المسافة الآمنة في العلاقات الاجتماعية
ورد عن أمير المؤمنين علي : «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا»[1] .
من أخطر التحديات والامتحانات التي يواجهها الانسان في الحياة، امتحان العلاقة مع الآخرين في محيطه الاجتماعي، فحين تكون علاقته جيّدة مع من حوله، يكون أقرب إلى الرضا عن نفسه، والنجاح والسعادة في حياته.
وحين تتعثر علاقاته مع الآخرين، ينعكس ذلك سلبًا على استقراره النفسي، وتتعقد حياته، ويكون أقرب إلى التعاسة والشقاء.
ونريد تسليط الضوء على زاوية مهمّة في هذا المجال نطلق عليها مصطلح المسافة الآمنة، ونقصد بها: أن يحدّد الإنسان المستوى والدرجة المناسبة في علاقته مع كلّ أحد.
ويستخدم هذا المصطلح (المسافة الآمنة) ضمن قواعد السلامة المرورية، بأن يترك قائد المركبة (السيارة) في حال السير مسافة بينه وبين السيارة التي تسير أمامه، تتراوح بين 5 و10 أمتار، وتزداد المسافة المطلوبة مع ازدياد السرعة، وذلك لتجنب الحوادث عند الوقوف المفاجئ، والانحراف المباغت.
وأكثر الحوادث تحصل في مثل هذه الحالة، مع عدم ترك مسافة آمنة، ففي العام الماضي، بلغ عدد الحوادث في المملكة، بسبب الانحراف المباغت 474.604، وبسبب إهمال ترك المسافة الآمنة 459.124.
ويبدو أنّ نسبة كبيرة من المشاكل في العلاقات الاجتماعية، سببها إهمال المسافة الآمنة في العلاقة بين الناس.
فهناك اختلاف في الآراء، وتضارب في المصالح، وتباين في الأمزجة والطباع، كما يحصل للإنسان تحولات وتغيّرات في عواطفه ومشاعره، والمسافة الآمنة تساعد على مواجهة ارتدادات أيّ تحول أو تغيير في سير العلاقة، وتقلل الخسائر والأضرار.
وفي الحديث عن حدود هذه المسافة الآمنة نذكر المعالم التالية:
أولًا: رعاية الحقوق
إنّ العلاقة السليمة تقوم على الاحترام المتبادل للحقوق، فإذا ما تجاوزت على حقوق من ترتبط معه بعلاقة أيًّا كان، أو ولدًا، أو زوجًا، أو أخًا، أو صديقًا أو زميلًا، فقد يحصل بينك وبينه تصادم ونزاع واختلاف.
إنّ القرآن الكريم في حديثه عن الحقوق والالتزامات بين الزوجين يقول تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية:229]
وفي العلاقة بين الوالد والأولاد، ورد في إحدى وصايا النبي للإمام علي : «يَا عَلِيُّ، لَعَنَ اَللَّهُ وَالِدَيْنِ حَمَلاَ وَلَدَهُمَا عَلَى عُقُوقِهِمَا، يَا عَلِيُّ يَلْزَمُ اَلْوَالِدَيْنِ مِنْ عُقُوقِ وَلَدِهِمَا مَا يَلْزَمُ اَلْوَلَدَ لَهُمَا مِنْ عُقُوقِهِمَا»[2] .
وورد عن أمير المؤمنين علي : «لا تُضَيِّعَنَّ حَقَّ أخيكَ اتِّكالًا عَلى ما بَينَكَ وبَينَهُ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ لَكَ بِأَخٍ مَن أضَعتَ حَقَّهُ»[3] .
وفي طليعة تلك الحقوق حقّ الاحترام وعدم الإهانة والإيذاء.
إنّ البعض في علاقاته العائلية، أو مع أصدقائه، أو العاملين تحت إدارته، يتصور أنّ له عليهم (ميانة) ونفوذًا، يخوّله التصرف معهم بحرية متجاوزًا بعض حقوقهم المادية أو المعنوية، وقد يتحمّلون منه ذلك أحيانًا، لكنّ تراكمات وتكرار هذا التجاوز قد يفجّر العلاقة في أيّ لحظة من اللحظات.
ثانيًا: احترام الخصوصيات والأسرار
على الإنسان أن يحافظ على خصوصيته وأسراره، في علاقاته مع الآخرين، حتى القريبين منه، كما أنّ عليه أن يحترم خصوصية الآخرين وأسرارهم.
إنّ البعض حينما يرتبط بأحد أو يصادقه، يمارس حالة الفضفضة أمامه، فيتحدث عن نقاط ضعفه الخاصة، أو عن شؤونه العائلية، أو قضايا عمله مما لا شأن للطرف الآخر به، وقد يقوده فضوله لتتبع أخبار الطرف الآخر وأسراره، وذلك ما يؤدي إلى أخطاء وارتدادات ضارة.
ورد عن أمير المؤمنين علي : «اِنْفَرِدْ بِسِرِّكَ وَلاَ تُودِعْهُ حَازِمًا فَيَزِلَّ وَلاَ جَاهِلًا فَيَخُونَ»[4] .
إنّ من تكشف له سرّك حتى وإن كان متزنًا صالحًا، قد يحصل منه الخطأ والزلل، فيكشف سرّك للآخرين، أو يستغلّ معرفته بالسرّ فيما يضرّك بقصد أو بغير قصد.
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «لا تَطَّلِعْ صَديقَكَ مِنْ سِرّكَ الّا ما لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ عَدُوُّكَ لَم يَضُرُّكَ، فَإنَّ الصَّديقَ قَدْ يَكونُ عَدُوّكَ يَوْمًا مّا»[5] .
فأنت لا تضمن استمرار المودة والعلاقة معه، فقد يحصل بينكما خلاف فيصبح عدوًّا لك، ويحدث مثل ذلك في العلاقات الزوجية، فقد يحصل الاختلاف أو الطلاق والانفصال، وعادة ما يستخدم كلا الطرفين أسرار الطرف الآخر ورقة في الصراع والخلاف.
وعنه: «سِرُّكَ مِنْ دَمِكَ فَلا يَجْرِيَنَّ مِن غَير أوداجِكَ»[6] .
ثالثًا: الاعتدال والتوازن
وهو مطلوب من الإنسان في كلّ المجالات، فلا إفراط ولا تفريط، وفي مجال العلاقة مع الآخرين على الإنسان أن يحرص على التوازن والاعتدال، فلا يكون حبّه لآخر وعلاقته به دافعًا لذوبانه فيه، وفقدانه لاستقلاله، أو تجاوز القيم والمبادئ من أجله، ولا أن يكون على حساب حقوق الآخرين.
فحتى حب الإنسان وبره لوالديه، لا ينبغي أن يكون على حساب حقوق زوجته، فنفقتها مثلًا ألزم عليه من نفقتهما شرعًا.
وكذلك في مجال الخلاف وسوء التفاهم، على الإنسان أن يترك خط رجعة، ولا يبالغ في الخصومة، ولا يقطع العلاقة ما أمكن.
ورد عن أمير المؤمنين علي : «لاَ يَكُنْ حُبُّكَ كَلَفًا، وَلاَ بُغْضُكَ تَلَفًا، أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا»[7] .
وفي مجال الثقة والاطمئنان بمن تربطك به علاقة رحم أو صداقة، لا ينبغي أن تكون سببًا للتساهل في توثيق الحقوق، اعتمادًا على حسن العلاقة والثقة.
ورد عن الإمام علي «اُبْذُلْ لِصَدِيقِكَ كُلَّ اَلْمَوَدَّةِ وَلاَ تَبْذُلْ لَهُ كُلَّ اَلطُّمَأْنِينَةِ»[8] .
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «لا تَثِق بِأَخيكَ كُلَّ الثِّقَةِ؛ فَإِنَّ صِرعَةَ الاِستِرسالِ لَن تُستَقالَ»[9] .
فقد تحصل شراكة مالية بين صديقين في مشروع، ولا يوقعان اتفاقًا واضحًا بينهما، اعتمادًا على علاقاتهما الوثيقة، وفيما بعد قد يقع اختلاف ما بينهما، فيتنكر أحدهما لشيءٍ من حقوق الآخر.
ومثل ذلك قد يقع بين الزوجين، حيث تبذل الزوجة من مالها لزوجها على سبيل الشراكة، أو القرض لبناء المنزل مثلًا، أو لإقامة مشروع استثماري، وحين لا يكون هناك توثيق اعتمادًا على الثقة والاطمئنان في العلاقة الزوجية، هنا قد يضيع حقّها، خاصة في حالة الخلاف والانفصال.
إنّ أطول آية في القرآن الكريم تغطي صفحة كاملة أو تزيد في المصحف الشريف، مخصصة لموضوع توثيق الديون والحقوق، وهي الآية 282 من سورة البقرة.
يقول تعالى في بدايتها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾.
وفي إحدى فقراتها يقول تعالى: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا﴾
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «مَنْ ذَهَبَ حَقُّهُ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ لَمْ يُؤْجَرْ»[10] .
ومما نقل في هذا الشأن تعاشروا كالإخوان، وتعاملوا كالأجانب[11] .
توقعاتك من الآخرين
وينبغي الاعتدال في توقعاتك من الآخرين، وتفهّم ظروفهم.
ما يطلبه الزوج من زوجه، والصديق من أصدقائه، والوالدان من أبنائهما، ينبغي أن يكون ضمن دائرة الممكن، ويراعي فيه ظرف الطرف الآخر وأوضاعه، فلا يكون تحقيق ما تطلبه على حساب ظروف الآخرين وأحاسيسهم ومشاعرهم، فهذا ليس إنصافًا، وسيؤدي إلى تعقّد العلاقات معهم، كما يمكن أن يصيب الإنسان بعقدة نفسية؛ لأنه لم يتحقّق له ما أراد، لهذا ورد عن أمير المؤمنين علي : «إذا أرَدتَ أن تُطاعَ فَاسألْ ما يُستَطاعُ»[12] .
على الإنسان أن يخفض سقف توقعاته من الآخرين، ولا يلقي بعبئه على غيره، حتى ولو كانوا قريبين منه، ورد في الحديث عن رسول الله في وصفه للمؤمن «قَليلُ المَؤونَةِ، كَثيرُ المَعونَةِ»[13] .
البعض يتصور أنّ هذا الحديث يطبّق مع الآخرين البعيدين فقط!
إنّ مفاد الحديث يجري في تعامل الإنسان حتى مع الزوجة والأولاد، وكذلك الزوجة مع زوجها، ينبغي أن تكون قليلة المؤونة.
على الإنسان أن يلتمس الأعذار للآخرين حينما لا يستجيبون لطلباته وتوقعاته، ورد عن الإمام علي : «اِقْبَلْ أَعْذارَ النّاسِ تَسْتَمْتِعْ بِإِخائِهِمْ»[14] .
وحتى في مجال التقدير والإكرام للطرف الآخر ينبغي الاعتدال، فقد ورد عن الإمام الحسن العسكري : «لاَ تُكْرِمِ اَلرَّجُلَ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ»[15] .
فالبعض من الناس مثلًا قد يصرّ على استضافة من يحترمه تقديرًا له، لكن ذلك يكون فيه مشقة وكلفة لا تناسب وضعه وظروفه، فإذا اعتذر إليه ينزعج، وهذا خطأ ينافي الاعتدال في العلاقة.