تنمية المشاعر الإيجابية

 

يقول تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيء حَسِيباً. [سورة النساء، الآية: 86]

تتأثر العلاقات بين بني البشر، بطبيعة المشاعر والانطباعات المتشكلة في نفوسهم تجاه بعضهم بعضًا.

فالمشاعر الإيجابية تهيّئ للعلاقة الطيبة، بينما المشاعر السلبية تعرقل بناء العلاقة السليمة.

ولأنّ رسالة الدين إقامة القسط والسلم بين الناس، فإنّ تعاليمه تؤكد على تنمية المشاعر الإيجابية في النفوس، ليتأسّس عليها قيام العلاقات الطيبة.

التحية رسالة احترام

ومن أبرز عناوين تلك التعاليم إلقاء التحية على الآخر عند أيّ لقاء به، ولا ينبغي للإنسان أن يلتقي بأحد أبناء جنسه دون أن يلقي عليه التحية، التي تعني إبداء مشاعر الاحترام له.

والتحية مشتقة من الحياة، وحيّيى أصله في اللغة دعا له بالحياة، ولعلّه من قبيل حيّاك الله، أي وهب لك طول الحياة.

والتحية المسنونة في الإسلام هي (سلام عليكم) أو (السلام عليكم) ومعناها: سلام من الله عليكم، كما يستوحى من قوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً. [سورة النور، الآية: 61] أي ليهبك الله السلام والأمن.

ورد عن الإمام محمد الباقر : «إِذَا دَخَلَ اَلرَّجُلُ مِنْكُمْ بَيْتَهُ فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ»[1] .

إنّ عدم إلقاء التحية على الغير يعني التجاهل له، وتعتبره بعض النصوص الدينية أشدّ درجات البخل، حيث ورد عن النبي محمد : «أَبْخَلُ اَلنَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلاَمِ»[2] .

وعنه : «مَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ فَهُوَ أَوْلَى بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ»[3] .

وكان رسول الله يسلّم على الصبيان، فقيل له في ذلك فقال: «خَمْسٌ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى اَلْمَمَاتِ... وَاَلتَّسْلِيمُ عَلَى اَلصِّبْيَانِ لِتَكُونَ سُنَّةً مِنْ بَعْدِي»[4] .

وعن الإمام جعفر الصادق : «ابْدَؤُوا بِالسَّلَامِ قَبْلَ الْكَلَامِ»[5] .

والالتزام بمبدأ السلام قبل الكلام مفيد جدًّا، فقد يأتي الإنسان غاضبًا مندفعًا للحديث بعنف ضدّ الطرف الآخر، فإذا ما بدأ بالسلام، وتلقّى إجابة تحيّته، فقد يحصل امتصاص وانخفاض لثورته الغضبية.

استقبال التحية وإجابتها

وإذا كان إلقاء التحية والسلام أمرًا مفضّلًا مرغوبًا، فإنّ ردّ التحية وإجابة السلام واجب شرعًا، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيء حَسِيباً. [سورة النساء، الآية: 86]

ورد عن النبي : «اَلسَّلاَمُ تَطَوُّعٌ، وَاَلرَّدُّ فَرِيضَةٌ»[6] .

وقد أفتى الفقهاء بوجوب ردّ السلام حتى في صلاة الفريضة، بمثل ما سلّم عليه في التعريف والتنكير والجمع والإفراد. وإن كان المسلّم صبيًّا مميّزًا، أو امرأة أجنبية. ويجب إسماع ردّ السلام في حال الصلاة وغيرها، ولو كان أصمّ، فبالإشارة ونحوها. وإذا لم يرد ومضى في صلاته صحت وكان مأثومًا.

وإذا كانت التحيّة بغير السلام، مثل: (صبّحك الله بالخير) لم يجب الردّ وإن كان أحوط وأولى، وإذا أراد الردّ في الصلاة فالأحوط وجوبًا الردّ بقصد الدعاء على نحو يكون المخاطب به الله تعالى، مثل: (اللّهم صبّحه بالخير)[7] .

ويُكره السلام على المصلّي. وإذا سلّم واحد على جماعة كفى ردّ واحد منهم[8] .

ويشير قوله تعالى في آخر الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيء حَسِيباً إلى أن تعامل الإنسان مع المبادرات الإيجابية مورد اهتمام من قبل الله تعالى، وأنّ الله يحاسب الإنسان عليه، كما يحاسبه على كلّ تصرّف ينطبق عليه حكم شرعي.

إنّ على الإنسان أن يستقبل المبادرة الإيجابية بمثلها بل بأحسن منها، وجواب التحية هو مصداق ونموذج لهذا المبدأ العام.

ورد عن الإمامين الباقر والصادق : أَنَّ اَلْمُرَادَ بِالتَّحِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ اَلسَّلاَمُ وَغَيْرُهُ مِنَ اَلْبِرِّ»[9] .

قال أنس: حَيَّتْ جَارِيَةٌ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بِطَاقَةِ رَيْحَانٍ، فَقَالَ لَهَا: «أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ»، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «أَدَّبَنَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ‌ ﴿إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها. الْآيَةَ وَكَانَ أَحْسَنَ مِنْهَا إِعْتَاقُهَا»[10] .

التقاط المبادرة الإيجابية

هكذا يربّي الإسلام تنمية المشاعر الإيجابية، وأن يلتقط الإنسان أيّ مبادرة طيبة من الآخر بالاستجابة لها.

ونحتاج إلى تكريس هذا الخلق في تعاملنا داخل العائلة، ومع الزملاء والرفقاء.

حتى لو كانت هناك حالة سلبية أو سوء تفاهم، فإنّ المبادرة الإيجابية تمنح الفرصة لتجاوز المشكلة.

هناك من يتمتعون بالذكاء الاجتماعي، فيغتنمون أيّ فرصة لبناء علاقة إيجابية مع الآخرين. فينمّون المشاعر الطيبة داخل نفوسهم، وفي نفوس الآخرين. من خلال مصاحبة في سفر، أو زمالة في دراسة أو عمل، أو حتى مجرّد لقاء عابر.

وهناك من يتعاملون بجفاف، فلا يبادرون تجاه الآخر، وإذا بادرهم تعاملوا معه ببرود. ويفوّت هؤلاء خير كثير في دنياهم وآخرتهم.

 

خطبة الجمعة 1 صفر 1445هـ الموافق 18أغسطس 2023م.

[1]  بحار الأنوار، ج73، ص3.
[2]  وسائل الشيعة، ج7، ص61.
[3]  سنن أبي داود، ح5197.
[4]  عيون أخبار الرضا، ج2، ص81.
[5]  الكافي، ج2، ص644، ح2.
[6]  نفس المصدر، ج2، ص644، ح1.
[7]  السيد علي السيستاني: منهاج الصالحين، مسألة: 681.
[8]  نفس المصدر، مسألة: 682 - 683.
[9]  تفسير عليّ بن إبراهيم، ج1، ص145.
[10]  مناقب ابن شهراشوب، ج4، ص18.