العلَّامة الشيخ حسن الصّفار رجل التسامح والحوار

 

تبدو الفاعلية بمثابة السِّمة الأساسية للأستاذ العلَّامة حسن الصّفار، بها تدرك وتوزن سائر السّمات، بل ذلك مفتاح شخصيته منذ امتطى صهوة المنبر في عمر مبكّر من حياته، كوسيلة في مخاطبة المجتمع وصياغة رؤية إصلاحية ما فتئت تنمو وتتطوّر، لتكتمل في مشروع متكامل حول الإصلاح والسِّلْم المجتمعي. المنبر هو وسيلة فعّالة، لا سيما في مجتمع يكون فيه الدين عنصرًا أساسيًّا ومكوّنًا للمجال العمومي. يكتسب الخطيب مهارة وفنّ إدارة المعنى وتشكيل الوعي المجتمعي. واكب الشيخ الصفار مراحل وأجيال متعدِّدة، وفي كل مرحلة كان يجتهد ليكون رائدًا في حركة الوعي في مجتمعه وأمته، ما يؤكد أنّه يواكب ثقافة عصره ويتكيّف مع واقع التمرحلات الجديدة.

وكانت هجرته المبكرة لأقطار مختلفة، مفتاحًا آخر في تجربته، ولا يخفى أنّ الهجرة تصقل الشخصية وتُغني محتواها وتختصر الزمن أمام صاحبها، لأنّه يطلّ على قومه من منافذ متعدِّدة، ويكون من هاجر قد اكتسب أعمارًا إضافية إلى عمره الأصلي، ذلك لأنّ ما يكتسب في يوم واحد في المهاجر يُضارع أعوامًا، فالأيام في المهاجر تعادل أعوامًا ممَّا نعدّه في الحضر.

تمنح الفاعلية والهجرة صاحبها عنفوانًا خاصًّا، وتفتح أمامه آفاقًا وتجارب شتّى، استوطن الشيخ الصفار عوالم مختلفة في الثقافة والاجتماع: القطيف، النجف، الكويت، مسقط، قم، دمشق... كما زار بلدانًا عديدة، في مهام دينية وتبليغية.

ولعل أهم مقوم للفاعلية هو الشعور بالمسؤولية. ولقد حافظ الشيخ الصفار على سمته ذاك، وتفاعل مع الواقع، وبادر إلى ما رآه أفضل وأنفع، وواصل خطابه الإصلاحي معتمدًا المنبر وسيلة لتعزيز الوعي وإثارة العقل، وهو في هذه المهمَّة لم يتوقَّف منذ عقود.

هناك زاوية أساسية في دراسة الشخصية، وهو ما يتعلّق بالتجارب الأولى، بالطفولة، وكيف بدت ملامح النبوغ لدى طفل يروي عنه صاحبه في مذكراته أنه لم يعش طفولة كسائر الأطفال، أي لم يأخذ حظّه من اللّعب كسائر الأطفال. بتعبير آخر، لقد وجد الشيخ الصفار نفسه في قلب المسؤولية ولمّا يبرح بعد عهد الطفولة. لقد تفجَّرت ملكاته في فنّ الخطابة، وطبعًا كان للمرحوم والده تأثير مباشر على الطّفل. تحمّل الشيخ الصفار مسؤوليات فاقت عمره، وهذا لعمري لا يعني أن الطفل لم يأخذ دوره في اللعب، بل إنّ جدّية الطفل في اللعب، هي من يمنح اللعب قيمة تربوية غير العبث، فالطفل الذي يواجه العالم وهو غير مستند إلَّا إلى فضول الاكتشاف والمعرفة، هو جادّ في كل شيء، ومسؤول عن تنمية نفسه بغريزة الطفولة وبراءتها. لقد تجسَّدت جدّية الشيخ الصفار وهو طفل في المنبر، فتحقَّق بذلك رسوخ ملكة الخطابة، ونمت قدراته في هذا الفنّ حتى بات حالة فريدة ومتميِّزة. ولقد استمعت لكثير من الخطباء، ووجدت لكل منهم ميزة، ولبعضهم بصمات تحدّدها النبرة والمحتوى وأسلوب الإقناع. وللشيخ الصفار بصمة صوتية خاصّة، ومحتوى غالبًا ما يكون تربويًّا واجتماعيًّا، وأسلوب في الخطابة يتمتّع بالنسقية، ويعتمد قواعد الحجاج المنطقي، فلقد تلقى الشيخ الصفار تكوينًا في علوم عقلية وشرعية، وأدرك من أصول المنطق واللغة ما هو حقيق بأن يمنح خطاب الصفار ميزة الخِطاب العالِم والمثقّف فضلًا عن الفقيه.

حينما ندرس الخطاب، لا بدّ من وضع مفاتيح أساسية، وفي مثال الشيخ حسن الصفار، نستطيع بيُسر مؤكّد أن نُحصي تلك المفاتيح لخطابه منذ عشرات السنين وهي: العقلانية، التسامح، الحوار، المعرفة، موضوعات تتداخل وتشكّل نسقًا متكاملًا، به ينتمي خطاب الشيخ حسن الصفار إلى صنف الخطاب العقلاني والإصلاحي. وقد قدّم مئات المحاضرات حول هذه المفاهيم، وتربّى على فكره جيل كامل من مريديه، في اقتدار خطابي مقنع، وفي تنزيل بلاغي بالغ الأثر، حيث اخترق المنبر بخطاب إنساني رفيع وبأسئلة فهم للدين لا نظير لها.

لا أعتقد أنّ شهادة الصديق مجروحة بالضرورة، بل هي شهادة القرب والمعرفة والفهم لتفاصيل يصعب أن يعرفها البعيد من خلال إطلالة على نصّ أو استماع إلى محاضرة، لكنني أعتقد جازمًا بأنّ الشيخ حسن الصفار كان خطيبًا متميّزًا بقدر ما تميّز به من اقتدار إداري واستقامة ائتمانية وحسّ قيادي. فهو شخصية تواصلية من الطراز الرفيع، بل أجزم - أيضًا - بأنّ خطابه ومواقفه وحواره هو مدرسة في علم التّواصل.

يأخذ الشيخ الصفار من الأفكار ما هو معتدل منها، ويُضفي عليه مزيدًا من الاعتدال من لونه الخاص وخبرته، فتزداد الأفكار تهذيبًا وإقناعًا، وكأنها أعيدت في مخبر لإعادة الإنتاج على قواعد تواصلية، ترقى إلى شكل فائق من البرمجة العصبية اللغوية.

عرفته كرجل المواقف والمبادرات، وكرجل أخلاقي تسبقه دماثته وتواضعه وحسّه الاجتماعي الكبير واهتمامه بالنّاس. وفي محطّات كثيرة، كان نبله مهمًّا، لأنّه كان يضفي الأمل على محيطه، كما يؤكد باستمرار أنّه قبل ذلك كله وبعد ذلك كله هو الإنسان. قد تجد من يختلف معه فكريًّا وفي مواقف عديدة، لكن لا أحد يستطيع أن يختلف حول سموّه الأخلاقي ورقيه التواصلي وحسّه الإنساني. ومن هنا وجب دراسة الإنسان في سياقه وشروطه، فهو رائد اجتماعي، يعيش كالسمكة داخل الناس، وداخل الناس هنا محيط من نخبة العلماء والمثقفين والاجتماعيين، فمشروعه داخل المجتمع وآراؤه مبنية على الاستشارات. وبهذه السّمة، تحرر الشيخ الصفار من حالة الاستفراد والتّوحّد، فتصالح مع نفسه ومحيطه، في سياق شديد التعقيد، يعزّز مفهوم الواقع المركب الذي يتطلَّب الكثير من الصبر في مواجهة الأزمات وإدارتها من دون كسر بليغ وجرح عميق.

أنجز الشيخ الصفار أعمالًا كثيرة ودشَّن مشاريع عديدة ذات طابع علمي واجتماعي، وهو على الرغم من كل ذلك يسكن بين الكتب، ويتابع آخر التطوُّرات في مجال المعرفة والثقافة والسياسة. وقد كتب أعمالًا تربوية وفكرية عديدة، تخص القيم والمفاهيم التي تحدّثنا عنها، وهي كتب تصلح في بناء الشخصية والقدرات، وتساعد على فهم الواقع بشكل مختلف، وتأويل النصوص بصورة تخدم السِّلْم الأهلي وتعزّز التواصل وتقضي على النزعات السّلبية. يصعب عدّ عناوين المكتبة التي قدَّمها الشيخ الصفار، كتابات تشتبك مع قضايا راهنة، وتقدّم حلولًا ضدّ التّطرّف والإرهاب والتّعصّب. لقد كان الشيخ الصفار يفكّر داخل المجتمع وبمقاصد اجتماعية وبوسائل أكثر عقلانية، حيث ساهم بشكل كبير في إرساء السِّلْم الأهلي والعمل في سياق معقد وشروط صعبة.

لعل أهمّ ما انطوى عليه خطاب الصفار، وصدح به على المنبر، تقويض خطاب التعصُّب والشّحن الطائفي، وهو موضوعة رئيسة في كلّ خطاباته في زمن مبكّر، قبل أن ينفجر العالم العربي والإسلامي بأشكال التّطرّفات، فلقد ساهم في التحسيس بهذا الخطر الذي يتهدَّد وحدة المجتمعات واستقرارها وسلمها وأمنها القومي. وكثيرة هي الأفكار التي طرحت يومها، بات لها معنى وافر اليوم، وهي أفكار راهنية بعد أن قضّ الإرهاب مضاجع الأمّة. قبل سنوات، وتحديد عام 2006، أجريت من خلال مجلة منبر الحوار المغربية حوارًا مع سماحته، وكان السؤال حول الأهمية التي يشغلها سؤال الوحدة والتقريب، فكان الجواب: «الوحدة الإسلامية تمثّل الضرورة والمنطلق لتجاوز الأمة حالة الاضطراب في علاقاتها الداخلية «...» كما تمثّل الوحدة الإسلامية أفضل تحصين لساحة الأمة من الاختراقات المعادية». واضح إذن، أنّ الرؤية الاستشرافية حاضرة في هذا النمط من الخطاب، ولقد رأينا بعد مرور خمس سنوات من هذا الحوار، اهتزاز الوضع العربي، والتصعيد الطائفي، وتفكك كيانات وتمزق النسيج الاجتماعي في بلدان كثيرة من العالم العربي والإسلامي، وازداد التّدخل واستغلال حالة الفوضى. لقد آمن الشيخ الصفار بالمواطنة، والحرية، والحقوق، والحوار، وكل المبادئ التي يتحقّق معها السلم والاستقرار الأهلي، ولم يقف عند هذا القدر، بل دعا إلى الاجتهاد والمبادرة والإيجابية في العمل والتنمية والقيم الحضارية، وهو بهذا لم يتخلّف عن رسالة الإصلاح والتحفيز اليومي والعملي لإعداد قاعدة من الوعي بضرورة النهوض بالمجتمع لتحقيق رسالة الإصلاح والتّقدّم.

بهذا يكون الشيخ الصفار قد قطع مشوارًا طويلًا في الدفاع عن تلك القيم، ليحتل مكانة كبيرة في خانة المصلحين الكبار في مجتمعه وفي محيطه العربي، وهو أنشط المصلحين الذين يمتلكون مشروعًا اجتماعيًّا، بل تبدو خطاباته دورة برنامجية في الّترقّي الثقافي والديني والاجتماعي والحضاري.

أستطيع إحصاء الكثير من السمات لدى هذه الشخصية المميّزة، فهو شخصية بالغة التهذيب، لإنسان راقي في المعاملة ومتحضّر في كل شيء، في سمته، وتدبيره الدقيق للوقت، ونبرة خطابه، وذكائه الاجتماعي. وهو ثروة رمزية لبلده وللوطن العربي، وعلم من أعلام الفكر والدين والمجتمع.

مفكر وباحث ومؤلف مغربي