مزالق الخصومات
ورد في كتاب الكافي بسند صحيح عن الإمام جعفر الصادق : «إِيَّاكُمْ وَالْخُصُومَةَ، فَإِنَّهَا تَشْغَلُ الْقَلْبَ، وَتُورِثُ النِّفَاقَ، وَتَكْسِبُ الضَّغَائِنَ»[1] .
كما يحرص الإنسان على اجتناب ما يسبّب لجسمه الألم والأذى، عليه أن يحرص على اجتناب ما يسبّب له الأذى والألم النفسي، فهو أشدّ وجعًا وخطرًا على كيانه ووجوده.
وغالبًا ما تكون النّزاعات والخصومات البينية أهم مصدر للأذى والألم النفسي، فإذا تورّط الإنسان في نزاع وخصومة مع أحدٍ في محيطه الاجتماعي، فإنّ ذلك يهدّد استقراره النفسي، ويستفزّ أحاسيسه ومشاعره، وقد ينمّي لديه نزعات عدائية بمبرّر الدفاع عن الذات.
وكلّما كانت الخصومة في دائرة أقرب للإنسان اجتماعيًّا، كانت أشدّ إيلامًا وخطرًا على نفسه، كالنّزاعات العائلية، وبين الأقارب والأرحام، والزّملاء والأصدقاء.
وذلك لوجود حالة من التداخل المصلحي والنفسي بين الإنسان ومن يعيشون في دائرة القرب منه، وهم يعرفون أسراره ونقاط ضعفه، فيكونون أقدر على الإضرار به، وخصومتهم أكثر إيلامًا.
ورد عن الإمام علي : «عَدَاوَةُ اَلْأَقَارِبِ أَمَضُّ مِنْ لَسْعِ اَلْعَقَارِبِ»[2] .
الهروب من الخصومات
لذلك على الإنسان أن يحرص على تجنّب الخصومات والنزاعات، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. ولو بالتنازل عن بعض حقوقه ومصالحه، فإنه بالخسارة المادية يحمي ذاته من الآلام النفسية والخسارة الأخلاقية المعنوية.
على الإنسان العاقل أن يتجنّب العداوات والخصومات، فلا يبادر أحدًا بخصومة، ولا يصدر منه ما يسب نزاعًا أو عداءً من قول أو فعل.
وإذا ما حاول أحدٌ أن يستدرجه لعداوة أو صراع، فليتحلَّ بالذكاء وضبط النفس؛ كي لا يقع في الفخ، فإنّ الخصومة نفق لا يعرف الإنسان إذا دخله كيف يخرج منه.
يقول تعالى في صفة عباده الأتقياء: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾. [الفرقان: 63].
ويقول تعالى: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾. [الزخرف: 89].
ورد أنّ الإمام زين العابدين علي بن الحسين كان ماشيًا فاعترضه شخص معتديًا عليه بالسّبّ والشّتم، فأشاح بوجهه وسكت عنه، فقال الرجل: إِيَّاكَ أَعْنِي، فَقَالَ : «وَعَنْكَ أُغْضِي»[3] .
وجاء عن أمير المؤمنين الإمام علي : «وَلاَ عُوقِبَ اَلْأَحْمَقُ بِمِثْلِ اَلسُّكُوتِ عَنْهُ»[4] .
وعلى الإنسان أن يتلافى الدخول في أيِّ جدلٍ أو نقاش قد يؤدي إلى خصومة، وإن كان معتقدًا بصحة رأيه وموقفه، وهذا ما تشير إليه النصوص الدينية التي تحذّر من المشاركة في الجدل العقيم الذي لا يؤدي إلى نتيجة مقيّدة، ويطلق عليه (المراء).
ورد عن النبي : «لاَ يَسْتَكْمِلُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ اَلْإِيمَانِ حَتَّى يَدَعَ اَلْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا»[5] .
وورد عن الإمام علي : «ثَمَرَةُ اَلْمِرَاءِ اَلشَّحْنَاءُ»[6] .
حين تضطرّ للخصومة
لكنّ بعض الخصومات قد تفرض نفسها على الإنسان من قبل الآخرين.
فبعض الناس قد تكون هوايته اختلاق صراعات مع الآخرين، وينقلون أنّ أعرابيًّا كان كثير السُّباب، فلما مات أوصى أن يكتب على قبره:
أيُّها الزائر قبري أتلُ ما خُطّ أمامك
هاهنا صارت عظامي ليتها صارت عظامك
هنا على الإنسان إن لم يستطع الفرار من الخصومة، لتعلّقها بمصلحة أو حقّ لا يمكنه التنازل عنه، عليه أن يواجه الخصومة بتعقّل، وألّا تسيطر عليه الحالة الانفعالية، فتخرج به عن الضوابط الشرعية والأخلاقية.
المزالق الخطرة
إنّ من أخطر مساوئ الخصومات، أن تدفع الإنسان للانزلاق في الطرق الملتوية، واستخدام الأساليب القذرة، بمبرر الدفاع عن الذات والانتصار من الخصم.
وتحذيرًا من هذا الخطر يُشير ما روي عن الإمام علي : «مَنْ بَالَغَ فِي اَلْخُصُومَةِ أَثِمَ، وَمَنْ قَصَّرَ فِيهَا ظُلِمَ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّقِيَ اَللَّهَ مَنْ خَاصَمَ»[7] .
ومن الأساليب غير المشروعة في مواجهة الخصم، الافتراء والبغي عليه، والنيل منه خارج مورد الخصومة.
ونجد مثل هذه الممارسات حتى في النزاعات العائلية، فإذا حصل خلاف بين زوجين مثلًا، شهّر كلٌّ منهما بالآخر، وألصق به مختلف التُّهم، وانتهك كلّ حرماته وأسراره.
وقد يحدث ذلك بين الأخوة والأقارب حين يختلفون على حصصهم في الإرث مثلًا.
كما يحدث بين أصدقاء الأمس حينما تحوّلهم الخصومة إلى أعداء، يجتهد الواحد مهم في تدمير الآخر، وإيقاع أكبر قدر من الضّرر به.
إنّ ذلك مصداق للفجور في الخصومة الذي هو من سمات النفاق، حيث ورد عن النبي أنه قال في صفات المنافق: «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»[8] .