سماحة الشيخ الصفار كما أعرفه

سماحة الشيخ العلامة حسن موسى الصفار «دامت توفيقاته».. عرفته منذ أن كنت صبيًّا، فقد كان فيضه يجري في جداول الشباب الأكبر منا سنًّا، ليصل إلينا محمَّلًا بالعلم والحكمة، ومن خلاله تعرفنا على الدين وأحببنا الالتزام به.

لقد رأينا في سماحته شخصية عالم الدين الذي هو كالطبيب يدور بطبه، لا ينتظر أن يأتيه أحد، بل كان لا يتردَّد في الذهاب إلى كل أحد.

كان يأنس به الصغير كما يتفاعل معه الكبير، لما لطرحه وأسلوب كلامه من جاذبية وتأثير.

استطاع بحكمته وصبره ومثابرته أن يخترق الحجب، ويتجاوز الحدود الضيِّقة، فلم يمنعه اختلاف المذاهب ولا تنوُّع القبائل من أن يتواصل مع الجميع.

وكان يحمل معه رسالته أينما ذهب، ولقد تعلَّمت منه أن أكون حاضر الذهن مستعدًّا للتحدُّث في أيِّ محفل أحضره، فلا أذهب إلى أيِّ مكان خاوي الوفاض، فلربما يتطلَّب الظرف أن أقول شيئًا.

نعم، لقد كان يحمل قضية ورسالة، ويرى نفسه مكلَّفًا مسؤولًا عن إصلاح المجتمع الذي يقيم فيه، انطلاقًا من الحديث الشريف: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».

ولقد كان يتحرَّك بموجب رسالته هذه، فأينما وجد من قد يستمع إليه، كان يبادر إلى التواصل معه، ويمدُّ إليه حبال المودَّة، ويسعى إليه حاملًا قبس الهدى والنور، طمعًا في هدايته، وكان في كل ذلك يتطلَّع إلى صلاح المجتمع بأكمله، من خلال صلاح أفراده.

ولا أنسى كما لا ينسى مجتمع اللواتيا بل والعجم أيضًا، الأيادي البيضاء التي مدَّها سماحته لنا في نهاية السبعينات من القرن الماضي، إذ غرس في أوساطنا بذور حب الدين والتعلُّق بمبادئه الحقَّة والالتزام بنهجه القويم، وتمخضَّ حراك سماحته آنذاك عن تأسيس مكتبة المعرفة في مطرح، ومن هناك بدأت الصحوة الدينية في مجتمعنا، لتقوده على طريق الهدى والصلاح وحب العلم والمعرفة.

ولم تقف مسيرة سماحته عند ذلك الحد، بل كان من ثمارها الطيِّبة أن نفر عدد من أبناء المجتمع لطلب العلم، فالتحق جملة منهم بالدراسة في الحوزة العلمية في الكويت أولًا ثم في إيران.

وبطبيعة الحال لم تكن فترة تواجد سماحته بيننا في مطرح ومسقط خلوًا من التحدِّيات والصعوبات، على مختلف الصعد، ولكن سماحته استطاع بحكمته الفائقة وسعة صدره أن يقابل جميع تلك التحدِّيات بلطف وكرامة، فلم يتعرَّض لأيِّ أحد بالسوء، ولم يقابل الإساءة بمثلها أبدًا، بل كان دائمًا يردُّ بالإحسان ويقابل بالأحسن..

لقد كان همُّه في إيصال رسالته يشغله عن الاهتمام بصغائر الأمور، ويمنعه من ردِّ الإساءة بمثلها، بل لعله كان يرى في تلك التحدِّيات فرصًا لتبليغ رسالته وإسماع صوته.

وقد كان سماحته من فرط اهتمامه برسالته وإدراكه لمسؤوليته تجاه الناس، دائم العمل، متواصل العطاء، كثير النتاج، على مختلف الصعد وفي مختلف الميادين.. بل كان يبتكر الساحات، فكان لا يتوانى عن التواجد مع الصغار والنساء ومع الشباب والكهول، ويتحدَّث إليهم جميعًا بما يتناسب مع توجُّهاتهم ومستويات إدراكهم.

وبذلك ألهم الشباب من الذكور والإناث السير نحو العلم والمعرفة، في إطار الالتزام الديني الواعي، والروح الرسالية المثابرة.

لقد كان سماحته يتميَّز بالجِدَّة والابتكار، في الأطروحات والرؤى، وفي الأسلوب والمنهج، ولم يكن يرضى لنفسه أن يكون أسير القيود الوهمية المصطنعة، التي تحول دون تبليغه رسالته وتحصره في فئة معيَّنة من الناس.

ولذلك نجده ينطلق مع الشباب المؤمن في رحلاتهم ويشاركهم الحياة، ليُعلِّمهم الدين الواقعي الذي لا ينفصل عن الواقع ولا يتنكَّر للحقائق، الدين الذي أراد له اللَّه سبحانه أن يكون منهج الناس في حياتهم الدنيا ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد.

كما نجده يصاحب الأطفال والفتيان، غير متعالٍ عليهم ولا معرض عنهم، بل يجلس معهم ويتحدَّث إليهم ويستمع منهم.

وإلى جانب ذلك نراه يسامر الكهول والكبار في السن، ويتحدَّث إليهم بحب ولطف، يشاركهم أفكارهم ويبادلهم الآراء.

لقد كان سماحته مثالًا حيًّا لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ ، إذ إنه لم يكن يجلس مكتوف اليدين أبدًا، فما أن يفرغ من عمل كان يبدأ عملاً آخر يُقرِّبه إلى غايته العظمى ألا وهي رضوان اللَّه تعالى عليه.

لقد كان يحمل في جعبته الكثير من الأفكار والمشاريع الراقية، وكان يبحث عمَّن يُعينه على ترجمتها إلى واقع ملموس، وبمجرَّد أن يميل ظنُّه إلى أنه عثر على الشخص المناسب أو الأشخاص المناسبين، كان يبادر إلى إلقاء خيوط الأفكار إليهم لينسجوا منها عملًا صالحًا نافعًا.

لقد علَّمني سماحته بسيرته فضلًا عن أقواله أن المؤمن بركة على من حوله، وأنه أينما وُضع ينفع، ولا ينتظر من أحد أن يسند إليه دورًا أو يُلقمه فكرة، بل يكون هو البادئ وهو المخطِّط وهو المنتج لكثير من الأعمال والأدوار والأفكار.

ثم إن سماحته مع كل ما كان يحمله من فكر وعلم ومعرفة في مختلف الميادين، كان يتزيَّن بالتواضع الجمِّ الذي قلَّ نظيره، فلم يكن يترفَّع على أحد أبدًا، ولم يكن ينفرد برأي، بل كان يشاور من معه ويشاركهم الآراء والأفكار.

من الواضح أن سماحته يؤمن بشدَّة بالعمل الجماعي، ويعتقد بقوة أن يد اللَّه مع الجماعة، وقد كان هذا هو منهجه الذي يسير عليه، وهذا ما تعلَّمناه من مدرسته المباركة.

لقد أكد لنا سماحته أن الدعوة إلى اللَّه ليست بضاعة خاصة بأحد من الناس، بل هي للناس كافة، ومن ثَمَّ فلا أحد يحق له أن يدَّعي أن الفضل كله يعود له في نشر الدين، بل لا أحد يحقُّ له أن ينفرد في الدعوة إلى اللَّه، لأنه لن يُحقِّق المطلوب مهما سعى.

لقد كان سماحته يؤمن بأن الإنسان ليس كالآلة، فلا يمكن أن نعامل الناس معاملة الآلات، ولا يصحُّ أن نعالج الناس كلهم بنفس ما عالجنا به واحدًا منهم، فلربما يصلح إنسانًا أمرٌ يضر غيره، ومن هنا كان لزامًا على الداعية الرسالي أن يُنوِّع أفكاره ويُجدِّد أساليبه، وهذا لا يكون إلَّا بمشاركة الآخرين ومشاورتهم والعمل معهم.

وممَّا تعلَّمناه من مدرسة سماحته في الدعوة إلى اللَّه سبحانه، أن ما يناسب اليوم من الأفكار والأساليب، بل ويكون ضروريًّا لا بد منه، قد يُصبح غير مناسب عند تبدُّل الظروف وتغيُّر الأحوال، فلكل زمان ما يناسبه، على أَلَّا يكون شيء من ذلك خارج دائرة ما أحل اللَّه سبحانه.

ولا يخفى أن هذا هو منهج أئمة أهل البيت  ؛ إذ إنهم أسَّسوا لما يُعرف بتنوُّع الأدوار ووحدة الهدف، كما يمكن ملاحظة ذلك بوضوح في سيرتهم العطرة «صلوات اللَّه وسلامه عليهم».

ولقد تجسَّد هذا المنهج الرسالي في حركة سماحته بصورة باهرة، فكان له الأثر الطيب والمردود الجميل على الدعوة الرسالية وعلى أتباعها والمتأثرين بها.

مخطئ من يغفل عن قانون «الإقبال والإدبار» في الحراك الاجتماعي، بل ويُوقع نفسه ومن معه في أشدِّ الضيق والحرج.. هكذا تعلَّمنا في مدرسة سماحة الشيخ حسن الصفار.

إن الحركة الدعوية الرسالية تسير على نهج رسمه أمير المؤمنين   بقوله: «إذا أردتَ أن تُطاع فاطلب المستطاع»، وعليه فإن تحميل الناس ما لا يحتملون، يُؤدِّي إلى نتائج وخيمة.. وهكذا رسم سماحته خطوات حركته الإصلاحية.

وهنا أقول دفعًا للبس: إن كلامي هذا لا يعني أن سماحته كان معصومًا أو فوق النقد، بل هو يُحفِّز للنقد الذاتي، كما أن النتائج في الحراك الاجتماعي لا تأتي دائمًا موافقة لما يريد الإنسان «تجري الرياح بما لا تشتهي السفن»، ومن هنا فإن الحراك الإصلاحي الرسالي قد تقع فيه الأخطاء هنا أو هناك.

إن الخطأ ليس جريمة، فاللَّه سبحانه لا يؤاخذنا عليه ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ . [سورة الأحزاب، الآية: 5]

لقد أشعل سماحة الشيخ حسن الصفار «حفظه اللَّه» في قلوب الكثيرين شعلة إيمان لا تنطفئ أبدًا، مهما تراكم عليها الرَّين، ومهما غمرتها الأفكار والتوجُّهات.

وسيبقى لسماحته صوت في قلوبنا يُنبِّهنا كلما ادلهمت علينا الغشاوات، وأرهقتنا التحدِّيات، لنسير في درب الإيمان باللَّه ونذوب في حبِّه سبحانه.

فجزاه اللَّه عنا أفضل جزاء المحسنين.

 

عالم دين وكاتب عماني