القرآن وتعزيز الصحة النفسية
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة يونس، الآية: 57].
في أكثر من آية في القرآن الكريم، يصف الله تعالى القرآن بأنه شفاء، يقول تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [سورة فصلت، الآية: 44]، ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الإسراء، الآية: 82]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة يونس، الآية: 57].
والشِّفاء: البُرء من المرض، وتفيد هذه الآيات أنّ القرآن يقدّم العلاج والدواء لما يصيب الإنسان من أمراض وأسقام.
وحينما يُذكر المرض والشفاء منه يتبادر إلى الذهن الأمراض الجسمية التي يتعرّض لها كلّ أبناء البشر، كما ورد عن الإمام علي : «لَيسَ للأجسامِ نَجاةٌ مِن الأسقامِ»[1] ، وهي أمراض مختلفة متنوعة، تهدّد حياة الإنسان، وتشلّ بعض أجهزة جسمه، وتسبّب له الأذى والصّعوبة والإرباك في عيشه.
فهل أنّ القرآن يقدّم للإنسان وصفات الشفاء والعلاج من هذه الأمراض الجسمية؟
هناك من يرى أنه يمكننا التماس الشفاء من القرآن لأمراض الجسم، وإذا كان ذلك بمعنى التبرك والتوسّل والاستشفاع إلى الله تعالى بآيات القرآن الكريم ضمن قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ فهذا أمر صحيح، لكنّه ليس بديلًا عن السّعي للعلاج بمراجعة الأطباء واستعمال الدواء.
إنّ التوسّل والدّعاء يرفع معنويات المريض ويزيد ثقته ويقوّي نفسه، فيعزّز المناعة الصحية، ويساعد على الاستجابة للبرنامج العلاجي. أما الاكتفاء بالتوسّل والدعاء فهذا ما لا يؤيّده الفهم الصحيح للنصوص الدينية، ولم تشرّعه سيرة النبي والأئمة .
التداوي ومراجعة الأطباء
ورد عن النبي : «يا أيُّـها الناسُ تَداوَوا، فإنّ اللّهَ تعالى لم يَخلُقْ داءً إلَّا خَلَقَ لَهُ شِفاءً، إلَّا السّامَ، والسّامُ المَوتُ»[2] .
ورد عن الإمام الصادق : «إِنَّ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَرِضَ فَقَالَ: لَا أَتَدَاوَى حَتَّى يَكُونَ الَّذِي أَمْرَضَنِي هُوَ الَّذِي يَشْفِينِي، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: لَا أَشْفِيكَ حَتَّى تَتَدَاوَى، فَإِنَّ الشِّفَاءَ مِنِّي»[3] .
ليست مهمّة القرآن الكريم تقديم الوصفات الطبية لأمراض الجسم، ولا معالجة أسقام البدن، فتلك مهمّة المتخصّصين في المجال الطبي، والخبراء في الشؤون الصّحية.
وكان الأنبياء والأئمة يأمرون الناس بالرجوع إلى الأطباء لعلاج أمراضهم، كما جاء في سيرتهم، فقد أمر بنقل سعد حينما جرح إلى خيمة رُفَيْدَة التي كانت أقامتها في مسجد النبي لمداواة الجرحى[4] .
وجاء عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، قَالَ: جُرِحَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: «ادْعُوا لَهُ الطَّبِيبَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يُغْنِي عَنْهُ الطَّبِيبُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً»[5] .
وعن جابر: إنَّ رَسولَ اللّهِ عادَ مَريضًا وأنَا مَعَهُ، فَقالَ: «ألا نَدعو لَكَ طَبيبًا؟»
قالَ: وأنتَ تَأمُرُ بِهذا يا رَسولَ اللِّهِ؟!
قالَ: «نَعَم، إنَّ اللّهَ لَم يُنزِل داءً إلّا وقَد أنزَلَ لَهُ دَواءً»[6] .
بل إنّ التاريخ ينقل لنا مشاهد من رجوع بعض الأئمة إلى الأطباء، فحين أصيب الإمام علي بضربة ابن ملجم (جُمِعَ لَهُ أطِبّاءُ الكوفَةِ)[7] ، وكان على رأسهم الطّبيب أثير بن عمرو السّكوني.
إنّ البعض تعامل مع القرآن الكريم وكأنه صيدلية لعلاج مختلف الأمراض، فلوجع الرأس اقرأ الآية الفلانية، ولآلام القلب اقرأ الآيات الفلانية، وحدّدوا آيات لإزالة وجع الأسنان، وألم العين وضعفها، ولزيادة البصر، ولإزالة البواسير، بل وحدّدوا بعض الآيات لتقوم مقام منبّه الساعة، تقرؤها عددًا من المرات لتستيقظ في الساعة التي تريد، وآيات للعثور على المسروقات وما أشبه، وألّفت لذلك كتب تتداول في بعض الأوساط.
الشفاء الذي يقدّمه القرآن
إنّ الآية الكريمة تحدّد منطقة ونوعية الأمراض التي جاء القرآن لشفائها، فتقول: ﴿وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ والمقصود بها داخل ذات الإنسان، وأعماق نفسه، فكما يصاب الجسم بالأمراض والأسقام، كذلك تصاب نفس الإنسان وروحه بمختلف العلل والآفات.
ولا تقل خطورة أمراض النفس والروح عن خطورة أمراض الجسم، بل هي أشدّ وأخطر ضررًا على الإنسان.
جاء عن أمير المؤمنين علي في خطبة له: «وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ وَالْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ... فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالْغَيُّ وَالضَّلَالُ »[8] .
القلق والاضطرابات النفسية
إنّ من أهمّ مناشئ الأمراض النفسية التي تصيب الإنسان، هو القلق، والوقوع تحت تأثير الضغوط النفسية، بسبب المشاكل التي تواجه الإنسان، والعوائق التي تمنعه من تحقيق رغباته وتطلّعاته.
وقد أطلق بعض الباحثين على هذا العصر: عصر الاضطرابات النفسية.
وذكر موقع أخبار الأمم المتحدة[9] في منشور له بتاريخ 17 حزيران 2022م أنه في العام الأول من جائحة كوفيد 19 ارتفعت معدّلات حالات القلق والاضطراب بأكثر من 25%.
وحسب تقارير المنظمات الصحية العالمية فإنّ في عام 2019، كان هناك 301 مليون شخص مصابون باضطراب القلق، وكان هناك 280 مليون شخص مصابون بالاكتئاب[10] .
وتبلغ نسبة الاضطراب النفسي في السعودية بشكل عام حوالي 34 في المئة في السعودية[11] ، وأن 2 من كل 5 من الشباب السعودي تم تشخيصهم باضطرابات الصحة النفسية خلال فترة من فترات حياتهم[12] .
والاكتئاب من الأمراض النفسية المنتشرة في السعودية، ونسبته حسب آخر إحصائية (2022م) هو 12.7. وأعلى نسبة للإصابة بالاكتئاب كانت بين المواطنين أصحاب الدخل الضّعيف. والنسبة الأعلى للإصابة بالقلق والاكتئاب بين الجنسين كانت من نصيب النساء[13] .
وما يزيد واقع الاضطراب النفسي سوءًا أنّ السواد الأكبر لا يخضع للعلاج وتقدّر نسبتهم بـ 80 في المئة[14] .
القرآن يبعث الاطمئنان في النفس
وآيات القرآن الكريم حيث تؤكّد على الإيمان بالله المدبّر للكون والحياة، الحكيم الذي لا يجري في الحياة شيءٍ إلّا بأمره وتدبيره وحكمته، وأنه رحيم بخلقه وعباده، هذه الآيات تزرع في نفس الإنسان الطمأنينة والرضا، وتساعده على تجاوز آثار الضغوط النفسية.
ويرى غوردن ألبورت في كتابه (الفرد ودينه): (أنّ لبَّ الصحة النفسية، وجزء كبير من الصحة الجسمية كذلك، كامن في طبيعة معتقدات الفرد، معتقداته الثانوية فيما يتعلّق بالمواقف الاجتماعية في عالمه الدنيوي، ومعتقداته الكبرى فيما يتعلّق بطبيعة الكون الذي يعيش فيه)[15] .
إنّ آيات القرآن الكريم ترسّخ في نفس الإنسان أنّ كلّ الأحداث تقع ضمن تدبير الله، وأنّ الأحداث لا تقع اعتباطًا بل هي غائية إما منحة أو محنة، وأنّ الحدث المؤلم وسيلة لتقويم الذات وفرصة لرقيها.
ويتحدّث الآن كثير من علماء النفس في الغرب عن دور الإيمان في إزالة القلق والضغوط النفسية، وما يبعثه التدين من أمن وطمأنينة، ومن صحة في النفوس والأبدان.
ويعتقد بعض الباحثين أنّ علاقة الدين بالضغوط النفسية تقوم على ثلاث نقاط رئيسة: البحث عن المعنى، والسيطرة على الحدث، وتقدير الذات، وهم يرون أنّ ضعف هذه النقاط هو السبب الرئيس للضغوط النفسية. وفي الوقت نفسه يرون أنّ الدين ينمِّي هذه النقاط الثلاث، فهو يعطي معنًى للأحداث، ويوفّر نوعًا من السّيطرة عليها، ويرفع من تقدير الإنسان لذاته[16] .
التوكل الإيجابي
إنّ قوله تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [سورة التوبة، الآية: 51]، يمنح الإنسان عميق الرضا والطمأنينة والتكيف مع أشدّ الأحداث والنكبات.
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿١٥٥﴾ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [سورة البقرة، الآيات: 155-156].
يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [سورة الرعد، الآية: 28].
إنّ على من يقرأ القرآن الكريم، أن يفتح نوافذ قلبه لأشعة الأمل والثقة والتفاؤل، التي تبعثها آياته الصادقة، ليزداد إيمانًا بربه وتوكّلًا عليه، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [سورة الأنفال، الآية: 2].
إنّ التوكل يعني أن يبذل الإنسان كلّ جهده وطاقته لدرء الخطر عن نفسه، ولتحقيق تطلّعاته، بهمّة وثقة عالية، ولا يعني التواكل والقعود عن الحركة والتقصير في السّعي.
عن أنس بن مالك قال: (قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ، قَالَ: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ»)[17] .