الإنفاق الخيري وحاجات المجتمع
يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾. [التوبة: 60].
من أهم وظائف التربية الدينية تنمية روح العطاء في نفس الإنسان، ودفعه لتحمّل المسؤولية تجاه محيطه الاجتماعي.
فكما يسعى الإنسان لتوفير متطلبات حياته الشخصية، ويهتم بتحصيل المكاسب والمصالح لذاته، عليه أن يفكر في حاجات الآخرين من حوله، ويهتم بالمصلحة العامة لمجتمعه.
الاهتمام بالأبعاد المختلفة
ولتعدّد أبعاد الحياة الاجتماعية، فإنّ الدين يوجه الى الاهتمام بمختلف الجوانب والأبعاد، وتفقّد الحاجات المختلفة لأبناء المجتمع.
وتتحدّث الآية الكريمة ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾. [التوبة: 60]. عن ثمانية موارد لصرف الزكاة والصدقات، وهي تلامس أبعادًا مختلفة في الحياة الاجتماعية.
الأول والثاني: الفقراء والمساكين، وقد بحث المفسّرون والفقهاء في مفهومي الفقير والمسكين، فهل هما مفهوم واحد وتكرار اللفظين من باب التأكيد حسبما يرى البعض؟ أم أنّ لهما معنيين مختلفين حسبما يرى أغلب المفسّرين والفقهاء؟ وأنّ الفقير هو من لا تتوفر له كامل احتياجاته، بينما المسكين يطلق على ذي الحاجة الأشدّ، فقد لا يمتلك القوت والغذاء ليومه، لذلك جاءت آيات تتحدّث عن إطعام المسكين.
يقول تعالى: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾. [الحاقة: 34].
ويقول تعالى: ﴿فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾. [المجادلة: 4].
ويقول تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾. [البقرة: 184].
مما يوحي أنّ المساكين هم الجياع.
والمورد الثالث: ﴿وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾، فالذين يسعون في جباية الزكاة وجمع التبرعات، وإدارة بيت المال، يستحقون أجرة لعملهم.
المورد الرابع: ﴿وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾، وهم الذين يراد استقطابهم إلى الدين والاستعانة بهم لخدمة مصلحة الأمة، من خارجها، وكذلك الذين يراد تعزيز انتمائهم للدين من داخل الأمة.
المورد الخامس: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾، وهو: تحرير العبيد وتخليصهم من الرقّ يوم كان الرقّ سائدًا في المجتمعات.
المورد السادس: ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾، وهم الذين تحمّلوا ديونًا وعجزوا عن أدائها.
المورد السابع: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقد حصر بعض المفسّرين هذا العنوان فيما يرتبط بالجهاد، لكنّ معظم مفسرّي الشيعة وفقهائهم يرونه شاملًا لكلّ مصالح الإسلام والمسلمين.
يقول السيد الطباطبائي: (أي وللصرف في سبيل الله، وهو كلّ عمل عام يعود عائدته إلى الإسلام والمسلمين وتحفظ به مصلحة الدين، ومن أظهر مصاديقه الجهاد في سبيل الله، ويلحق به سائر الأعمال التي تعمّ نفعه وتشمل فائدته كإصلاح الطرق وبناء القناطر ونظائر ذلك)[1] .
المورد الثامن: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، وهو المنقطع في سفره، فيعطى ما يمكنه من العودة إلى وطنه.
تكامل منظومة العمل الخيري
إنّ تنوع موارد صرف الزكاة والصدقات، فيه إشارة وتوجيه إلى ضرورة الاهتمام بالإنفاق في مختلف أبعاد الحياة الاجتماعية، ولمختلف حاجات أبناء المجتمع.
إنّ للحياة الاجتماعية أبعادًا مختلفة، تحتاج كلّها إلى الاهتمام والرعاية، فهناك البعد الروحي، والعلمي، والصحي، والبيئي، والثقافي، والاجتماعي.
ولكلّ واحد من هذه الأبعاد مجالاته وميادينه، ولا يصح إهمال أيّ واحدٍ منها ولا التقليل من شأنه.
قد تتوجه أنت للاهتمام ببعد معيّن فتنفق فيه من جهدك ومالك، لإدراكك مدى أهميته، وقدرتك على العطاء فيه، بينما يتوجه غيرك لبعد آخر، فتتكامل الجهود في تغطية مختلف الحاجات.
تقدير الاهتمام بمختلف المجالات
قد يسيطر على ذهن البعض اهتمام معيّن في الشأن الاجتماعي، وهذا أمر طبيعي مفهوم، لكن من غير المفهوم أن ينظر إلى من يتحرّك في أبعاد اجتماعية أخرى نظرة سلبية، فيقلّل من أهمية عملهم وسعيهم في تلك الأبعاد. وهذا خطأ كبير، وتثبيط لعمل الخير.
فمثلًا هناك من يهتم بالمشاريع والأعمال الدينية كبناء المساجد والحسينيات، وإقامة الشعائر الدينية، وينفق من ماله وجهده في سبيل ذلك، وهذا عمل مهم؛ لأنّ تعزيز الدين وترسيخه وإبراز مظاهره وشعائره أمر مطلوب وأساس في المجتمع الإسلامي.
لكنه لا يصح للمهتمين بالعمل الديني التثبيط عن الاهتمامات الأخرى، أو التقليل من شأنها، فإنّ الدين نفسه يدعو إلى الاهتمام بمناطق الضعف والحاجة في المجتمع، ويدعو إلى العمل والمعرفة، وإلى التقدّم الاقتصادي، وإلى رعاية الصحة وحماية البيئة، والارتقاء بمستوى المجتمع في مختلف المجالات.
إنّ رسول الله كان يصرف على سباق الخيل، مع تحمّله لمسؤوليات دينية وجهادية واجتماعية أخرى، كما ورد عن الإمام علي بن الحسين «أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ أَجْرَى اَلْخَيْلَ وَجَعَلَ سَبَقَهَا أَوَاقِيَّ مِنْ فِضَّةٍ»[2] .
وعن الإمام محمد الباقر : أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ «سَابَقَ بَيْنَ اَلْخَيْلِ وَأَعْطَى اَلسَّوَابِقَ مِنْ عِنْدِهِ»[3] .
وجاء في فتاوى السيد السيستاني: (يجوز أن يكون العوض المقرّر في السبق أو الرماية عينًا، وأن يكون دينًا، وأن يبذله أجنبي أو أحد الطرفين، أو من بيت المال)[4] .
ومن يهتم بهذه الأبعاد والجوانب فهو يخدم الدين، وينفع عباد الله.
الإنفاق الخيري لا ينحصر في الفقراء
وهناك من يرفع شعار الاهتمام بالفقراء والمحتاجين، ويستهين بالجهود التي تبذل في المجالات الدينية أو الثقافية والاجتماعية. وهذا توجه سلبي خطأ.
إنّ بناء المساجد الواسعة، وإشادة العتبات المقدسة، وإقامة الحسينيات والشعائر، ودعم الأندية الرياضية، والمؤسسات الصحية، والمراكز الثقافية، والبرامج الفنية، وسائر الاهتمامات المفيدة للمجتمع، كلّ ذلك أمر مطلوب ولا يصح التقليل من شأنها، أو التثبيط عن الإنفاق عليها، بمبرر وجود الفقراء والمحتاجين، فكلّ بُعدٍ يجب أن يأخذ نصيبه من الاهتمام، أما تحديد الأولويات ومقدار الحاجة في كلّ مجال، فهذا ما يجب أن يكون محلّ دراسة ونقاش، وليس فرصة للتهريج والتثبيط.
جاء في نهج البلاغة (أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي أَيَّامِهِ حَلْيُ الْكَعْبَةِ وَكَثْرَتُهُ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَوْ أَخَذْتَهُ فَجَهَّزْتَ بِهِ جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ أَعْظَمَ لِلْأَجْرِ، وَمَا تَصْنَعُ الْكَعْبَةُ بِالْحَلْيِ؟ فَهَمَّ عُمَرُ بِذَلِكَ، وَسَأَلَ عَنْهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ : «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ وَالْأَمْوَالُ أَرْبَعَةٌ: أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ، فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْوَرَثَةِ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْفَيْءُ فَقَسَّمَهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ، وَالْخُمُسُ فَوَضَعَهُ اللَّهُ حَيْثُ وَضَعَهُ، وَالصَّدَقَاتُ فَجَعَلَهَا اللَّهُ حَيْثُ جَعَلَهَا، وَكَانَ حَلْيُ الْكَعْبَةِ فِيهَا يَوْمَئِذٍ، فَتَرَكَهُ اللَّهُ عَلَى حَالِهِ؛ وَلَمْ يَتْرُكْهُ نِسْيَانًا، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَكَاناً، فَأَقِرَّهُ حَيْثُ أَقَرَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ». فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَوْلَاكَ لَافْتَضَحْنَا، وَتَرَكَ الْحَلْيَ بِحَالِهِ)[5] .