليم الشريعة الإسلامية، التي تحضّ على كفالة الأطفال الأيتام أو مجهولي الأبوين «اللقطاء».

وقالت عضو مجلس هيئة حقوق الإنسان في السعودية، سارة العبدالكريم في تصريحات لقناة ”الإخبارية“، إنّ 12 ألف أسرة في المملكة، تكفل أبناء من أبوين مجهولين، يعيشون معهم في منازلهم كأبناء لهم.

فإذا كانت هذه العوائل تحتضن أطفالًا لا تعرف أصلهم وفصلهم، فكيف تتردد بعض النساء في احتضان أبناء زوجها، ومن سيكونون إخوانًا لأولادها، وبمثابة أبناءٍ لها؟

إننا بحاجة لنشر ثقافة التكافل الاجتماعي، وتنمية روح التطوع والبذل والعطاء.