ذلك الوجه المشرق بالإيمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين.
يعز عليَّ أن أتحدث مؤبّنًا هذا الرجل الكريم الأخ العزيز والصديق الوفي الحاج حسن الحبابي (أبو عبدالمنعم) تغمده الله بواسع رحمته. فإنّ له في قلبي مكانة ومحبة كبيرة، وقد حرمت من لقاءه منذ سنتين بسبب احترازات هذا الوباء كورونا. وكنت كلما هاتفني اتلقى منه دعوة ملحة للزيارة واللقاء كما هي عادته -رحمه الله-.
فكنت أعتذر إليه لأنني اتريث إلى أن تزول هذه الاحترازات، لكنه على عادته كان يشجعني (ما فيه إلا خير، ماكو إلا خير، الاحترازات موجودة والمجلس مفتوح). وبالفعل كنت متشوقا جدا للقائه، وحينما أصيب بالمرض كنت أمني نفسي أنني سأقوم بزيارته إن شاء الله بعد خروجه سالما من المستشفى من مرضه، لكن الأمر لله. أختاره الله تعالى إلى جواره والتحق بالرفيق الأعلى، أسأل الله تعالى له المغفرة والرحمة والرضوان.
لقد حرمنا من تلك البسمة الجميلة ومن ذلك الوجه المشرق بالإيمان، ومن ذلك الخلق الكريم الصادق الذي يتعامل به مع كل أحبته وكل زائريه وكل قاصديه. ولا نملك إلا أن نقول إنا لله وإنا إليه راجعون.
أبنائه، أنجاله الكرام سيكونون إن شاء الله هم الخلف الصالح من بعده والامتداد الطبيعي لمسيرته الاجتماعية. وبهذه المناسبة أحب الحديث عن ميزتين من شخصية هذا الرجل الكريم.
الميزة الأولى: هو التدين الواعي:
أبو عبدالمنعم -رحمه الله- لم يكن مجرد متدينا تقليديا، تلقى تدينه من وحي نشأته وبيئته، وإنما كان يتميز بالوعي وبالفهم. كان يجالس العلماء ويستمع الخطباء ولكنه كان يناقش، كان يفكر، كان يأخذ ويعطي. يفكر فيما يسمع، مصداقا لقوله تعالى ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [سورة الزمر، الآية: 18] وهذا يعني أنهم كانوا يصغون ويفكرون بما يستمعون من أقوال ويختارون الأحسن منها.
ولذلك حتى إذا بلغه رأي غير مألوف عن واحد من العلماء أو واحد الخطباء أو المثقفين لم يكن يتسرع في رفضه أو في اتخاذ موقف مناوئ لصاحب الرأي وإنما كان يفكر في ذلك الرأي ويناقش، وكان يتعامل مع أصحاب الآراء المختلفة بالاحترام. لم يكن كبعض حينما يسمعون موقفا اتجاه عالم او اتجاه خطيب او اتجاه مثقف رأسا يتقبلون ذلك الرأي المناوئ ويتخذون موقفا عدائيا. بالعكس كان يحترم ويقول هذا رأيه ولعل له دليل او لعل لديه برهان، نسمع دليله ونسمع برهانه.
وهذا كان معروفا في سيرة أبي عبدالمنعم رحمة الله عليه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المؤمن، وخاصة في هذا العصر. لأننا نعيش في عصر تطورت فيه المعارف وانتشرت فيه المعرفة وتعددت فيه الآراء. لم يعد فيه هناك فيه رأي مسيطر في ساحة المجتمع. المجتمع أصبح مفتوح بسبب تعدد وسائل الاعلام وتناقل المعلومات وتعدد الاجتهادات وتنوع الآراء والتوجهات. أصبح هناك آراء مختلفة، وما دمنا نعيش في زمن هذه سمته، فإن على الانسان ان يستخدم عقله لكي يميز بين الآراء. حتى في السلع المادية، سابقا كانت نوع واحد او نوعين من هذه الخبز مثلا أو مواد البناء. الآن يجد أنواعا مختلفة وبالتالي يكون له معايير ومقاييس وتختلف الأذواق.
وكذلك الحال في المجال الفكري والثقافي، أصبح الانسان يجد لديه الآن أفكار وآراء متعددة ومختلفة، وقد أعطاه الله عقلا، فعليه أن يستخدم عقله ويحاول الفرز بين الآراء وأن يختار الراي الذي يراه أحسن، وعليه أن يحترم أصحاب الآراء الذين يختلفون معهم. أنت لك ذوقا في الاختيار وذلك له ذوقه في الاختيار، وكذلك في المجال الفكري أنت لك معايير ومستوى من الفهم وغيرك لديه ومستوى من الفهم.
الحاج أبو عبدالمنعم رحمة الله عليه مع كبر سنه، وكان يفترض فيه أن يكون واحدا من الناس التقليديين في تدينه وفي تناوله للأفكار والمعارف الدينية. ولكنه كان متميزا على أقرانه بهذه الحالة. في غالب الجلسات يناقش ويطالب بالدليل. قد يتبنى رأيا ولكنه يستشكل، أنا أريد أعرف الفلسفة، السبب، الدليل وراء هذا الرأي.
وأئمتنا صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يشجعون شيعتهم على أن يكونوا أهل رأي، يستخدمون عقولهم، لا أن يقبلوا تلقينا من دون تفكير ومن دون وعي. أهل البيت عليهم السلام ينقلون لنا رواية عن نبي الله عيسى المسيح بن مريم -عليه السلام- يقول فيها (كونوا نقَاد كلام، خذوا الحق من أهل الباطل ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إذا بلغكم عن رجل حسن حال، فانظروا في حسن عقله، فإنما يجازى بعقله). وفي رواية أخرى عن الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام في حديث موثق عن الحسن بن الجهم قال: ذكر عند الامام لرضا أصحابنا وذكر العقل فقال: لا يعبأ بأهل الدين من لا عقل، فقلت جعلت فداك إن ممن يصف هذا الأمر قوما لا بأس بهم عندنا وليست لديهم تلك العقول، فقال الإمام -عليه السلام-: ليس هؤلاء ممن خاطبهم الله، إن الله خلق العقل وقال له أقبل فأقبل وقال له أدبر فأدبر، فقال وعزتي وجلالي ما خلقت شيئا أحسن منك، بك آخذ وبك أعطي). الحاج أبو عبدالمنعم -رحمه الله- كان أنموذجا جيدا ورائعا على هذا الصعيد.
أما الميزة الثانية: كرمه وسخاؤه
التي أقف عندها بسرعة، لأنها ميزة معروفة في حياته وسيرته. كان يفرح باستقبال الضيوف، كان يلح على معارفه وعلى أصدقاؤه بأن يقبلوا دعوته وأن يحضروا مجلسه. هذه سمة معروفة عنه، سمة الكرم، سمة الضيافة والسخاء. وأكتفي هنا بحديث مروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (السخاء شجرة في الجنة اغصانها متدلية في الأرض، فمن أخذ بعض من أغصانها قاده ذلك الغصن إلى الجنة).
نتفاءل ونأمل ونرجو أن الفقيد الراحل إن شاء الله من أهل الجنة، وأن يكون شفيعا لنا ولكل محبيه وعارفيه. رحم الله أبو عبدالمنعم وأسكنه فسيح جنته وأفاض عليه فضله وكرمه ووفق أبناؤه لكي يواصلوا مسيرته في الوعي وفي السلوك الاجتماعي الفاضل.
ولروحه وأرواح المؤمنين والمؤمنات نهدي ثواب الفاتحة.