أولادنا يستحقُّون اهتمامًا أكبر
عن بُرَيْدَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَخْطُبُنَا فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا»[1] .
ونحن نحتفي بميلاد السبط الثاني لرسول الله الحسين بن علي وابن فاطمة، علينا أن نستحضر بعض المشاهد التي تنقلها كتب الحديث والتاريخ المعتمدة، عن الاهتمام الكبير الذي أولاه رسول الله لسبطيه الحسنين.
حيث يكشف لنا هذا الاهتمام عن حبّ رسول الله العميق لسبطيه الحسنين، ويدلّ على فضلهما وعظيم مكانتهما، كما يقدّم لنا دروسًا مهمّة في المسؤولية تجاه الأبناء وضرورة بذل الاهتمام الأكبر بهم.
مسؤوليات ضخمة لم تشغله عنهما
ولد الإمام الحسين في السنة الرابعة للهجرة على الأرجح، وبينه وبين أخيه الحسن أقلّ من سنتين، وكان النبي يعيش ذروة انشغاله ببناء المجتمع الإسلامي الناشئ، وتأسيس الكيان الجديد، ومواجهة عدوان القوى المناوئة للدين والكيان الإسلامي، من يهود ومشركين ومنافقين، فلا يكاد يفرغ من معركة حتى يضطرّ إلى خوض معركة أخرى، ولا ينتهي من تبيين تشريع إلهي حتى ينزل عليه الوحي بتشريع آخر، وكان معنيًا بإدارة شؤون المجتمع ومعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، التي كانت تثيرها التحدّيات الداخلية والخارجية.
مع كلّ هذه المسؤوليات والمهام القيادية الضخمة، إلّا أنه لم ينشغل بها عن الاهتمام بالشأن التربوي بسبطيه الحسنين ، مع أنّ لهما خير أبوين يباشران تربيتهما، هما علي وفاطمة .
لكنه كان يشرف على تربيتهما، ويبدي الاهتمام بهما، لتبيين مكانتهما للأمة، وليرسي المنهج التربوي المطلوب في المجتمع الإسلامي.
معالم في المنهج التربوي
ونشير هنا إلى معالم من هذا المنهج التربوي النبوي من خلال اهتمامه بالحسنين.
أولًا: إغداق العطف والحنان عليهما:
إنّ العطف والحنان حاجة أساس لتغذية نفس الطفل، لا تقلّ عن حاجة جسمه للغذاء.
وكما يتأثر نمو جسمه بنقص وسوء التغذية، فإنّ نموّه النفسي يتأثر بمستوى إشباع عواطفه وأحاسيسه.
عن سلمان الفارسي: (دَخَلتُ عَلى رَسولِ اللّه ِ وعِندَهُ الحَسَنُ وَالحُسَينُ يَتَغَدَّيانِ، وَالنَّبِيُّ يَضَعُ اللُّقمَةَ تارَةً في فَمِ الحَسَنِ ، وتارَةً في فَمِ الحُسَينِ ، فَلَمّا فَرَغَ مِنَ الطَّعامِ أخَذَ رَسولُ اللّه ِ الحَسَنَ عَلى عاتِقِهِ، وَالحُسَينَ عَلى فَخِذِهِ)[2] .
في المجتمع الجاهلي كان هناك تجاهل لهذا الجانب، خاصة من قبل الآباء، كما يبدو من بعض الروايات:
فقد ورد عن عائشةَ قالت: جاء أعرابي إِلى النبي فقال: “تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُم. فَقَالَ النَّبِيُّ : «أَوَأَمْلِكُ لك أَنْ نَزَعَ الله من قَلْبِك الرحمة»[3] .
وعن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللهِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»[4] .
ثانيًا: إتاحة فرصة اللعب لهما وملاعبتهما
ممارسة اللعب مهمة لتكامل النمو العضلي لجسم الطفل، ولإثراء خياله، وتنمية مشاعره، والتعبير عن أحاسيسه.
ورد عنه : «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ صَبِيٌّ فَلْيَتَصَابَ لَهُ»[5] .
أي يتقمّص شخصية الصبي مع ابنه، بأن يلعب معه كأيِّ صبي في سنّه.
وورد أنّ اَلنَّبِيُّ قال للحسن والحسين: قُومَا اَلْآنَ فَاصْطَرِعَا، فَقَامَا لِيَصْطَرِعَا وَقَدْ خَرَجَتْ فَاطِمَةُ فِي بَعْضِ حَاجَتِهَا، فَدَخَلَتْ فَسَمِعَتِ اَلنَّبِيَّ وَهُوَ يَقُولُ: إِيهِ يَا حَسَنُ، شُدَّ عَلَى اَلْحُسَيْنِ فَاصْرَعْهُ»[6] .
وعن أبي أيّوب الأنصاري: دَخَلتُ عَلى رَسولِ اللّه ِ ، وَالحَسَنُ وَالحُسَينُ يَلعَبانِ بَينَ يَدَيهِ وفي حِجرِهِ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللّه، ِ أتُحِبُّهُما؟ قالَ: «وكَيفَ لا اُحِبُّهُما وهُما رَيحانَتايَ مِنَ الدُّنيا، أشُمُّهُما»[7] .
ثالثًا: إظهار المحبة والاحترام لهما
إنّ احترام الطفل يعزّز شخصيته وثقته بنفسه، بينما احتقاره منشأ لإضعاف ثقته وتعقيد نفسيته.
لذلك كان رسول الله يُظهر تقديره واحترامه لسبطيه أمام الناس، ترسيخًا لهذا المبدأ، وتعريفًا للأمة بمقامهما، فقد سمع منه عدد كبير من الأصحاب قوله : «الحَسَنُ والحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبابِ أهلِ الجنةِ»[8] .
وقوله عنهما: «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا»[9] .
وكان يُبدي الاهتمام بهما في غمرة قيامه بمهامه الدينية والقيادية، فعن بريدة: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَخْطُبُنَا فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا»[10] .
وعن عبداللّه بن شدّاد عن أبيه: خَرَجَ عَلَينا رَسولُ اللّه ِ في إحدى صَلاتَيِ العِشاءِ، وهُوَ حامِلٌ حَسَنا أو حُسَينا ، فَتَقَدَّمَ رَسولُ اللّهِ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاةِ فَصَلّى، فَسَجَدَ بَينَ ظَهرانَي صَلاتِهِ سَجدَةً أطالَها، قالَ أبي: فَرَفَعتُ رَأسي وإذَا الصَّبِيُّ عَلى ظَهرِ رَسولِ اللّه ِ وهُوَ ساجِدٌ، فَرَجَعتُ إلى سُجودي. فَلَمّا قَضى رَسولُ اللّه ِ الصَّلاةَ، قالَ النّاسُ: يا رَسولَ اللّهِ! إنَّكَ سَجَدتَ بَينَ ظَهرانَي صَلاتِكَ سَجدَةً أطَلتَها، حَتّى ظَنَنّا أنَّهُ قَد حَدَثَ أمرٌ، أو أنَّهُ يوُحى إلَيكَ. قالَ : «كُلُّ ذلِكَ لَم يَكُن، ولكِنَّ ابنِي ارتَحَلَني، فَكَرِهتُ أن اُعجِلَهُ حَتّى يَقضِيَ حاجَتَهُ»[11] .
تحدّيات التربية في هذ العصر
إننا بحاجة لإعادة النظر في مستوى اهتمامنا بأبنائنا وبناتنا في هذا العصر، حيث يجد الإنسان نفسه منهمكًا في انشغالات واهتمامات متعدّدة، تستهلك جهده ووقته، كما يعيش الإنسان في هذا العصر أجواء التنافس على تحصيل المكاسب والمصالح الذاتية، وتحقيق الرّغبات الشخصية، وهذا ما أضعف الاهتمام بالأبناء، وأصبح تعويل الأسرة على دور المؤسسات الوظيفية، كالحضانة والروضة والمدرسة ورعاية الخادمة في المنزل.
واندفع الأبناء نتيجة لانشغال الوالدين عنهما في كثير من الأحيان، للإقبال على الأجهزة الإلكترونية والعيش عبرها في العالم الافتراضي، حيث أصبح الأطفال مدمنين على استخدام هذه الأجهزة، منشدّين إليها أكثر من انشدادهم لوالديهم وأخوتهم وزملائهم في معظم الحالات.
وقد يجد الوالدان أنّ انشغال الولد بهذه الأجهزة يملأ فراغه، ويريحهم من بعض إزعاجه وأعباء الاهتمام به، لكنّ تأثير الإقبال غير المنظم على الأجهزة الإلكترونية فيه أخطار بالغة، حذّرت منها منظمة الصحة العالمية والمؤسسات المعنية بشأن الطفولة، وقد صنّفت منظمة الصحة العالمية (WHO) الإدمان على ألعاب الكمبيوتر كمرضٍ معترف به.
وجاء في رسالة على موقع المنظمة (في 1 يناير 2022م)، إنه تم تصنيف المرض على أنه "اضطراب سلوك إدماني".
وفي عام 2019، تم تسجيل أول حالة سريرية لدخول المراهقين إلى المستشفى بسبب إدمان ألعاب الفيديو[12] .
ويلاحظ الخبراء أنّ الحماس المفرط لألعاب الكمبيوتر مصحوب ليس فقط بالإدمان، ولكن أيضًا بعواقب سلبية على صحة الطفل، كضعف البصر، وانحناء العمود الفقري، والأرق.
وفي كثير من الأحيان عند الأطفال، وبسبب الحماس المفرط لألعاب الكمبيوتر، تنخفض مهارات التعلم، ويُلاحظ التهيج والعدوانية.
حتى لا يضيع أبناؤنا في العالم الافتراضي
ينمو الأطفال في عالم محاط بوسائل إعلامية مختلفة، يمكن الوصول إليها بسهولة ويسر. وقد يجد الآباء صعوبة في مواكبة التطور المتسارع في المحتوى، والمميّزات، والتطبيقات الجديدة التي يتم تقديمها باستمرار.
إنه لا يُنكر أنّ للأجهزة الإلكترونية فوائد، ولا يمكن منع الأبناء عنها، لكن لا ينبغي إطلاق العنان لتسيطر وتهيمن على نفسية الطفل، بل يجب تقنين وتنظيم التعامل معها، وتشجيع الطفل على الهوايات والأنشطة المختلفة، وأن يصرف الوالدان وقتًا في التحادث مع الأبناء، ومشاركتهم في بعض الألعاب والاهتمامات.
إنّ من الآثار المحتملة لإدمان التكنولوجيا على المراهقين، الانحراف الأخلاقي، والتوجه إلى العلاقات غير الشرعية، والتوجه إلى إدمان المخدِّرات، والعزلة الاجتماعية، وعدم المشاركة مع الآخرين، وإهمال الدروس والواجبات، والرسوب في الدراسة، وعدم وجود اهتمامات شخصية، أو ممارسة رياضة وهواية مفضّلة، والإرهاق الجسدي والنفسي والضعف العام.
وقد أثبتت العديد من الأبحاث التي تم إجراؤها على تأثير الإدمان الإلكتروني على الصحة النفسية، بسبب قضاء الأشخاص العديد من الساعات أمام التصفح على الإنترنت، التي أثرت على قدرتهم في التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى الإصابة بالاكتئاب الحادّ والقلق.
أولادنا أمانة في أعناقنا
حقًّا إنّ أبناءنا وبناتنا يستحقّون منّا اهتمامًا أكبر، خاصة وهم يواجهون تحدّيات أجواء المغريات، والنشاط المكثف لاتجاهات الفساد الأخلاقي، والتيارات الفكرية المختلفة، التي تسعى لتذويب هُوية مجتمعاتنا، وإضعاف انتمائنا الثقافي.
إنّ أولادنا أمانة من الله في أعناقنا، وسيسألنا الله تعالى عن أيّ تقصير تجاههم، كما أنّ صلاحهم ونجاحهم، سعادة لنا في الدنيا والآخرة، وسنتحمّل أعباء أيّ شقاء أو انحراف في حياة أبنائنا.
فلنصرف جهدًا ووقتًا أكثر في الاهتمام بهم، ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.