الشيخ حسن الصفار.. عقليةٌ منفتحةٌ وبصيرةٌ واعية
أن تكتب عن قامة علميّة شامخة شموخَ التواضع والرساليّة، هي أن تدخل إلى عالَم مليء بالطهارة والنُّبل، وأن تقف أمام عالِم أعطى حياتَه ووجودَه للإسلام، ونذرَ نفسه للمسلمين بكلِّ أطيافهم وتنوّعاتهم، مدافعًا عن قضاياهم، ساعيًا لجمع شملهم، عاملًا على تضييق فجوة الخلاف فيما بينهم، رافعًا شعار الأخوّة القرآني ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [سورة الحجرات، الآية: 10]؛ لأنّه على قناعة تامة بأنّ هذه الأمة محكومة بضرورة توحيد جهودها وطاقاتها وإمكاناتها لتترجم عمليًّا أنّها خير أمّة أُخرجت للناس علميًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وحضاريًّا وإنسانيًّا، وبرأي سماحة العلّامة الحجّة الشيخ حسن الصفّار، هذه الأمة قادرة على صنع كلّ ذلك؛ لأنّ ما تختزنه من علم ووعي ومسؤولية، وبإرادة شبابها وحكمة شيوخها، تستطيع أن تكون الأمة الأرقى وعلى المستويات كافة.
هذا ما يُؤمن به سماحته دامت بركاته، وهنا لنا الشرف وفي هذه العُجالة أن نلقي الضوء على بعض الأثر الفكري المبنيّ على قواعد إسلامية أصيلة، الذي رسم معالمه ورؤاه ومناهجه على مدى عقود عدّة، من خلال كتاباته ومحاضراته الكثيرة المتنوّعة والشاملة، والتي بنت ثقافة إسلامية واعية، تصلح أطروحة عملية تستطيع مجتمعاتنا الإسلامية أن تتّخذها منهجًا إسلاميًّا يرسم الخطوط العامّة لحلّ مشاكل الشباب، والوقوف عند قضايا المرأة والتنمية والوحدة والأصالة وما شاكل ذلك، ويحدّد الأطر والمضامين لنشر ثقافة التسامح والانفتاح على الآخر، بالإضافة إلى رؤية شاملة واضحة لكيفية الدعوة إلى اللَّه، من خلال خطاب إسلامي واعٍ يُدرك أهمّية الكلمة والأسلوب للدخول إلى عقول وقلوب الناس، مع إيمان عميق بالابتعاد عن التجريد وطرح النظريات غير القابلة للحياة إلى ساحة العمل والتطبيق، حيث من خلال ذلك يقدّم سماحته إسلامًا قرآنيًّا قادرًا على إدارة الكون والإنسان والحياة.
وسأحاول وباختصارٍ آملًا ألّا يكون مخلًّا بما سأتحدّث عنه حول بعض أفكار سماحة الشيخ الصفّار وآرائه، وسأتناول بدايةً رؤيته حول مخاطر الانغلاق والتقوقع على الذات والتمترس حول أفكار قرأ أصحابُها النّص الإسلامي بعقلية متكلّسة رافضة لأيِّ اعتراف بالآخر مدّعية أنَّ بيدها وحدها مفاتيح الجنّة، وأنّها الفِرقة الناجية ولا أحدٌ ناجٍ غيرُها...
الانفتاح على الآخر:
ولأنّ سماحته يتميّز بعقلية منفتحة وبصيرة واعية، فإنّه أدرك بعمق أنَّ هذا الإسلام العظيم ديدنُه المحبّة، لذا، ومن خلال نهجه الإسلاميّ أدرك أنّ من تجلّيات هذا الدين، الانفتاح على الآخر ونبذ العنف ومحاربة الكراهية، انطلاقًا من قول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: «النّاس صنفان، إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»[1] .
ولتحقيق ذلك برأي سماحته «لا بدّ من تضافر الجهود الواعية، لصناعة أجواء صالحة، ولخلق أرضية جديدة تنمو فيها بذور الانفتاح والحوار، لتتعارف الجهات فيما بينها، وتكتشف نقاط الالتقاء وموارد الاختلاف، ولتُثري كلُّ جهةٍ معارفها وأفكارها من خلال انفتاحها وحوارها مع الآخرين، وليأخذ الاختلاف مساره الإيجابي في إذكاء حالة التنافس المعرفي، وشحذ الإرادات والهمم لتقديم العطاء الأفضل، والقيام بالدور الأنفع»[2] .
وبنظره الثاقب يرى سماحته أنَّ سقوط فكرة الانفتاح على الآخر وعدم الحوار معه يأخذنا إلى واحد من خيارين:
- إمّا هيمنةُ إرادةٍ معيّنةٍ وخضوع الآخرين لقوّتها، لكن مع شعورٍ بالغبن وتحفّز للانتقام والثأر.
- وإمّا سيادة ثقافة التناحر والتغالب التي تكرّس انغلاق كلِّ طرفٍ على ذاته[3] .
وكلا الأمرين يجسّدان الغرور الذي ينمّي الكِبْر في النفوس وخديعة التفوّق على الآخر، ويأخذان نحو الاحتراب، ويصبح حاضر الأمّة حاضرًا قلقًا، تُبرز معه العصبيّات أنيابها، ويعلو صوت الحقد والكراهية، وبدل أن تهتم الأمةُ بالتنمية الاقتصاديّة والاجتماعية والتكنولوجية والعلميّة وما يطوّر واقعها ويأخذها نحو الأحسن، فإنّها وللأسف تُسقط ذلك من قاموسها وتلجأ إلى أن تبحث في الكتب الصفراء، عن تكفير الآخر وتفسيقه وتضليله إضافةً إلى نشر ثقافة البغض بدل المحبّة، وثقافة العنف بدل السلام والمودّة، وثقافة القتل والموت بدل ثقافة الحياة..
ومن هنا، فإنَّ سماحة العلّامة الحجّة الشيخ الصفّار أدرك خطورة ذلك مبكِّرًا خلال حياته العمليّة، ولأنّه كان ينطلق من حركيّة قرآنية رساليّة.
كان يدقُّ ناقوس الخطر، متلمّسًا خطوات رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾. [سورة آل عمران، الآية: 159].
لم يوفّر سماحتُه فرصةً أو لقاءً أو مقالةً أو خطبةً أو حوارًا أو مقابلةً مكتوبةً أو مرئيةً إلّا وكان يؤكّد على احترام الآخر والاعتراف بوجوده، وهذا ما يوفّر للمجتمع الأمن والسلام والاستقرار، ولأنّ سماحته يعيش في قلب المجتمع بكلِّ آماله وآلامه، ولا يعيش في أبراج عاجية، بل مع الناس، قريبًا منهم ومن مشاكلهم، فإنّه تميّز بحركيّة العمل وسَعَة الأفق، فعُرف بضبط ما تعاني منه مجتمعاتنا، وما السبيل للخروج من المآزق، ولذا، فإنّه ومنذ ما يقارب العقدين وفي كتابه (كيف نقرأ الآخر) كتب (حفظه المولى):
«الجهل بالآخر والقراءة الخاطئة له هي نتاج خلل اجتماعي ثقافي.. فالمجتمع السويّ تعبّر فيه كلّ الأطراف عن نفسها، وتُظهِر آراءها ومواقفَها بصراحةٍ ووضوح، حين تتوفّر الحرية للمجتمع، وتتساوى فرصُ التعبير عن الذات، فتتعرّف الأطراف على بعضها بشكلٍ مباشر دون وسائط وحواجز.. أما إذا سادت المجتمع أجواءٌ غيرُ عادلة، وعانت بعض أطرافه من التهميش والتمييز، فستجد نفسها مضطرة إلى الانكفاء والانطواء، ممَّا يفسح المجال لتشويه صورتها من قِبَل الأطراف ذات المصلحة في تغييبها وتهميشها..
وعلى الصعيد الثقافي، فإنَّ الثقافة السويّة تدفع نحو الانفتاح على الآخر، والمعرفة الموضوعية له، والتفاعل معه أخذًا وعطاءً، واحترام خصوصياته»[4] .
وعن مخاطر الجهل يقول سماحته: «إنّ الجهل بالآخر والخطأ في قراءته يشكّل ظلمًا للذات والآخر، حيث يحرم الإنسان نفسه من معرفة الحقيقة ويضلِّلها عن إدراك الواقع، ما يمنعه من التفاعل الإيجابي مع الآخرين. كما أنَّ ذلك ظلم للآخر بإساءة الظن فيه، وبخسه حقّه، وقد يؤسّس للحيف والعدوان عليه.
وعلى المستوى الاجتماعي والوطني فإنّ جهل أطراف المجتمع ببعضها يؤدّي إلى انعدام قدرتها على التعاون والانسجام، ويهدّد وحدة المجتمع وتماسكه، ويفتح ثغرةً في جدار أمن الوطن واستقراره.
إنَّ التعرّف على الآخر الداخلي لم يعد مجرّد مسألة ثقافيّة فكريّة، بل أصبح قضية اجتماعيّة وطنيّة تتأثّر بها وحدة المجتمع وترتبط بالاستقرار والأمن الوطني»[5] .
ولأنّ الآخر واقعٌ موجود لا يمكن التنكّر له أو إلغاء وجوده، فإنَّ سماحة الشيخ (حفظه اللَّه) حدّد بدقّة الآخر، مَن هو؟ انتماؤه؟ توجّهه؟ انتسابه لمنهجٍ ما، اعتقاده برؤية دينية أو اجتماعية أو ثقافية؟ فيقول:
«لسنا مخيّرين في وجود الآخر، فهو حتميّة اقتضتها حكمة اللَّه تعالى في الخلق لتكون الحياة أكثر ثراءً، وليشحذ التنافس هِمَمَ أبناء البشر، ويفجّر طاقاتهم ﴿وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ﴾.[سورة هود، الآية: 118]
والآخر هو المختلف عنا في أي جانب من الجوانب التي نهتم بها، فقد يكون آخر من حيث انتمائه الاجتماعي، لعرق أو قومية أو قبيلة.
وقد تكون آخريته لجهة انتسابه الديني والثقافي، لمبدأ أو مذهب أو مدرسة فكرية.
كما يكون اختلاف التوجُّه السياسي أو النهج السلوكي سببًا لتشكيل الآخرية.
وهكذا يتحدَّد الآخر في مختلف دوائر اهتمامات الإنسان ومجالات تركيزه.
والآخر قد يكون جزءًا من بيتنا العائلي وأسرتنا الصغيرة، حيث قد يختلف الدين أو المذهب أو المسلك بين الزوجين وبين الوالدين والأولاد، وفيما بين الإخوة الأشقّاء.
وقد يكون جارًا لنا في السكن أو زميلًا لنا في العمل.
وفي إطار أوسع قد يكون شريكًا لنا في الوطن والانتماء الحضاري.
وعلى المستوى الدولي هناك جوار جغرافي وتشابك في المصالح خاصة في عالم اليوم الذي أصبح قرية كونية واحدة.
ما يعني أنَّ الآخر جزء من حياتنا كأفراد وشعوب ودول نتداخل معه، ونتأثر به ونؤثّر فيه، إنه لا يمكن إلغاء الآخر وإلَّا الانفصال عنه كلِّيًّا.
تلك هي الحقيقة التي لا مراء فيها ولا يمكن تجاهلها.
بَيْدَ أنَّ الامتحان الحقيقي أمام الإنسان هو مدى قدرته على تنظيم علاقته مع الآخر أخذًا وعطاءً، حتى لا يصبح التمايز سببًا للجفاء والعداء، بل دافعًا للتنافس الإيجابي والتعاون والتكامل والإثراء»[6] .
علماء الدين.. الدور والمسؤوليّة:
وأنتقل إلى رؤية أخرى من رؤى سماحة الشيخ (حفظه اللَّه)، وتهدف هذه الرؤية إلى إبراز دور علماء الدين الذين يتحمّلون مسؤولية نبويّة عمادها إخراج الناس من الظلمات إلى النور، والعمل على إقامة مجتمع العدل والكرامة، والإسهام في الحثّ على العلم وعلى إنتاج أفضل الطرق والوسائل لرقيّ المجتمع وتقدّمه، وعلى الدفاع عن المظلومين والانحياز للفقراء والمساكين لإخراجهم من حالة العوَز إلى حالة الاكتفاء، ومن حالة الخوف والقلق إلى حالة الأمن والأمان.
لعالم الدين وظيفةٌ ترقى إلى مستوى شديد الخطورة والأهميّة، فبالإضافة إلى كونه المتخصِّص في تبيان أمور الحلال والحرام، وتوضيح المناهج الإسلامية في التربية والأخلاق والتفسير والعقيدة أو ما شاكل ذلك، فهو كونه نال حظًّا من العلم الربّاني، فإنّ المسؤولية تقع على عاتقه في صناعة الإنسان، الإنسان الذي يقدّم لواقعه أرقى النماذج في التطوير والتقدّم والإبداع وعلى المستويات كافة.
هذه الرؤية ومن خلال ما وضع سماحة الشيخ الصفار (حفظه اللَّه) قواعده، هي الرؤية الإسلامية الأصيلة، منطلقًا من أصالة قرآنية أبرزت بوضوح المقام الرساليّ للعلماء، حيث يقول تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾. [سورة المجادلة، الآية: 11]
وممّا جاء عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «فضل العالِم على العابد، كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء»[7] .
وعن أبي عبيد اللَّه عليه السلام، قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: «يجيء الرجلُ يوم القيامة، وله من الحسنات كالسّحاب الرّكام أو كالجبال الرواسي، فيقول: يا ربّ أنّى لي هذا ولم أعملها؟ فيقول: هذا علمُك الذي علّمته الناس يُعمل به من بعدك»[8] .
انطلاقًا من هنا، فإنّ سماحته وأمام ما رأى ما يواجه الأمّة من واقع متخلّف ومأزوم، جعلها في الصفّ الأخير من الرّكب الحضاريّ العالمي، وهذا أكبر تحدٍّ تواجهه الأمّة، ومن هنا، أكّد سماحته على أنَّ «علماء الدين هم الجهة المعنيّة أساسًا بهذا التحدّي الذين يواجهه الدين اليوم... (حيث) تعيش الأمة الإسلامية واقعًا متخلّفًا عميق الجذور، فبينها وبين ركب الحضارة المادية المتقدّم مسافة شاسعة»[9] .
ولأنّ هناك مصاعب ومشاكل، اقتصادية وسياسية تحيط بواقع الأمة، كان من الضروري أن تُوضع البرامج لمواجهة وحلّ المشاكل وإزالة الصعاب، وهذا يتطلّب توحيد جهود النّخب في الأمة للخروج من شرنقة التخلّف، «والأنظار -برأي سماحة الشيخ- شاخصةٌ نحو علماء الدين لكي يتصدّوا لإبداع المناهج وابتكار البرامج المنبثقة من وحي الدين، والتي تساعد الأمة على إنجاز عملية النهوض والتغيير، وترسم أمامها طريق المستقبل الحرّ الكريم»[10] .
إنَّ سماحته يعطي لعالِم الدين دورًا، كما هو دور الأنبياء عليهم السلام في استنهاض البشرية من كبوتها وفي إخراجها إلى عالِم أكثر رقيًّا وحضارةً وإبداعات على المستويات كافة.. ولذا، فهو (حفظه اللَّه) يذكّرهم ويحثّهم ليأخذوا دورهم من دون تردّد أو خوف أو تعطيل لقدراتهم، فيخاطب فيهم روح الاستنهاض، ومذكّرًا بأنّ الأمة تنتظر أن يكونوا في موقع القيادة لأنّ «علماءَ الدين بما يحملون من هدي الرسالة، وما يملكون من تأثير روحيّ على الناس، وموقعية ونفوذ في أوساطهم، يشكلون رصيدًا ضخمًا ومخزونًا هائلًا من القدرة والإمكانية إذا ما وظفوا في مشروع النهضة والبناء الحضاري، فسيخلق أمواجًا من الفاعلية والنشاط، وسيدفع بحركة الأمة أشواطًا بعيدة إلى الأمام»[11] .
ولأنَّ سماحة الشيخ (حفظه اللَّه) بصيرٌ بواقع الأمّة، وخبيرٌ بشؤونها وشجونها، ويعرف نتيجة التصاقه بالجماهير المسلمة في الكثير من بلاد العالم، مكامن الضعف والخلل، فإنّه بقدر ما يحفّز علماء الدين للقيام بالنهضة، فإنّه يعرف أنَّ «أكثر علماء الدين لا يدركون خطورة الموقعية التي يمثّلونها، ولا يعرفون حجم القدرات التي يمتلكونها، ولا أهمّية الدور الذي يُمكنهم أداؤه لمصلحة الدين والأمة، ولذلك ينطوون على أنفسهم ويكتفون بممارسة أدوار تقليدية محدودة، وكما يأخذ على علماء الأمة عدم الأخذ بدورهم الرسالي، يأخذ على جماهير الأمّة جهلها مدى مسؤولية علماء الدين، لذلك تسكت على تقاعسهم وتقبل منهم اليسير من المهام الدينية المألوفة»[12] .
وانطلاقًا من القاعدة القرآنية ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾ [سورة الغاشية، الآية: 21]، فإنَّ سماحته يضع علماء الدين أمام مسؤولياتهم قائلًا: «المطلوب من علماء الدين في هذا العصر، بالدرجة الأولى، تجديد مناهج الاجتهاد في الدين لاستنباط الحلول والمعالجات لما يواجه البشرية من مشاكل وأزمات، وذلك يقتضي فهم قضايا العصر، والانفتاح على تطورات العلم والحياة والتحرّر من ضيق الأفق والقوالب الجاهزة في التفكير، ما يُفقد الاجتهاد معناه، ويحوّل العلماء المعاصرين إلى مقلّدين ومتّبعين لآراء السالفين»[13] .
وأختم هذا الحديث عن هذه الرؤية بتحديد دقيق لما ينبغي أن يكون عليه علماء الدين ليستطيعوا أن يساهموا في عملية النهوض والتقدّم والرّقي الحضاري، فيقول (حفظه اللَّه): «علماء الدين ليست مهمّتهم إصلاح أمور الناس في الآخرة فقط عبر توجيههم إلى عبادة اللَّه وطاعته، بل هم معنيون، قبل ذلك، بإدارة شؤون الناس في الدنيا وإصلاح أوضاعها.
ذلك أنّ الدين الذي يحملون رسالته ليس برنامجًا للنجاح في الآخرة فحسب، بل هو نظام لإسعاد الناس في الدنيا قبل ذلك.
يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. [سورة الحديد، الآية: 25]
ويقول تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. [سورة البقرة، الآية: 201]
و«بالدنيا تُحرز الآخرة» كما يقول الإمام علي .
و«ليس منّا مَن ترك دنياه لدينه أو ترك دينه لدنياه» كما في حديث آخر. و«أعظم الناس همًّا المؤمن يهتمّ بأمر دنياه وأمر آخرته» كما يُروى عن رسول اللَّه .
وذلك يعني أنّ على علماء الدين الاهتمام بمختلف شؤون المجتمع، وأن يوجّهوا عنايتهم لجميع حقول الحياة»[14] .
لا نجافي الحقيقة إذا قلنا: إنَّ سماحة العلّامة الحجة الشيخ الصفار كان عالمًا موسوعيًّا، فكما أنّه فقيه كان قرآنيًّا، وكما هو صاحبُ نظرات اجتماعية، فهو -أيضًا- باحثٌ في قضايا الأسرة، وكما له باعٌ في الاقتصاد والعلاقات الدولية، هو صاحب رؤية إسلامية في حقوق الإنسان.
خبيرٌ بعالَم النّفس البشريّة:
وهنا نطلّ على رؤاه فيما عالجه ووضع له الحلول في القضايا النفسيّة التي تُقلق واقع الإنسان وكيف له السبيل للخروج من مآزقه النفسيّة، ونتوقّف عند مفردة من المفردات التي تنتاب واقع الإنسان وهي الخوف والرُّهاب- الفوبيا، حيث قام سماحته بإصدار كتاب تحت عنوان: (كيف نقهرُ الخوف؟)، وفي هذا الكتاب نجد الثقافة الواسعة التي تميّز به (حفظه الله) وهو بذلك يعطي الصورة الأصيلة عن عالم الدين الذي يتحدّث بلغة العصر، ويعرف كيف يخاطب الناس بلغة العصر، بلغة إسلامية قرآنية ترمي إلى سعادة الإنسان ليس في الآخرة فحسب، بل في الدنيا التي هي مَعبرٌ للآخرة.
ولذلك فهو من خلال علم النفس عندما يتحدّث عن الخوف يقول: «الخوف الذي نتعرّض له بالدراسة هو تلك الحالة النفسية غير الطبيعية التي تؤدي بالإنسان إلى الخوف من أشياء غير واقعية، وهي حالةٌ مَرَضيّةٌ تقوم على أساس اختلال في التوازن النفسي سببُه القلق، والشعور المفرط بالذنب، وغيرها من الأسباب النفسية، ولها في علم النفس تعبيرٌ آخرُ هو (الرّهاب) أو (الخوف)، (الفوبيا) Phobie، وتصنّف حسب علم النفس ضمن أمراض (العُصاب).
ومن ضمن (الرهاب) أو المخاوف المَرضيّة التي اشتهرت في علم النفس - رهاب الخلاء ورهاب الاحتجاز ورهاب الاحمرار ورهاب المرض..[15] ويرى سماحته أنَّ هذه النماذج من الخوف هي ما يسلّط عليه الضوء المحلّلون النفسانيون، لكن نحن كإسلاميّين نسلّط الضوء على مفردة الخوف من خلال الرؤية الإسلامية، لنعطي الدواء والعلاج الإسلاميين لمن يرزح تحت وطأة الخوف.
ومن هنا، فإنّه يرى أنّ القرآن الكريم لم «يغفل عن هذه المشكلة ويتجاوزها وهو يسعى لتزكية نفس الإنسان وتوجيه سلوكه.. تحدّث القرآن عن مشكلة الخوف في آيات ومجالات عديدة.. وخلال جولة من التدبّر في مجموعة من الآيات القرآنية التي تتحدَّث عن الخوف تبيّنت لي الملامح التالية لنظرة القرآن الحكيم حول هذه المشكلة.. تبلغ الآيات التي تتحدّث عن الخوف بلفظة الخوف ومشتقاتها (134) آية في مختلف الشؤون والمجالات.. أمّا التي جاءت بلفظة «الخشية» فحوالي (48) آية.. ومن المهمّ جدًّا أن ننتبه إلى أنَّ القرآن الحكيم تشكّل آياته توجيهًا متكاملًا للإنسان وعلاجًا لمشاكله النفسية.. فالحقائق الكونية والعقائد المبدئية والأحكام والآداب كلّها تؤدّي دورًا متكاملًا ومتفاعلًا في تزكية نفس الإنسان وعلاج مشاكلها..».
ويتساءل سماحته: هل في إمكان الإنسان أن يواجه الخوف عندما تُحدق به الأخطار الكبرى؟
يقول: «نعم، وذلك بتقوية الإرادة.. وتوطين النفس على مقاومة حالات «الخواف».. وفي توجيهاتنا الإسلامية «إن هِبْتَ أمرًا فقع فيه».
فأن يخاف الإنسان فهذا أمر طبيعي، ولكن يجب ألّا يكون الخوف عقبةً وحاجزًا أمام الإنسان يمنعه من التقدّم والاحتفاظ بالحرية والكرامة.. فالقرآن يعترف بواقعية الخوف لدى الإنسان، ولا يعدّه جريمة، إنّما الجريمة تكمن في سوء الاستفادة وفي الإفراط في ممارسة الخوف.. وأن يعدّ الخوف عقبة في طريق تقدّم الإنسان وكرامته وحرّيته».
ثم ينقل سماحته صورًا من القرآن الكريم عن الخوف عند الأنبياء والأولياء الذين يتجاوزون حاجز الخوف ويقمعونه داخل أنفسهم، بقوّة إرادتهم وبتسديد من اللَّه تعالى.
وهناك خوفٌ يهذّب روح الإنسان، وهذا الخوف يكون مطلوبًا وحقيقيًّا وفي مجاله الصحيح.. وإنَّ أيّ قوةٍ يمكن أن يخشاها الإنسان في الحياة ويهابها لا تساوي ذرّة أمام قوة اللَّه تعالى.. وكلّ الأخطار التي يخافها الإنسان ويحذرها في الدنيا، ليست شيئًا أمام أخطار الآخرة ومصاعبها»[16] .
فلماذا نخاف من القوى الزائفة؟
أليس الأصح والأولى أن نخاف من القوة الحقيقية المهيمنة وهي قوة اللَّه تعالى، إنّ الله تعالى يذكّرنا بهذه الحقيقة في آيات كثيرة: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين﴾ [سورة آل عمران، الآية: 175]، وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاس واخشونِ﴾. [سورة المائدة، الآية: 44][17] .
ويحدّد سماحته معنى الخوف من اللَّه: «إنّه معنى الالتزام بحدود اللَّه وقوانينه.. ويعني احتضان القيم الإلهية، والعمل على نشرها وتطبيقها، والاستهانة بكلِّ قوّة أو خطر يقف في طريق ذلك.. فالمؤمنون المخلصون الذين يجسّدون حقيقة الخوف من اللَّه في أجلى صوره ومظاهره، حينما يتحمّلون مسؤولية الرسالة، ويعملون من أجل الحقّ والخير.. يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾. [سورة الأحزاب، الآية: 39]
وفي الفصل الثالث من كتاب سماحته (كيف نقهر الخوف؟) يغوص بعمق في داخل النفس الإنسانية، ويحدّد ما الذي يمنعُ هذه النفس من الانطلاق في الحياة وتحقيق أفضل الإنتاجات على الصعد كافة، فيجد أنّ الخوف من الفشل واحدٌ من هذه المعوقات عند كثير من الناس فـ «كلّ إنسان لديه طموح، وكلّ إنسان يريد أن يكون عظيمًا، أن يكون متقدّمًا، أن يكون متفوِّقًا، ولكن ليس كلّ إنسان يتخلّص من عقدة الخوف من الفشل. الخوف من الفشل هو ذلك الحاجز الذي يَحُول بين الإنسان وبين تفجير طاقاته، وبالتالي بينه وبين الوصول إلى أهدافه وأمانيه»[18] .
وينصح سماحته بعدم الخوف من الفشل، ويطرح سؤالًا جوهريًّا: «لماذا يكون الفشل بعبعًا في نفسك؟» ويجيب: «إذا نظر الإنسان إلى الفشل كأمر طبيعي، ولم يضخّمه في نفسه، فإنّ عقدة خوف الفشل تتلاشى من قلبه، ولكنّه إذا تضخّم الفشل وصارت هذه العقدة عند الإنسان، حُرم الكثير من المكاسب، وأُصيب بالخيبة في حياته، كما يقول الإمام علي عليه السلام: «قُرنت الهيبة بالخيبة»، الذي يخاف الفشل يصبح خائبًا في حياته لا يتقدّم ولا يتفوّق ولا تتفجّر طاقاته»[19] .
ويُبحر سماحته في النفس الإنسانية أكثر، فكما هناك خوفٌ من الفشل، هناك الخوف من المشاكل لأنَّ «النّاس يتمنّون أن يعيشوا حياة مريحة، يريدون أن تكون الورود تفرش طريقهم دائمًا، وأن تكون حياتهم حياةَ رخاء وهدوء وسلام، ولذلك يتهيّبون تصوّر لحظات المشكلة ولحظات الصعوبة»[20] ، ويأخذ سماحته على هؤلاء بأنّ عليهم أن يعرفوا أنَّ المشاكل والمصاعب شيءٌ طبيعيٌّ في الحياة، كما يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾، [سورة الانشقاق، الآية: 6] ويقول أيضًا: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [سورة البلد، الآية: 4] أي في معاناة، والحياة التي ليس فيها صعوبات وليس فيها مشاكل، ليست هنا في الدنيا، إنّها هناك في الدار الآخرة، إنّ الصعوبات والمشاكل والآلام هي طريق المجد والتقدّم»[21] .
ويستفيض في الحديث عن الخوف من الموت، وكيف أنّ الإنسان تستولي عليه هذه الحقيقة، وكم كان سماحته رائعًا في الحديث عن أفضل طريقة للتعامل مع الموت، فيقدّم نصيحتَيْن؛ الأولى: «الاستعداد للموت: نحن كمسلمين نعتقد بلطف اللَّه ورحمته ونؤمن بالآخرة والحساب وبكلّ شؤون الغيب، لذلك، يمكننا أن نستقبل الموت بنفوسٍ واثقة مطمئنّة حينما نلتزم بحدود اللَّه ونطبّق تعاليمه في هذه الحياة.. فأولياءُ اللَّه لا يزعجهم الموت كثيرًا بل يعدّونه بطاقة دعوة لدخول جنّة اللَّه كما يقول تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [سورة الفجر، الآيات: 27-30]، والنصيحة الثانية: «ما دام الموت مصيرًا حتميًّا، ومستقبلًا طبيعيًّا لكلّ إنسان، فلماذا يترك الإنسان المبادرة بيد الموت ليفاجئه في أيّ لحظة، فيأخذ الإنسان دور الاستسلام والضعف أمام هجوم الموت المتوقّع؟
إنك ستموت حتمًا، فلماذا ترضى لنفسك بأن تموت مجَّانًا ومن موقع ضعف؟ بينما بإمكانك أن توظّف موتك من أجل قضيّة مقدَّسة، ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾. [سورة البقرة، الآية: 154][22] .
ولسماحته كلماتٌ في مواجهة الخوف، تفتح الطريق أمام الخائفين، ليعيشوا الأمن والأمان، ولتكون قلوبهم حازمة في مواجهة الخوف، كونها ممتلئة بالإيمان، وبأنَّ هناك ربًّا قادرًا يحفظ عباده الخائفين منه فقط، فيقول (حفظه اللَّه):
«لا أحد منّا يرضى بالواقع المتخلّف السيِّئ الذي تعيشه أمتنا وشعوبنا.. وقبل أن نبحث عن العوامل الخارجية التي فرضت علينا هذا الواقع، علينا أن نفتش في داخل أنفسنا، عن تلك الثغرات والنواقص والأمراض، التي أوصلتنا إلى هذا المستوى من الأوضاع. ومن أبرز تلك الثغرات والأمراض، هذا الشبح المرعب، والكابوس المخيّم على نفوسنا وهو مرض الخوف.. الخوف من الفشل.. الخوف من المصاعب والآلام.. الخوف من القوة.. الخوف من الموت. الخوف من كلّ شيء مجهول.. الخوف هذا الشبح المزيّف الذي يمنعنا من الإقدام، ويشلّ قدرتنا على التحرّك، ويبقينا أسرى لضغوطٍ واهية، وقوى ضعيفة.. إنّ علينا إذا ما أردنا تغيير واقع أنفسنا وأمّتنا، أن نبدأ بالثورة والتغيير في أعماق ذواتنا.. وأن نواجه هذا الشبح العدوَّ المزعج (الخوف) ونطرده من داخل نفوسنا.. لنتجاوز حاجز الخوف، وليفكر كلّ واحد منّا فورًا في أن يصبح بطلًا شجاعًا، ويقتحم بالفعل كلّ ما كان يتهيّبه ويخافه سابقًا من مجالات الخير والتقدّم.. ولا يقتصر واجبنا على أنفسنا فقط بل نحن مسؤولون عن إصلاح نفوس كلّ أبناء مجتمعنا، فلنعلن الثورة على الخوف.. ولتكن معركتنا مع شبح الخوف شاملة على الجبهات كافة، فنكافح الأفكار والآراء الخائفة الجبانة، والأساليب التربوية الخاطئة.. ومراكز القوى الخاضعة لإرهاب الخوف.. والأهمُّ من كلّ أولئك، تلك الجهات التي تعمل على نشر ثقافة الخوف، ومواقف الخوف في المجتمع.. لنعلن الحرب على كل هؤلاء، وبمختلف الوسائل والأساليب، حتى نطهّر نفوسنا ونفوس أبناء مجتمعنا من جراثيم مرض الخوف الفتّاك المعدي.. ولنزرع في نفوسنا ونفوس أبناء المجتمع، روح البطولة والشجاعة والإقدام. وعندئذ يحقّ لنا أن نطمح للتغيير، وأن ننتظر التقدّم، وأن نتوقّع الحرية..
ألم يقل ربّنا سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾. [سورة الرعد، الآية: 11]
واللَّه نسأل أن يعيننا على شرور أنفسنا، وأن يوفّقنا لتجاوز السلبيّات والنواقص والأخطاء، وأن يهدينا سواء السبيل إنّه خير موفّق ومعين”[23] .
حقوق الإنسان مبدأ إسلاميّ أصيل:
قلّما نجد عالِمًا يعطي لمسألة حقوق الإنسان هامشًا واسعًا لتأكيد هذه الحقوق.. والسعي لاحترام هذه الحقوق ينطلق من احترام إنسانيّة الإنسان وتكريم اللَّه تعالى لهذا الإنسان.. وهذا ما كان محور تفكير سماحة العلَّامة الحجة الشيخ الصفار (حفظه اللَّه)، فإنّه غاص عميقًا في روح الخطاب الإسلامي ليجد أنّ هناك بَوْنًا شاسعًا بين حقوق الإنسان وبين بعض الخطاب الإسلامي الذي تقوقع على نفسه، وغيّب الروح الإسلامية السمحة التي تحترم الإنسان أيًّا كان هذا الإنسان إذا كان في موقع الحاجة، بعيدًا عن دينه وعرقه ووطنه.. ومن هنا، فإنَّ سماحته ومن خلال رؤيته الإسلامية الأصيلة، أعاد توجيه البوصلة نحو الاتّجاه الصحيح، نحو إعلاء الإسلام لشأن الإنسان منطلقًا من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [سورة الإسراء، الآية: 70]، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾.[سورة التين، الآية: 4]
فالقرآن الكريم -كما يرى سماحته- أبرز قيمة الإنسان ومكانته التي وهبها إياه، بوصفه أفضل وأكرم مخلوق، إضافةً إلى “أنّ هدف القرآن الكريم تأصيل مبدأ كرامة الإنسان لإنسانيته أولًا وقبل كلّ شيء، فمن أيِّ عِرق انحدر وإلى أيّ دين وعقيدة انتمى، فهو إنسان له كرامته الذاتية”[24] .
ولأنّ سماحته يتميّز بحسٍّ نقديّ وعقليّة منفتحة تقرأ النص المقدّس بعينين مفتوحتين، فإنّه يرفض أن تتجزّأ الكرامة الإنسانية، أيّ أن تكون للمسلمين وحدهم أو لأتباع مذهب واحد، من دون أي تخصيص لأصحاب دين أو مذهب معيّن.
وعلى هذا، فلا يحقّ تخصيص الكرامة الإنسانية بالمسلم فقط وما عداه تجوز هدرُ كرامته وأكل حقوقه؛ لأنّ الآية الكريمة صريحة واضحة في شمول تكريم اللَّه لبني البشر جميعًا.. وعلى هذا، فكرامة الإنسان أصلٌ وقاعدةٌ؛ لأنّ الآية تؤدّي “إلى تقرير أصل التكريم للإنسان كمبدأٍ فكريّ، وقاعدة فقهيّة، لا يصح تجاوزها إلا بمبرر مشروع ودليل واضح”[25] .
ويأخذ سماحته على بعض الخطاب الإسلامي بأنّه لا يُولي اهتمامًا كبيرًا بالقضايا الإنسانيّة العامة، ولا يوظّف الجهود لمعالجة الكثير من المشاكل التي تنوء البشرية تحت ثقلها من مثل انتشار الأمّية والفقر ونقص الخدمات، علمًا بأنّ الرسالات جاءت لترشد الإنسان إلى أداء حقّ خالقه عليه بمعرفته والإيمان به.. ثم لتوجيهه لأداء حقوق الناس وبالتالي لاستقامة العلاقات الاجتماعية بين بني البشر جميعًا.
ويرى سماحته أنَّ النصوص حذّرت من التعدّي على حقوق الآخرين معتبرة أنّ هذا ظلمٌ لا يغفره اللَّه إلّا إذا غفره المظلوم.. وما يأسف له سماحته أنّ الخطاب الديني عند بعض المبلّغين يركّز على الدفاع عن حقوق اللَّه، ويُعطي ظهره للدفاع عن حقوق الناس، مع التأكيد على حقوق الحاكم على الرعيّة، وحقوق الزوج على زوجته، وحقوق ربّ العمل على العامل، أمّا تحذير الحاكم من الظلم والجَور، وتنبيه الزوج من غضب اللَّه في حال ظُلْمِ زوجته أو تقصيرِ الأب تُجاه أولاده، فهذا في آخر اهتمامات بعض الدّعاة والمبلّغين وللأسف الشديد.
وما يُرشد إليه سماحته، هو نصيحته إلى قيادات الأمّة بضرورة تطوير الخطاب إنسانيًّا، فيقول:
“إنّ تطوير خطابنا الديني إنسانيًّا ليس مطلبًا كماليًّا، وليس قضية هامشية، بل هو ضرورة ملحّة تقع في الصميم من قضايا الأُمّة واحتياجاتها. إنّه سبيل إلى تحقيق مهام أساسية تأخّرت الأُمّة كثيرًا عن إنجازها وتحقيقها، وأبرزها ما يلي:
أوّلًا: إنجاز تقدّم على مستوى التنمية الإنسانية في مجتمعاتنا، حيث يعيش الإنسان واقعًا متخلِّفًا يفتقد فيه مقومات بناء الحياة الفاضلة، والتمتُّع بحقوقه الإنسانية المشروعة.
ثانيًا: النجاح في صُنع العلاقة السليمة مع الآخر داخل الأُمّة والوطن، وفي الخارج مع سائر الأُمّم والحضارات، حيث تعاني مجتمعاتنا من اضطراب العلاقة بين فئاتها وشرائحها، وحيث أقحمت الأُمّة في معركة صدام مع الحضارات والشعوب الأخرى بسبب توجهات التطرُّف والإرهاب.
ثالثًا: الإسهام في خدمة القضايا الإنسانية على الصعيد العالمي، لتكون الأُمّة بمستوى ما تتبنّاه من قيم الإسلام ومفاهيمه وشعاراته الرسالية العظيمة. إنّ القرآن يُقدِّم الإسلام مشروعًا للإنسانية جمعاء ﴿وَما أرسَلنَاكَ إلا كافَّةً لِلنّاس﴾ [سورة سبأ، الآية: 28]، ورسالة ورحمة وسلام لكلّ شعوب العالم ﴿وَما أرسَلناكَ إلا رَحمَةً لِلعَالَمِين﴾ [سورة الأنبياء، الآية: 107]، وإنّ أُمّة الإسلام يجب أن تكون رائدة الخير في المجتمع البشري ﴿كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَاس﴾. [سورة آل عمران، الآية: 110]
فلا بدّ من خطاب يؤهِّل الأُمّة لهذا الدور، ويُقدِّم الإسلام للعالم على هذا المستوى.
هل من حقوق للإنسان في التشريعات الإسلامية؟
عن هذا السؤال يجيب سماحته فيقول: “لقد أكّدت آيات القرآن الكريم، قبل انبثاق مواثيق حقوق الإنسان في أوروبا بعشرة قرون، على كرامة الإنسان، وحفظ حقوقه المادية والمعنوية بكل تفاصيلها وجزئياتها، ورأت أنّ أيّ انتهاك لشيءٍ من هذه الحقوق يشكِّل عدوانًا ومناوأة للَّه تعالى ولدينه ورسله، تستوجب غضب اللَّه تعالى وسخطه وعقوبته ونكاله. فالاعتداء على حياة فرد واحد من البشر يعدّه القرآن الكريم عدوانًا على البشرية جمعاء، وإبادةً لها، يقول تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [سورة المائدة، الآية: 32]، والكرامة حقّ إلهيّ منحه الله تعالى للإنسان من حيث هو إنسان.. ويؤكد القرآن الكريم حريّة الإنسان في آرائه ومعتقداته.. وفي مجال حماية الحقوق المادية، يتوعّد القرآن الكريم مَنْ يسلب شيئًا من أموال الآخرين.. وعن حماية الحقوق المعنوية، يمنع الظنّ والغيبة والتجسّس”[26] .
هذا في النظرية، وما هو واقع الاهتمام بحقوق الإنسان؟
يجيب سماحته بأنّنا نتباهى أمام الغرب بأنّ الإسلام سبق الحضارات باهتمامه بحقوق الإنسان.. «هذا لا شكّ صحيح نظريًّا..” أمّا على صعيد الممارسة والواقع فيجب الاعتراف بالقصور والتقصير، وهذا يعود إلى:
- عدم صياغة قانونية حضارية لقضايا حقوق الإنسان.
- ضعف الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان في الخطاب الإسلامي.
- واقع الانتهاك لحقوق الإنسان، في كثير من بلدان العالم الإسلامي[27] .
وبحكمة العالِم بواقعه والذي يعيش عصره محصّنًا بثقافة قرآنية وبمعرفة واسعة بسيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الأئمة الأطهار، يرشد سماحته الأمة إلى العناوين الأساسية التي إذا ما تُرجمت على أرض الواقع يكون هناك حقوقٌ للإنسان، لا يعتدي فيها أحد على أحد، ويأمن الإنسان فيها على دينه وماله وعرضه من دون أي قمع أو إكراه..
إنَّ ما تطرّق إليه سماحة العلّامة الحجة الشيخ حسن الصفار (حفظه اللَّه) في كتابه (الخطاب الإسلامي وحقوق الإنسان) لم يجرؤ الكثيرون أن يطرقوا هذا الباب، لا لشيء سوى أنّهم ركنوا إلى السكون، وخافوا أن يقتحموا أبوابًا موصدة؛ لأنَّ فَتْحها يغذّي العقل، ويصقل الشخصية الإسلامية، وهم لا يريدون إلَّا أن يكونوا على هامش الحياة، وهذا ما يحقّق لهم الدَّعة والطمأنينة بعيدًا عن مواجهة التحدّيات وإبراز الإسلام الذي يبني الحياة والكون والإنسان، وهذا ما يتطلّب جهدًا وعرقًا ومواجهات تسبّب التعب وتغلق على المتحدّي أبواب الراحة.
لقد سدّ سماحته ثغرةً كبيرة في أدبياتنا الإسلامية نفخر أن نقدّمها للعالم بروحٍ إنسانيّة وحضارية مستلهَمَة من روح القرآن ومفاهيم الإسلام العظيم.