الشيخ حسن بن موسى الصفار.. من مصابيح الفكر والمعرفة
يحتلُّ المفكِّرون بين أفراد المجتمع مكانًا مرموقًا، وفي مجتمعاتنا الإسلامية تزداد هذه المكانة وترتقي، وهذا كتاب اللَّه سبحانه يُجلُّ الذين يُفكِّرون في خلق السماوات والأرض، وقد ذكر سبحانه بأنه فصّل الآيات لقوم يتفكَّرون، وضرب الأمثال للناس في القرآن لعلّهم يتفكَّرون.
ويُعَدّ (الشيخ حسن الصفار) في طليعة المُفكّرين المعاصرين، فلا يكاد يترك شأنًا من شؤون الحياة إلَّا وأدلى بدلوِه فيه عن طريق: الخطابة، والكتابة، والتأليف، والتدوين.
ويكفي أنّك تتحدّث عن شخصية اعتلت منبر الخطابة ولم يتجاوز عمر صاحبها خمسة عشر عامًا، وقد حضرتُ له خطبة وهو في هذه السِّنِّ المُبكِّرة في (مسجد سليم المدني) ببلدتي (القارة) يتحدّث عن مأساة (فلسطين) التي هي مأساة المسلمين جميعًا، ولك أن تتصوَّر غلامًا يافعًا يعتلي منبرًا يعلو على الأرض قرابة مترين تشرئبُّ له أعناق المستمعين، وبينهم الطبيب والمهندِّس والمدرِّس وطالب العلم، ورجالٌ بلغوا خمسة أضعاف عمره آنذاك، يُصغون بكل تقدير ودهشة لـ(مَلِك الكَلِمة) و(فارس الخطابة).
وأتذكَّر حينها أن الحديث عن هذه الشخصية دامت أكثر من أسبوع بين من استمعوا له، والأمر اللّافت في شخصية (الشيخ حسن) أن فكره ليس محصورًا في العلوم الشرعية، بل تناولت كل ما يدور في هذه الحياة من أمور دينية، وسياسية، واجتماعية، وتربوية، وأسرية، وحقوقية، وإدارية وغيرها، ومؤلَّفاته التي بلغت ثلاثة أضعاف عمره المبارك الذي تخطّى الستين وقت كتابة هذه السطور، تناول فيها قضايا تتَّصل ببناء المجتمع، وأخرى تتَّصل بشؤون المرأة، وكتبًا تناقش قضايا الأسرة، وكتبًا يطرح فيها المهام والأدوار التي ينبغي لعالم الدين أن يضطلع بها، وتجد -أيضًا- بين هذه الكتب تحليلًا لجذور التطرُّف الديني ونقده، والدعوة إلى العقلانية والتسامح، كما تجد من بينها بيان الطريقة المُثلى للحوار والانفتاح على الآخر، وقد شرّفني -حفظه اللَّه- بإهداء مجموعة من كتبه القيّمة، ومن بينها كتاب: (مسارات في ثقافة التنمية والإصلاح)، الذي يقع في عشرة مجلدات، لا يقل الواحد منها عن سبع مئة صفحة، وكان قد سبق هذه المجلدات عشرة مجلدات أخرى تحمل عنوان: (أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع)، يتجلّى فيها فكر هذا الرجل الذي قلّ مثاله في عصرنا الحاضر، وقد كنتُ معجبًا بهذه الشخصية منذ عهد الشباب، وكنت أحرص على اقتناء الأشرطة (الكاسيت والفيديو) لمحاضراته حتى بلغ عددها المئات، وصار شهر رمضان في أسرتي وقتًا مناسبًا للحصول على هذا الغذاء الفكري المتنوِّع من شيخنا الفاضل.
وفي زيارتي للجمهورية العربية السورية مع أسرتي، كنت وأهلي حريصين على الاستماع إلى محاضراته هناك، وأتذكَّر أنه كان يناقش في تلك المحاضرات (حقوق الإنسان) -كما وضعتها هيئة الأمم المتحدة-، يتناول كل ليلة واحدًا من تلك الحقوق، يُلقي الضوء على أبعاده وكيفية السعي وراء تحقيقه وتطبيقه على الواقع المعيش، وفي كل ذلك يشدُّك أسلوبه وطريقة تناوله وطرحه لكل موضوعاته، وكل ذلك يُنبئ عن فكر ثاقب، ومعرفة عميقة، وثقافة واسعة، يبخل عليك الزمن بالحصول على مثلها من طريق أخرى.
وكان (الشيخ حسن) تسيطر على فكره مشكلة تفرُّق المسلمين بين سنيّ وشيعيّ وصوفيّ ونحو ذلك، وبذل جهدًا كبيرًا في سبيل القضاء على هذه الظاهرة، وكان يُجِلُّ ويُقدِّر كل من يحمل فكرًا في هذا الاتجاه -اتجاه وحدة المسلمين-. والشيء بالشيء يُذكر، فقد تبادر إلى ذهني وجوده في حفل تأبين عضو مجلس الشورى الأستاذ الدكتور (باسم بن أحمد آل إبراهيم) -رحمه اللَّه تعالى- الذي أقيم في قاعة الملك عبدالله للاحتفالات بالشرقية، وكان الشيخ في مقدمة الحضور لهذا التأبين، وتربطه علاقة صداقة بالمرحوم، وهما متفقان في هذا الجانب (وحدة المسلمين) تمام الاتفاق، وأذكر ان الشيخ يجلس في الحفل في الصف الأول مع المشاركين وبحكم زمالتي وعلاقتي المميزة مع الفقيد، فقد شاركت بقصيدة في المناسبة تحمل عنوان (متى تلد الأيام مثلَك باسمُ)، ولفت انتباهي ابتسامة الشيخ وإعجابه بالبيتين اللذين قلت فيهما:
فوا عجبًا من حرِّ فقدكَ أن تُرى
تُعانقُ أصحابَ الشّماغ العمائمُ
فليتكَ إذْ وحَّدتَ بين صفوفها
بقيتَ ليحيا في البلادِ التَّلاحُمُ
وربما كانت (الكناية) في البيت الأول عن (الوحدة) التي من صوَّرها معانقة أصحاب الشماغ لأصحاب العمائم، وموافقتها للخط الذي يسعى إليه الشيخ، ممَّا يجعله يلائم ذوقه وفكره الرفيع.
وقد يتّهمني البعض بالمبالغة في مجاملة الشيخ بهذا الكلام، واللَّه يعلم أنني مدرك لما أقوله، فالشيخ (حسن الصفار) من يعرفه معرفة حقيقية يعلم أنه عميقٌ في فكره، واسع في معرفته، متنوِّع في ثقافته واطِّلاعه، وقد يغفل الكثيرون عن نهم الشيخ في القراءة وحرصه على الاطِّلاع، وشوقه الشديد لقراءة كل ما يقع بين يديه من مؤلفات أو أبحاث -حتى وإن كانت خارج اختصاصه-، وقد أهديته قبل عام تقريبًا ستةً من مؤلفاتي الأكاديمية، وكلها أبحاث في النقد والبلاغة والأدب، قرأها في مدَّة لا تتجاوز شهرين على الرغم من محتوياتها المكثَّفة والمتعدِّدة، وهذا مؤشِّر حقيقي على قدرته الفائقة على تنظيم وقته المملوء بالأعمال الاجتماعية والكتابية إضافة إلى الحقوق الأسرية.
وإذا ما أردنا أن نقدّم خلاصة للفكر الذي يحمله (الشيخ حسن) والمدرسة التي ينتمي إليها في ذلك، يمكن لنا أن نستفيد من دروسه التي تحدّث فيها عن مواضيع لها صلة بهذا الجانب، ففي خطبته الأولى ليوم الجمعة الموافق 26/ 10/ 1430هـ (16/ 10/ 2009م) والتي جعلها تحمل عنوان: (الانتماء الفكري والانفتاح الاجتماعي) يقول فيها: «إذا كانت لك مدرسة فكرية، فينبغي أن تُعطي للناس انطباعًا جميلًا عن المدرسة التي تنتمي إليها، وأن توصل أفكارها للآخرين، وبانقطاعك وابتعادك عنهم، كيف ستوصل أفكار مدرستك؟ وكيف سيكون انطباعهم عنك؟ بالتأكيد سيكون انطباعًا سيِّئًا»، ويقول أيضًا: «على الإنسان ألَّا يربط بين قناعاته وإيمانه الفكري، وبين علاقاته مع المحيط الذي يعيش فيه، فهذا سوء تقدير، أنت كبشر تعيش مع الآخرين».
وفي ظنّي ليس هناك تعارض بين الانتماء الفكري والمرونة في العيش مع الآخرين وإن اختلفت انتماءاتهم الفكرية، فذلك يفتح بابًا لقبول الآخر، ويساعد على إيصال ما لديه من فكر إلى من يحيطون به.
وفي ختام مقالي هذا لا يسعني إلّا أن أقول:
إذا المرءُ أبدعَ في فكرهِ
يَهُبُّ الجميع لتقديرهِ
وهامُ الثّريا له ينحني
ويقتبسُ الناس من نورهِ
ويبقى الفَخَارُ له صاحبًا
ولا يسكتُ الدّهرُ عن ذِكْرِهِ
تُباهي (القطيفُ) به يعرُبًا
فذا (حسنٌ) بانَ عن دُرّهِ