تقديم لكتاب شرح منهاج الصالحين لسماحة الشيخ علي المحرقي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين.
الرأي الذي يتبناه الفقيه في أي مسألة شرعية يفتي بها، هو حصيلة جهد علمي، وممارسة اجتهادية يقوم بها، في البحث عن الأدلة من مصادرها المقررة، ودراستها بدقة وعمق، للوصول بعد ذلك إلى الحكم الشرعي والافتاء به.
وقد يوثّق الفقيه ممارسته الاجتهادية، ويحرّر مراحل البحث التي قام بها، انطلاقًا من تنقيحه للمباني التي اعتمدها في البحث الأصولي الفقهي، وعلم الدراية والرواية، وصولاً إلى ما استظهره واستنبطه من الأدلة المباشرة في كل مسألة من المسائل.
ومن الطبيعي أن يتصف التحرير العلمي للممارسة الاجتهادية، بلغة تخصصية، تستخدم المصطلحات المتداولة في ميادين علوم الاجتهاد، وتشير إلى المباني والقواعد دون تبيين وتفصيل، اعتمادًا على إلمام أهل الاختصاص بها.
كما يقتضي التحرير العلمي عرض الأدلة المختلفة في المسألة، ومناقشة وجه الدلالة فيها، قبولاً أو رفضًا، والترجيح فيما بينها، عند التعارض والاختلاف. واستعراض أهم وأبرز الآراء والأقوال في المسألة، من قبل الفقهاء الآخرين، وذلك ما يؤدي للتوسع في البحث، فقد يستغرق تحرير البحث في مسألة واحدة عشرات الصفحات.
وقد لا تتاح الفرصة لكثير من الفقهاء أن يوثّقوا ويحرّروا ممارستهم الاجتهادية، في استنباط الآراء وإصدار الفتاوى، وبعضهم يكتفي بإلقائها دروساً على طلابه، في مرحلة الدراسات العليا، التي يطلق عليها في الحوزة العلمية (البحث الخارج).
وقد يقوم بعض تلامذته بتقريرها وتحريرها. كما هو الحال مثلاً في النتاج العلمي الفقهي والأصولي للسيد الخوئي (توفي 1413هـ).
ومن أبرز الفقهاء الذين حالفهم التوفيق في كتابة تجربتهم العلمية الفقهية، وتدوين ممارستهم الاجتهادية، الفقيه المحدّث الشيخ يوسف البحراني (توفي 1168هـ) حيث يعتبر كتابه (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) والمطبوع في 25 مجلدًا، من أهم الكتب المتداولة في الوسط العلمي، لاستيعابه لمعظم أبواب الفقه، حيث لم يمهله الأجل لاستكمالها، (فإنه أول مجموعة فقهية ومدونة كبرى في الفرائض والسنن، تحوي جُلّ الفروع إن لم يكن كلها، وتضم في طيها الأقوال والآراء وأصول الدلائل)[1] .
والفقيه الآخر الذي وثّق وحرّر تجربته العلمية الاستدلالية في الفقه الإسلامي، فكانت أكثر شمولية واستيعاباً مما سبقها، هو الشيخ محمد حسن النجفي (توفي 1266هـ)، حيث أصبح كتابه (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) المرجع والمصدر الأساس، الذي لا يستغني عنه فقيه معاصر في الحوزات العلمية الشيعية.
وقد استمر في تأليفه 30 سنة، حيث بدأ تأليفه سنة 1227هـ تقريباً، على ما استنتجه الشيخ اغابزرك الطهراني وكان عمره آنذاك خمسة وعشرون سنة، وآخر ما كتبه منه كان سنة 1257هـ.
وكتاب الجواهر (لم يؤلف مثله في سعته واحاطته بأقوال العلماء وأدلتهم ومناقشتها، مع بعد نظر وتحقيق، مضافًا إلى أنه كتاب كامل في أبواب الفقه كلها، جامع لجميع كتبه، وميزة ثالثة تفرّد بها أنه على نسق واحد، وأسلوب واحد، وبنفس السعة التي ابتدأ بها وانتهى إليها، ورابعاً: أن به الغنى عن كثير من الكتب الفقهية الأخرى، ولا يستغنى بها عنه)[2] .
وفي هذين القرنين الأخيرين (الرابع عشر والخامس عشر للهجرة) أصدر عدد من الفقهاء أبحاثهم الفقهية الاستدلالية بأقلامهم في موسوعات ضخمة منها:
مستمسك العروة الوثقى (14 مجلداً) للسيد محسن الحكيم (توفي 1390هـ)
مهذب الأحكام (30 مجلدًا) للسيد عبدالأعلى السبزواري (توفي1414هـ)
الفقه (160 مجلدًا) للسيد محمد الشيرازي (توفي 1422هـ)
ولا شك أن لهذه الجهود العلمية أثرًا كبيرًا في تطوير البحث الفقهي، وتكامل نموه، عبر تراكم الخبرة والتجربة.
لكن هناك جهدًا آخر مطلوبًا من الفقيه، هو تبيين الأحكام الشرعية، وإصدار الفتاوى الموجهة لجمهور الأمة، ليعرف المكلّفون تشريعات الدين وأحكامه، فيما يتعلق بعباداتهم ومعاملاتهم في مختلف شؤون حياتهم، حيث يتعذر عليهم الوصول إلى معرفة الأحكام، فتكون وظيفتهم الرجوع إلى الفقيه والأخذ برأيه وفتواه.
واستجابة لهذه الحاجة يقوم الفقيه المتصدي للمرجعية والافتاء، بإصدار كتاب يتضمن فتاواه وآراءه في الأحكام الشرعية، ويطلق على هذا الكتاب عنوان (الرسالة العملية). أي أنها تعرض الفتاوى الشرعية التي يعمل وفقها المكلّفون الذين يرجعون في تقليدهم إلى آراء الفقيه الذي أصدرها.
ومن أشهر هذه الرسائل العملية في العصور المتأخرة رسالة (صراط النجاة) للشيخ مرتضى الأنصاري (توفي 1281هـ). ورسالة (العروة الوثقى) للسيد محمد كاظم اليزدي (توفي 1337هـ) ورسالة (وسيلة النجاة) للسيد أبي الحسن الأصفهاني (توفي 1365هـ). وفي هذه العقود الأخيرة كانت رسالة (منهاج الصالحين) للسيد محسن الحكيم (توفي 1390هـ) هي الأكثر تداولاً وانتشارًا، حيث اعتمدها عدد من الفقهاء المراجع مع تطويرها وتطبيقها على آرائهم وفتاواهم.
وكان من المفترض أن تكون لغة الرسالة العملية لغة واضحة مفهومة لعامة الناس، تخلو من المصطلحات العلمية التخصصية التي لا يدركون معناها، ومن العبارات الغامضة التي لا يسهل عليهم فهمها.
وأن يكون هناك تحديث مستمر لتبويب الرسالة العملية وتطوير لغتها، ليواكب التطور في واقع الحياة الاجتماعية، وفي لغة التخاطب والتفاهم بين الناس.
لكن يبدو أن الفقهاء المراجع يراهنون على الدور الوسيط لوكلائهم والعلماء المحليين في المجتمعات، ليقوموا بدور التوضيح والتبيين للفتاوى الواردة في رسائلهم العملية. وكأن الرسالة العملية مكتوبة للعلماء المبلغين لا لعامة الناس، وقد أصبحت جزءًا من المنهج الدراسي في كثير من الحوزات العلمية. مما يعني الإقرار بحاجتها إلى الشرح والتبيين لطالب العلم فضلاً عن الناس العاديين.
من هنا بادر بعض الفضلاء إلى تدوين كتب تشرح مصطلحات الرسالة العملية، وتفكّك الغموض في بعض عباراتها، كما قام بعض العلماء بإلقاء وتسجيل حلقات في شرح الرسالة العملية.
وبين يدي القارئ الكريم مبادرة رائدة على هذا الصعيد، حيث بذل الأخ الفاضل، الأستاذ الباحث، سماحة الشيخ علي المحرقي حفظه الله، جهدًا مشكوراً في شرح باب الوضوء من (منهاج الصالحين) الرسالة العملية المتداولة للمرجع الأعلى السيد علي السيستاني دام ظله .
ومؤلف رسالة (منهاج الصالحين) هو المرجع الأعلى في عصره السيد محسن الحكيم (توفي 1390هـ) ثم اعتمدها المرجع الأعلى بعده السيد أبو القاسم الخوئي (توفي 1413هـ) مع تطبيقها على آرائه وفتاواه، وعلى نفس المنوال اعتمدها السيد السيستاني حين تسنم المرجعية بعد رحيل السيد الخوئي.
وقد سلك الشيخ المحرقي في شرحه منهجية علمية، تبدأ بشرح المفردات الواردة في نص كل مسألة، والتي تحتاج إلى بيان وتوضيح من حيث اللغة والدلالة، ومن حيث المصطلح الفقهي، ثم يبين المقصود من المسألة بشرحٍ وافٍ ولغة واضحة، مضيفًا إلى ذلك عرض آراء سائر المراجع في ذات المسألة.
وأرجو أن يواصل المشوار لإكمال هذا المشروع المهم خدمة للفقه، وعونًا لطلاب الحوزات العلمية، وتيسيرًا لنشر أحكام الدين.
وسبق لي أن اطلعت على بعض كتابات ومؤلفات الشيخ علي المحرقي، والتي تدل على موسوعية ثقافته واطلاعه، وجدّيته في البحث، وإخلاصه للعلم والمعرفة، وانفتاحه على مختلف الاتجاهات في الساحة الدينية.
أسأل الله تعالى له المزيد من التوفيق، وأن يكثّر في أبناء الأمة أمثاله من الباحثين الواعين المخلصين.
والحمد لله ربّ العالمين.
حسن بن موسى الصفار
12 ذو القعدة 1444هـ
1 يونيو 2023م