المنبر الديني بين المعرفة والموعظة
يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. [سورة الزمر، الآية: 18].
للمنبر الديني وظيفتان رئيستان:
الوظيفة الأولى: المعرفة
وهي تعني تبيين المعارف الدينية، من عقائد ومفاهيم وأحكام، وعرض الأدلة والبراهين عليها بما يناسب مستويات المستمعين، ومناقشة الإشكالات والتساؤلات التي تدور حولها. خاصة في ظروف الصراعات الفكرية مع الأديان والمذاهب والتوجهات الأخرى، لتثبيت الإيمان في نفوس جمهور المستمعين، وتحصينهم من تأثير التيارات المخالفة.
خطاب للجمهور
وهنا لا بُدّ من التأكيد على أنّ طبيعة المنبر الديني التوجه لمخاطبة الجمهور، فخطابه ليس خطابًا نخبويًّا كخطاب الأكاديميين والمتخصّصين في العلوم المختلفة.
قد يتوجه بعض الخطباء المقتدرين علميًّا لإنتاج خطاب ديني معرفي نخبوي، إذا كان أغلبية مستمعيهم من هذه الشريحة، أما الحالة العامة للمنبر الديني فهو خطاب للجمهور بمستوياته المختلفة.
لكنّ الطبيعة الشعبية للمنبر الديني لا تعني أن تكون الطروحات سطحية، وغير مواكبة لتطور مستوى التعليم والوعي عند أبناء المجتمع.
وقد يتوقع البعض من المنبر الديني عرض نظريات العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية الحديثة، وقد يندفع لذلك بعض الخطباء استجابة لهذه التوقعات، لكن ذلك ينبغي أن يكون بحدود الاستشهاد بها في عرض المقولات الدينية، لا تناولها بتفصيل يخرج المنبر عن وظيفته الأساس، ويحصل في بعض الحالات أن يجد الخطيب نفسه متورطًا في عرض نظرية لم يستوعبها لأنّها خارج اختصاصه.
الارتقاء بلغة المنبر
يجب الارتقاء بلغة المنبر الديني، وأسلوب عرضه للقضايا الدينية بما يتناسب مع المستوى العام للفكر والثقافة في هذا العصر، إنّ بعض الخطباء حين يعرض المعتقدات والمفاهيم والأحكام، يعرضها بلغة عصر سابق. مع وجود تحدّيات فكرية عقدية جديدة، تختلف عمّا كانت تواجهه الأجيال في العصور الماضية، هناك الآن علم كلام جديد، وفكر إسلامي حديث، وتجديد في الأبحاث الفقهية.
الوظيفة الثانية: الموعظة
ويقصد بالموعظة: إيقاظ الضمير، وإحياء الوجدان، وإثارة العواطف الخيّرة في نفس الإنسان.
هنا ليس المسألة تقديم معرفة أو تبيين معلومة والبرهنة على صحتها في دائرة النشاط العقلي، بل التوجه بالخطاب إلى أعماق النفس، لتحريك المشاعر والأحاسيس، وتعزيز المناعة الروحية النفسية، وتحصين سلوك الإنسان من الوقوع في الانحراف والمعصية والخطأ.
وهذا ما يحتاجه الإنسان لتحقيق الصلاح في مسيرة حياته، وليس المعرفة والعلم فقط، فمعظم أخطاء الإنسان لا تأتي من عدم معرفته، بل من سيطرة الأهواء والشهوات على نفسه. خاصة في هذا العصر الذي تسود فيه روح الأنانية، وتحريض الرغبات والشهوات.
الموعظة المؤثرة الجاذبة
يركز القرآن الكريم على هدف التزكية، وأهمية الموعظة.
يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾. [سورة الجمعة، الآية: 2].
ويقول تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾. [سورة الشمس، الآيتان: 9-10].
ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾. [سورة يونس، الآية: 57].
وورد عن الإمام علي بن أبي طالب : «أَحْييِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ»[1] .
وعنه : «بِالْمَوَاعِظِ تَنْجَلِي اَلْغَفْلَةُ»[2] .
وإثارة العاطفة الدينية جزء من خطاب الموعظة؛ لأنه يشدّ الإنسان إلى القدوة الصالحة، ويوثق ارتباطه بها، ويدفع لاتباعها والتأسي بها.
إنّ بعض المثقفين قد ينتقدون الخطاب الوعظي، ويرون أنّ الخطاب يجب أن يكون في البعد المعرفي فقط، لكن هذا لا يتناسب مع استهدافات المنبر الديني المعني بالتأكيد على التزكية والتربية الروحية والأخلاقية، ومعالجة المشاكل الأسرية والاجتماعية.
والموعظة ينبغي أن تكون جاذبة مقنعة ومتناسبة مع لغة العصر.
إنّ بعض الخطباء قد يستعينون في وعظهم وإثارتهم للعواطف الولائية، بروايات موضوعة أو ضعيفة السند، أو بقصص أسطورية غير واقعية، أو بأحداث تاريخية غير ثابتة، أو غير مقبولة عقلًا أو ذوقًا، مما يعطي للمنبر الديني سمعة غير حسنة، ويشكّل مادة للاستغلال من قبل الجهات المخالفة للدين.
ثغرة في التراث الديني
ومن المؤسف وجود بعض الرواة والمحدثين والوعاظ في تراثنا الديني، الذين سوغوا لأنفسهم الوضع والكذب والاختلاق، بمبرر تشجيع الناس على أعمال الخير، وتنفيرهم من الشر، وزيادة حبّهم للأنبياء والأئمة.
وقد أشار الشيخ النوري (ت: 1320هـ) في كتابه (اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر) إلى أنّ هناك من يتوسّل بالأخبار الكاذبة لإبكاء الناس على مصائب أهل البيت .
وقال ابن الصلاح وهو من علماء الحديث (ت: 643هـ): (والواضِعُونَ للحديث أصناف، وأعظمهم ضررًا قوم من المنسوبين للزّهد وضعوا الحديث احتسابًا فيما زعموا، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركنوا إليهم)[3] .
وقد تبنّى مقولته مع تغيير طفيف الشيخ حسين بن عبدالصمد العاملي والد الشيخ البهائي[4] .
وروي عن عبدالله بن المسوّر أنه: (كان يضع الحديث على رسول الله ، وَلا يضع إلّا ما فيه أدب، أو زهد، فيقال له في ذلك، فيقول: إنّ فيه أجرًا)[5] .
الرهان على وعي المستمع
وهنا يأتي دور الوعي عند المستمع، بأن يقصد المنابر الأكثر فائدة.
ورد عن أمير المؤمنين علي : «عَوِّدْ أُذُنَكَ حُسْنَ اَلاِسْتِمَاعِ وَلاَ تَصْغِ إِلَّا إِلَى مَا يَزِيدُ فِي صَلاَحِكَ اِسْتِمَاعُهُ»[6] .
إنّ البرنامج الأبرز والأهم في مناسبة عاشوراء العظيمة هو المجالس الحسينية، التي يفترض أنّها مدارس لبثّ معارف الدين، ونشر علوم أهل البيت ، وتبيين سيرتهم ومواقفهم، وهي محطة للتعبئة الروحية والتوجيه التربوي والأخلاقي.
إنّ حضور هذه المجالس هو المظهر الأساس للمشاركة في إحياء عاشوراء. حيث يستمع الإنسان للخطب والمحاضرات.
وهنا يجب أن نؤكد على أهمية استهداف الاستفادة من الاستماع في هذه المجالس معرفة وموعظة، فليست المسألة تقضية وقت فراغ، ولا الحضور للمجاملة لأصحاب المجلس، أو للحصول على الضيافة ووجبات الطعام، وإنّما للاستفادة والتفاعل مع ما يطرح من فكر وتوجيه.
والاستفادة من الاستماع في المجالس الحسينية في المجال الفكري والثقافي، بالاطلاع على المعارف المفيدة في شؤون الدين والحياة.
والمجال الروحي والأخلاقي، بالالتفات لتزكية النفس، وتهذيب الروح، وتقويم الأخلاق والسلوك.
وعلى المستمع أن يختار الخطاب الذي يفيده أكثر في كلا المجالين، وأن يحرص على فهم واستيعاب ما يسمع، وأن يفكر فيما يسمع، فلا يكون متلقيًا مستسلمًا دون تفكير وتأمل.
يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. [سورة الزمر، الآية: 18].
وورد عن أمير المؤمنين علي : «كُنْ مُسْتَمِعًا وَاعِيًا»[7] .
وعنه : «رَحِمَ اَللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ حُكْمًا فَوَعَى، وَدُعِيَ إِلَى اَلرَّشَادِ فَدَنَا»[8] .