حين تختلف وجهات النظر

 

ورد عن أمير المؤمنين علي : «لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءاً، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلًا»[1] .

اختلاف وجهات النظر بين الناس، في مختلف القضايا والأمور شيء طبيعي، وذلك لعوامل وأسباب عديدة، منها:

1/ تفاوت مستوى الإدراك والفهم، فبعض الناس يكون أكثر دقة وذكاءً وعمقًا في تناول المسائل والأمور، مما يوصله لاستنتاجات قد لا يصل إليها من هو أقلّ منه إدراكًا وذكاءً.

2/ مدى توفر المعطيات العلمية والموضوعية في بحث أيّ قضية أو مسألة، فمن تتوفر له معلومات أكثر، قد يختلف رأيه عمّن يفتقد تلك المعلومات.

من هنا قال الخضر لموسى: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‎﴿٦٧﴾‏ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا. [الكهف: 67-68]

3/ اختلاف زاوية النظر للقضية والأمر. والذي قد يؤثر على تكوين الرأي والموقف حولها.

4/ الخلفية الفكرية والنفسية، فالإنسان ليس جهازاً آلياً محايدًا كالكمبيوتر، بل هو كائن ذو مشاعر وأحاسيس، وانطباعات وتصورات، وحين تتباين الخلفيات، قد تختلف الاستنتاجات والآراء.

5/ الأمراض الأخلاقية والنزعات المصلحية، بأن يتبنّى الانسان وجهة نظر، انطلاقًا من حالة عناد، أو مناوءة لأحد، أو خدمة لغرض ومصلحة شخصية أو فئوية.

تفسير وجهة النظر الأخرى

ونلحظ هنا عدّة مناشئ لاختلاف وجهات النظر، وتكمن حالة السوء والانحراف في الأخير منها.

فعندما تواجه اختلافًا مع أحد في الرأي، عليك أن تفسّر بأحد التفسيرات الإيجابية، ولا تلجأ إلى التفسير السلبي إلّا إذا كانت لديك معطيات وأدلة تثبته، وليس مجرّد تخمين وظن.

إنّ اتهام الآخر بأنه ينطلق من سوء وخبث في وجهة نظره، دون دليل قاطع، هو سوء ظنٍّ منهي عنه شرعًا وأخلاقًا. فكما لا ترضى أن يساء الظنّ بك، لا يصح لك إساءة الظنّ بغيرك.

وسوء الظنّ من كبائر المعاصي والذنوب. إنّ الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ. [الحجرات: 12].

وكثير من الظنّ الذي يعتري الإنسان تجاه الآخرين، هو الظنّ السيئ الذي يجب اجتنابه، حتى لا يقع في الإثم، أما الظنّ الإيجابي فهو أمر حسن.

ورد عن رسول الله : «اطْلُبْ لِأَخِیك عُذْراً فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَهُ عُذْراً فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْراً»[2] .

وعن الإمام علي : «لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءاً، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلًا»[3] .

وعنه : «سُوءُ الظَّنِّ يُفسِدُ الاُمورَ ويَبعَثُ على الشُّرورِ»[4] .

وعنه : «حُسْنُ الظَّنِّ راحَةُ الْقَلْبِ وَسَلامَةُ الدّينِ»[5] .

وعنه : «مَن حَسُنَ ظَنُّهُ بِالناسِ حازَ مِنهُمُ الَمحَبَّةَ»[6] .

ونريد أن نركز على مجالين من سوء الظنّ واتهام الآخر عند اختلاف وجهات النظر.

وجهات النظر الفكرية والدينية

المجال الأول: الاختلاف في وجهات النظر الفكرية والدينية، حيث تتنوع وجهات النظر بين الناس في أمور الدين، حتى ضمن الدين الواحد والمذهب الواحد. إما لاختلاف الاجتهاد، أو لاختلاف التقليد للمجتهدين، أو لاختلاف المدرسة الفكرية، أو لاختلاف القناعات والاطمئنان إلى بعض الآراء والمواقف.

وهنا لا يصح للإنسان أن يتهم الآخرين في دينهم، بأن يحكم عليهم بالضلال أو الابتداع، أو العناد أو الغرض السيئ، دون أن يمتلك دليلًا قاطعًا على ذلك.

ورد عن الإمام جعفر الصادق : «مَنِ اتَّهَمَ أَخَاهُ فِي دِينِهِ، فَلَا حُرْمَةَ بَيْنَهُمَا»([7]‌)، أي يكون قد انتهك حرمته، وتجاوز حقّ أخوته الدينية.

وتصل حالة الوعي والورع بالإنسان المؤمن إلى إعذار مخالفه في الرأي، وإن كان حادًّا في موقفه تجاهه، أو كان رأيه ضعيف المستند. كما في القصتين التاليتين:

ينقل الأولى منهما المرجع الديني المعاصر السيد موسى الزنجاني، وهي أنه كان الشيخ الحاج محمد إبراهيم الكلباسي والسيد محمد باقر حجة الإسلام الشفتي المرجعين الأولين في أصفهان، لكن طريقة كلٍّ منهما كانت مختلفة تمامًا عن الآخر.

كان الشيخ الكلباسي يدفن سهم الإمام [لأنه يتبنّى هذا الرأي، بأنّ سهم الإمام من الخمس يحفظ للإمام بدفنه لوجود خبر يقول: إنّ الأرض تُظهر كنوزها عند ظهور القائم، وأنه إذا قام دلّه الله على الكنوز فيأخذها من كلّ مكان] في حين أنّ السيد كلّف أشخاصًا بمراقبته لمعرفة مكان المال ليستخرجه ثم يصرفه في محلّه.

مع هذا الاختلاف الكبير في طريقة العمل كانا في منتهى الصداقة معًا بشكل استثنائي.

عندما يكون الإيمان والتقوى حقيقيين في نفس الإنسان، فإنّ اختلاف الرأي لا يؤثر على الصداقة[8] .

أنموذج للورع والإنصاف

وكان الفقيه المحدّث الشيخ يوسف البحراني (ت: 1186هـ) صاحب (الحدائق الناضرة)، على خلاف شديد مع العلامة الشيخ محمد باقر الشهير بالوحيد البهبهاني (ت: 1206هـ)، في موضوع الأصوليين والإخباريين، فالشيخ البحراني زعيم مدرسة المحدّثين الإخباريين، والوحيد البهبهاني، زعيم المدرسة الأصولية، وكان يردّ آراء الشيخ يوسف بعنف، ووصل به الأمر إلى أن أفتى ببطلان الصلاة خلف الشيخ يوسف البحراني، لكنّ الشيخ يوسف أفتى بصحة الصلاة خلف الوحيد[9] .

روى الشيخ عبد الله المامقاني في كتاب (تنقيح المقال) عن أبيه أن المولى البهبهاني سئل عن الصلاة خلف الشيخ يوسف صاحب الحدائق - وكانا معاصرين - فقال: لا تصح.. وسُئل الشيخ يوسف عن الصلاة خلف البهبهاني؟. فقال: تصح.. فقيل له: كيف تصححها خلف من لا يصحح الصلاة بصلاتك؟!.. قال: وأيّ غرابة في ذلك؟! إنّ واجبي الشرعي يحتم عليَّ أن أقول ما أعتقد، وواجبه الشرعي يحتم عليه ذلك، وقد فعل كلٌّ منّا بتكليفه وواجبه .. وهل تسقط عنه العدالة لمجرد أنه لا يصحح الصلاة خلفي؟!..

وللشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله تعليق على هذه القصة الرائعة وهو يقصد الشيخ يوسف البحراني: أرأيت هذا القلب الكبير الذي لا يخفق بغير الإيمان؟.. أرأيت هذا الصدر الرحب الذي يتسع للعدالة، وإن تكن عليه لا له؟.. أرأيت هذه النفس التي لا تعرف إلّا الصدق والإنصاف والتواضع.. وليس من شك أنّ هذا المنطق غريب على أكثرية شيوخ هذا العصر؛ لأنّ كلّ شيخ من هذه الأكثرية أو الكثرة يرى الدين مجسّماً في شخصه بالذات.. فعدم الثقة به معناه عدم الثقة بالدين، وهذا عنده حدّ الكفر أو الفسق على الأقلّ.

والآن - أيّها القارئ - هل ظهر لك الفرق بين الأنانيين والمزيّفين الذين يكيّفون الدين حسب شهواتهم وأهوائهم، وبين صاحب الحدائق الذي اتقى الله حقًّا، ونطق بكلمة الحقّ والإخلاص، مؤثرًا أمر الله ورضاه على نفسه وهواه[10] .

وجهات النظر في العمل الاجتماعي

المجال الثاني: الاختلاف في وجهات النظر ضمن المؤسسات الأهلية والاجتماعية، كإدارة الجمعيات والأندية والمساجد والمآتم والمواكب واللجان والهيئات.

ففي أيّ عمل جمعي، قد تختلف وجهات النظر بين أعضاء الفريق، ويجب أن يتحاوروا ويتناقشوا لإنضاج آرائهم وتقريبها، والتوافق تجاهها، فإذا لم يتفقوا في وجهات النظر تجاه برنامج أو قضية، فليعذر بعضهم بعضًا، وليحتكموا إلى النظام الإداري المعتمد لديهم. ولا يصح إساءة الظنّ واتهام أيّ طرف للآخر، بسوء القصد والغرض.

ذلك أنّ الله هو العالم بما في القلوب والنيّات.

عن أسامة بن زيد قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا[11]  الْحُرَقَاتِ[12]  مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ : «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟»[13] .

 

خطبة الجمعة 13 جمادى الآخرة 1444هـ الموافق 6 يناير 2023م.

[1]  نهج البلاغة، حكمة: 352.
[2]  بحار الأنوار، ج72، ص197، ويروى عن أمير المؤمنين . كما في عيون الحكم والمواعظ، ص86.
[3]  نهج البلاغة، حكمة: 352.
[4]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص399.
[5]  عيون الحكم والمواعظ، ص229.
[6]  المصدر السابق، ص462.
[7]  الشيخ الكليني: الكافي، ج2، ص361، (دار الكتب الإسلامية).
[8]  من سيرة العلماء على لسان السيد موسى الزنجاني، ترجمة الشيخ محسن آل مبارك، ص78.
[9]  الشيخ علي البلادي البحراني: أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين، ج1، ص435.
[10]  الشيخ عبدالعظيم المهتدي البحراني: قصص وخواطر من أخلاقيات علماء الدين، ص241.
[11]  فصبحنا القوم: أي فاجأناهم وهجمنا عليهم في الصباح قبل أن يشعروا.
[12]  الحرقات: بطن من جهينة.
[13]  صحيح مسلم، كتاب الإيمان، بَابُ تَحْرِيمِ قَتْلِ الْكَافِرِ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، ح169.