الانفتاح على القرآن
يقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ﴾
حينما يريد القرآن أن يعرّف شهر رمضان ويبيّن فضله وخصائصه، فإنه يكتفي بوصفه أنه ﴿الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، فهو أهم تعريف وأفضل توصيف، حيث اختاره الله تعالى زمنًا لنزول رسالة الهداية لبني البشر.
وتشير روايات وردت في بعض كتب الحديث الشيعية[1] والسنية[2] إلى أنّ الكتب السماوية السابقة، كالتوراة والإنجيل والزبور أنزلت في شهر رمضان أيضاً.
مما يدلّ على مكانة هذا الشهر الكريم، ويقتضي مزيد الاهتمام بالقرآن الكريم فيه.
فإنّ لقراءة القرآن في شهر رمضان فضلًا عظيمًا، فقد جاء في خطبةٍ لرسول الله في استقبال شهر رمضان: (مَنْ تَلا فيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ كانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فى غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ)[3] .
وورد عن الإمام محمد الباقر : (لِكُلِّ شَيءٍ رَبيعٌ، ورَبيعُ القُرآنِ شَهرُ رَمَضانَ)[4] .
يقول الشيخ المجلسي في تعليقه على هذه الرواية: (أي كما أنّ الأشجار تنمو في الربيع وتظهر آثارها وأثمارها، كذلك القرآن في شهر رمضان يكثر ثوابه وتظهر آثاره أكثر من سائر الأزمان)[5] .
التلاوة الواعية
إنّ تلاوة القرآن ينبغي أن تكون برنامجًا يوميًّا ثابتًا في حياة الانسان المسلم، ورد بسند حسن في رواية عن الإمام جعفر الصادق : (الْقُرْآنُ عَهْدُ اللهِ إِلى خَلْقِهِ، فَقَدْ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي عَهْدِهِ، وَأَنْ يَقْرَأَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسِينَ آيَةً)[6] .
وينبغي أن يصحب التلاوة تأمل وتدبّر في معاني الآيات ومقاصدها، وليس مجرّد الحكاية لألفاظها.
ورد عن الامام علي بن الحسين زين العابدين : (آيَاتُ الْقُرْآنِ خَزَائِنُ، فَكُلَّمَا فُتِحَتْ خِزَانَةٌ، يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْظُرَ مَا فِيهَا)[7] .
وجاء عن الإمام جعفر الصادق : (إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يُقْرَأُ هَذْرَمَةً (السّرعة في القراءة)، وَلكِنْ يُرَتَّلُ تَرْتِيلًا، فَإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ، فَقِفْ عِنْدَهَا، وَسَلِ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - الْجَنَّةَ، وَإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ، فَقِفْ عِنْدَهَا، وَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ النَّارِ)[8] .
إنّ القرآن يدعونا إلى التدبّر في آياته. يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾. [محمد: 24]
ويقول تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. [ص: 29]
وورد عن أمير المؤمنين علي : (ألا لا خَيْرَ في قِراءَةٍ لَيْسَ فيها تَدَبُّرٌ)[9] ، والتدبّر هو النظر في عواقب الأمور ونهاياتها، ويتمثل هنا بالتفكير في مقاصد الآيات وغاياتها.
إنّ القراءة من دون تأمل تكون قراءة سطحية، تتعامل مع القرآن كحروف، وكلمات بلا معانٍ ولا مفاهيم. وكأنّ القراءة مطلوبة كعمل طقوسي من أجل التعبّد والتبرك.
ورد عن الإمام علي : (ولا يَكُن هَمُّ أحَدِكُم آخِرَ السُّورَةِ)[10] .
أهليّة التدبّر في القرآن
إنّ البعض قد يعتقد بعدم أهليته لإدراك وفهم شيء من معاني القرآن، وأنّ تلك مهمّة الراسخين في العلم فقط، وهذا خطأ كبير. ينافي الأمر الالهي بالتدبّر والتفكر، وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق : (مَا كَانَ اللَّهُ لِيُخَاطِبَ خَلْقَهُ بِمَا لَا يَعْقِلُونَ)[11] .
إنّ الله تعالى يقول: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾. [القمر: 17]
من الطبيعي أن يتفاوت مستوى الفهم والاستنتاج بتفاوت الذكاء والعلم والمعرفة.
فكلّما كان الإنسان أكثر معرفة وخبرة، كانت قدرته على استيعاب مضامين الآيات أكبر وأعمق، لكنّ معظم آيات القرآن الكريم يستطيع الإنسان العادي أن يفهم معناها بمستوى إدراكه.
إنه تعالى يقول: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾، و﴿هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾.
وهو يخاطب الناس: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
لكنّ تطور الاستخدام اللغوي، قد يجعل بعض الكلمات في القرآن غير مفهومة المعنى عند أبناء الجيل الحاضر، فهناك كلمات عربية قلّ تداولها، أو تغيّرت دلالاتها، وهنا يمكن الاستعانة بالتفاسير المختصرة التوضيحية، التي تبيّن معاني المفردات في الآيات الكريمة، وتشير إلى المقصود من مجمل الآية، وهناك مصاحف مطبوعة وعلى هامشها تفسير توضيحي مختصر لكلّ صفحة من صفحات المصحف الشريف، وينبغي أن يختار الإنسان لتلاوته اليومية واحدًا من هذه المصاحف.
الاهتمام بالقرآن الكريم
إننا بحاجة إلى ثقافة تحفّزنا إلى الانفتاح أكثر على القرآن الكريم، وتجاوز التعامل الطقوسي والشكلي مع تلاوته.
إنّ قراءة آية واحدة بتفكير وتأمّل، أفضل من قراءة عشرات الآيات من دون تدبّر.
جاء في رواية عن إبراهيم بن العباس أنّ الإمام علي بن موسى الرضا كان يختم القرآن فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ وَيَقُولُ: (لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَخْتِمَهُ فِي أَقْرَبَ مِنْ ثَلَاثَةٍ تَخَتَّمْتُ، وَلَكِنِّي مَا مَرَرْتُ بِآيَةٍ قَطُّ إِلَّا فَكَّرْتُ فِيهَا وَفِي أَيِّ شَيْءٍ أُنْزِلَتْ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ، فَلِذَلِكَ صِرْتُ أَخْتِمُ فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ)[12] .
فإذا كان الإمام مع علوّ مقامه وعظيم علمه، يبدي هذا الاهتمام بالتدبّر في القرآن والتأمّل في آياته، فإنّ ذلك يدعونا إلى أن نبديَ اهتمامًا أكبر بالقرآن الكريم.
إنّ أئمة أهل البيت كانوا يهتمون بالقرآن الكريم أعلى درجات الاهتمام، ويؤكّدون على أتباعهم وشيعتهم أن يكونوا أسبق الناس بالاهتمام بالقرآن الكريم، حيث يؤكّد أمير المؤمنين علي في وصيته الأخيرة قائلًا: (اللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ لاَ یَسْبِقُکُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَیْرُکُمْ)[13] .
إنّ رسول الله ترك في أمّته ثِقلين: الكتاب والعترة، فقد جاء الحديث عنه بأسانيد صحيحة وطرق كثيرة في مصادر السنة والشيعة، أنه قال: (إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي: أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ. وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا)[14] .
إنّ بعض المسلمين يبدون اهتماماً بالقرآن الكريم، ويغفلون عن إبداء الاهتمام المناسب بشأن العترة النبوية، والبعض الآخر يبدون الاهتمام بشأن أهل البيت ، ويغفلون عن إبداء الاهتمام المناسب بشأن القرآن الكريم، وكلاهما تقصير غير مقبول.
تعظيم شأن القرآن
إنّ أتباع أهل البيت أولى من غيرهم بالاهتمام الأكثر بالقرآن الكريم وتعظيم شأنه، كما يهتمّون بإحياء ذكر أهل البيت .
فكما نؤسس حسينيات ومجالس لإحياء ذكر أهل البيت ، ينبغي أن نؤسس مؤسسات ومراكز للقرآن الكريم.
وكما نقيم المناسبات والمواسم لذكريات أهل البيت ، علينا أن نقيم المناسبات القرآنية.
وكما نخصّص أوقافاً لمجالس أهل البيت والإطعام في مناسباتهم، نحتاج إلى أوقاف مخصصة للشأن القرآني.
وينبغي أن نهتمَّ بتشجيع الكفاءات والكوادر القرآنية، كما نشجّع الخطباء والرواديد.
وبحمد الله تعالى فقد بدأ مجتمعنا مسيرة الاهتمام بالشأن القرآني، حيث تأسست عدد من اللجان القرآنية، وأصبح عندنا عدد من القرّاء المجيدين لتلاوة القرآن، ومن الحافظين لكتاب الله تعالى، وعلينا أن ندعم هذا التوجه ونشجعه، لنكون كما أراد لنا أئمتنا الطاهرون صلوات الله وسلامه عليهم.