الشيخ الصفار وعبور الحقول
تحوُّل جديد بدأ يشقُّ مجراه في تكريم الشخصيات التي لا تتوانى في الخدمة المجتمعية في حقوله المتعدِّدة، تكريم أثناء تواجدها في دنيا الحياة، بعد أن كانت ولا تزال مناسبات التكريم تقام في حفلات التأبين للمكرم المتواجد في قبره تحت الثرى! صحيح أن التكريم حالة رمزية تستهدف كذلك تكريس القيم الجميلة، والمآثر والأمجاد في المجتمع، وتمثّل توثيقًا لإرث ومآثر الشخصيات العظيمة، كخطوة في طريق تطوُّر وتكامل الإنسان، لكن الإنسان بطبيعته يحتاج إلى التشجيع والمؤازرة والتأييد، ولذلك جاء الحديث الشريف عن رسول اللَّه ﷺ: ”أفضل الناس عند اللَّه منزلةً وأقربهم من اللَّه وسيلةً، المُحسن يكفِّر إحسانه“[1] . وفي هذا الإطار يقول الإمام أمير المؤمنين : ”إنَّ مكرمة صنعتها إلى أحد من الناس، إنما أكرمتَ بها نفسك، وزيَّنتَ بها عِرضَك، فلا تطلب من غيرك شكر ما صنعت إلى نفسك“[2] .
وعن الإمام علي زين العابدين قال: ”يقول اللَّه تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلاناً؟ فيقول: بل شكرتُك يا رب، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره“. وفي ذلك يقول الإمام علي الرضا : ”من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر اللَّه عزَّ وجلَّ“[3] .
ويُعلِّمنا الإمام زين العابدين كيف نشكر ذا المعروف علينا، فيقول: ”أما حقُّ ذي المعروف عليك فأن تشكره وتذكر معروفه، وتُكسبه المقالة الحسنة، وتُخلص له الدعاء فيما بينك وبين اللَّه عزّ وجلَّ، فإذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرّاً وعلانيةً، ثم إن قدرت على مكافأته يوماً كافيته“ [4] . ويقول : ”أَشْكَركم للَّه أَشْكَركم للناس“[5] .
ولذلك نُثمِّن هذه الجهود في استقطاب الكتَّاب والمفكّرين، لاحتفالية تكريم سماحة العلَّامة الجليل الشيخ حسن الصفار حفظه اللَّه وأطال في عمره الشريف، فإن ذلك تكريم للعلم وللعلماء الذين أجادوا في عطائهم للأمة الإسلام، وأثروا تراثها الأدبي والعلمي والاجتماعي والتربوي والإعلامي، وشقُّوا طريق الحوار البنَّاء بين الاتجاهات الإنسانية المتنوِّعة، وعبر منصات الخطابة والكتابة والحوار المباشر والتعايش السلمي بين الأطراف المختلفة فكرًا ومنهجًا.
ويشرفني بشخصي المتواضع أن أساهم بهذه البضاعة المزجاة، شاكرًا لهم هذه الفرصة الطيبة.
* * * *
نحن في الكويت، عرفنا الشيخ الصفار - حفظه اللَّه تعالى - من أيام السبعينات عندما كان فتى صغيرًا، حتى سُمِّي في الأوساط الشعبية بـ ”الملا الصغير“ لتعجُّب الناس من قدرته وتمكُّنه من قراءة المجلس من على المنبر الحسيني باقتدار، وقد أبهر الجمهور بخطابه المفوَّه، وأسلوبه المُشوِّق وبنعيه الحسيني المثير للبكاء على سيد الشهداء الإمام الحسين ، وكان حدثاً جديداً ومبهراً، وقد تبنَّاه باهتمام مجموعة من الوجهاء ”أذكر منهم المرحوم الحاج محمد السلمان الصايغ“ الذين كان تحت رعايتهم وإدارتهم في تنظيم وترتيب حجز مواعيد القراءة بين مجموعات من الحسينيات التي تنافست بينها للاستحواذ لقراءة الملا الصغير من على منبرها الحسيني. ولم يكن في وقتها يلبس العمامة، بل يكتفي بغترة بيضاء بدون ”عقال“ مع عباءة البشت يلفُّ بها نفسه محاكاة للخطباء الحسينيين.
* * * *
تتميَّز أطروحات سماحة شيخنا الصفار بالواقعية، فهو لا يُحلِّق في أجواء النظريات، ولا ينظر في عالم المثاليات، وإنما أطروحاته تنطلق من الهدي الإلهي المتمثّل في كتاب اللَّه ”القرآن الكريم“، وسُنَّة رسوله وآله الأطهار، ليُسقطها على أرض الواقع بلا تكلُّف، حيث معاناة الناس اليومية، وما يواجهه المثقّفون والتربويون من تحدِّيات، ويتجاوب مع ما يلمُّ الشمل الوطني، وضرورة التعايش بين مكوّنات المجتمع، فالاختلاف بينهم يُفسِّره بإيجابية كتنوُّع إنساني، وتعدُّد يحتضنه الدين، ويستوعبه الوطن. ولذلك أطروحاته وإن انطلقت من وطنه في المملكة العربية السعودية، لكن صداها يتَّسع إلى العالمية؛ لأنها تخاطب الإنسان أينما كان، وأيّاً كان فكره. مثلما يخاطب الإسلام الإنسانية أينما وجدت وكيفما كانت.
هكذا سماحة الشيخ حسن الصفار، سواء في كلمات خطبه الشيِّقة من محراب المسجد أو منبر الحسينية، أو محاضرة ودرس، أو من خلال كتاباته لمؤلَّفاته الكثيرة والتي زادت عن 60 عنوانًا، يخاطب الجميع بلغة سهلة مفهومة بعيدًا عن تعقيدات التشدُّق والمصطلحات النادرة!
* * * *
لم يكتفِ سماحة الشيخ الصفار بالبعد الثقافي والتوعوي من خلال الأقوال والكتابة، وإنما مارس ذلك من خلال علاقاته الوطيدة مع مختلف الناس بتنوُّع مذاهبهم الدينية واتّجاهاتهم الاجتماعية.
فقد دعيت بدعوة كريمة من سماحته في إحدى السنوات إلى منتدى اجتماعي ثقافي في القطيف، وفوجئت بحضور جمع متنوُّع من الشخصيات الثقافية والدينية، تُمثِّل النسيج السعودي، وهم في حوار وُدِّي جميل، وقد تحدَّثت في هذا الجمع الطيب، وعبَّرت عن إعجابي بهذا التنوُّع ممَّا كنا ولا نزال نطمح إليه في بلادنا دولة الكويت، من الجمع بين الأطياف الدينية المختلفة، ونحن بلد الديمقراطية.
أعتقد للشيخ الصفار لديه كاريزما خاصة، وهبها اللَّه تعالى له، استطاع من خلالها الدخول إلى قلوب هؤلاء الناس واستمالهم إلى حوار وطني يعضد حوار الأديان والتي سبق أن دعت إليه المملكة العربية السعودية.
ولذلك كان خطابه يتَّسم بالدعوة إلى التعايش الاجتماعي، وإلى التفاهم الوطني بين مختلف الأطراف.
وهذا العمل المبارك لم يحصره فقط في بلاده، فقد تعدَّاه إلى بلاد المسلمين في العالم، فلذلك فهو محل لدعوات محبيه في كل مكان ليشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ويتفاعل مع منتدياتهم الثقافية.
فقد وجدته مُطَّلعًا على الأوضاع الاجتماعية والثقافية في الكويت، ويساهم كلما أمكن في معالجة المعضلات التي تمسُّ جسد إخوانه المؤمنين. وهو يتابع الإصدارات والمؤلفات للكتَّاب، ولقد تشرَّفت بمتابعته وإطرائه لبعض مؤلفاتي المتواضعة، وهي شهادات تشجيعية نعتز بها.
وهكذا كان مواكبًا لمشروع ”الوقف الجعفري“ الكويتي منذ بداية المشاورات الشعبية لبلورة المشروع وفقًا لأحكام الفقه الجعفري، وبالتشاور مع بعض العلماء، ثم موافقة الحكومة الكويتية عام 2003 م، وقد كان سماحة الشيخ حسن الصفار ضيفًا عدَّة مرات في الملتقى الوقفي الجعفري الذي ينعقد مرة كل سنتين، ومن ذلك الملتقى الأول عام 1426 هـ / 2005 م.
وقد شارك بورقة علمية وواقعية مميَّزة، نالت الاهتمام والإعجاب، تحت عنوان: ”الأوقاف.. وتطوير الاستفادة منها“.
كما أنه يحلُّ ضيفًا عزيزًا مرتقيًا مجدَّدًا المنابر الحسينية في بلدنا الكويت، ومن ذلك تلبية دعوات الحسينية الكاظمية ”البكاي“، خلال موسم صفر ليلقي محاضراته الشيِّقة على جمهوره العريض، مستثمرًا وجوده للالتقاء بإخوانه العلماء والمثقّفين والوجهاء، وتبادل الآراء بما يفيد البلاد والعباد.
وهكذا كان ديدنه تشجيع المبادرات والإنجازات التي تصبُّ في الارتقاء في العلاقات الاجتماعية والعلمية، وغالبًا يستجيب مشكورًا للمشاركة بآرائه الحصيفة التي تدعم مصلحة الإسلام والمسلمين أينما كانوا، وكلما كانت الظروف مؤاتية.
* * * *
هذه المجهودات الطيبة والأنشطة الفعَّالة لم يجعلها سماحة الشيخ الصفار حبيسة شخصه الكريم، كتجارب حياتية، ربما تنقضي مع الأيام، إلَّا ما تسعفه ذاكرة وتفاعل الأفراد، وهي على وجاهتها، غير كافية ومعرَّضة للنسيان أو التحريف ولو بنوايا صادقة ترتجي الأمانة في النقل، ولذلك اتَّجه الشيخ الصفار إلى تدوين هذه المجهودات على شكل كتب تُدوَّن فيها تفاصيل الموضوعات التي تعرَّض لها، ولها الطابع العلمي في ترتيب الأفكار ومرجعياتها، ولذلك أتحف سماحة الشيخ المكتبة الإسلامية بسيل من الكتب بعناوين مختلفة تناولت القضايا الوطنية والاجتماعية والأسرية والفقهية وشؤون الشباب... إلخ، وتتصف بالواقعية - كما قلنا -، وتعطي حلولًا ومعالجات ناجعة.
ودعَّم هذه المؤلفات، بتثبيت موقع إلكتروني يُوثِّق فيه جميع أنشطته العلمية والاجتماعية بالصوت والصورة والكلمة والفيديو، كمنصة يتفاعل معها الجميع في كل وقت وأينما كانوا وأيًّا كانت الظروف.
* * * *
بهذه الجهود أعتقد أن سماحة الشيخ الصفار قطع شوطًا بعيدًا في ترسيخ مفهوم المواطنة الذي لا ينسلخ عن دينه الإسلامي، وبالعكس كذلك الهوية الإسلامية التي لا تنسلخ عن الانتماء والإخلاص لوطنه، بل التديُّن الذي يكرّس في النفوس الورع والتقوى والأمانة، وهي من أهم ضمانات حفظ الوطن في ميثاقه الأساسي ونظامه العام، وفي أمواله وأراضيه، ومواطنيه، وإن اختلف مع بعضهم اختلافًا عقائديًّا أو في الآراء المدنية، فهي تدخل في مفهوم التعدُّدية الإيجابية، التي تُضفي الحيوية والنشاط الفكري والثقافي، تعدُّدية تمثّل نسيجًا متعدِّد الألوان يجمع الناس ولا يُفرِّقهم، يُوحِّد المجتمع ولا يُمزِّقه.
نسأل اللَّه تعالى أن يمدَّ في عمر سماحة الشيخ حسن الصفار، ويُوفِّقه وأمثاله من المخلصين لدينهم وأمتهم، للمزيد من التوفيقات في خدمة الإسلام والمسلمين، إنه سميع مجيب.